مقالاتمقالات مختارة

الأمراض الستة للأمة التشخيص والعلاج

الأمراض الستة للأمة التشخيص والعلاج

بقلم د. أحمد بن باز

كثيراً ما يحتاط الناس من الأمراض الخطيرة التي تصيب الجسد عبر مراحله العمرية منذ الصغر إلى الشيخوخة، حيث يعمدون إلى أخذ الجرعات الواقية من التلقيحات الأساسية المضادة لهذا المرض أو ذاك، لكنهم لا يحتاطون للأمراض الحقيقية التي تنخر كيانهم وتطول القلب واللسان ومنه إلى القضاء على الجسد، فرداً كان أو أمة؛ لهذا نبّه الحق – جل وعلا – في كتابه إلى جملة الآفات والأمراض القلبية واللسانية، مبيّناً خطورتها عبر خطاب النهي الذي يفيد بالتوقف كما هو مبيّن في النصوص الشرعية، مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: ٧].

وقول الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم… الحديث»[1].

ومن ثم يتبيَّن أن هذه المعاصي التي جاءت بها هذه المحاذير القرآنية هي لا محالة ذنوب من عيار ثقيل، وشرها خطير؛ نظراً لارتباطها بحقوق الآخرين وكرامتهم، ولأنها متى وُجدت في مجتمع ما دمّرته وخرّبته وفكّكت وحدته وأضعفت قوته، ومعلوم أن وحدة الأمة على الطريق المستقيم هي مبتغى الأوامر الشرعية.

إن الله سبحانه وحده أعلم بحقيقة النفس البشرية، الحقيقة الكاملة؛ لذلك نبّه سبحانه المؤمنين إلى أمراض سادت في الجاهلية وأورام تنهدم بها أركان الأخوة الإيمانية، محذراً من مغبّاتها ونتائجها، وسورة الحجرات هي بحق سورة للأخلاق يقف معها المؤمن مع ما ينبغي وما لا ينبغي من السلوكيات والمعاملات.

هذه الأمراض التي سنتحدث عنها – بحول الله وقوته – كانت تسري في جسد الأمة العربية – الجاهلية مع ما كانت تُعرف به من شيم وخصال حميدة، لذا جاء الشرع الحكيم لتشخيصها وبيان سبل الوقاية منها، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ 11 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: ١١ – 12].

هذه مداخل الشيطان الستة، وأسلحته الفتاكة! وهي مزالق المتكلمين بغير موازين، وإنها لمن أخطر أسباب خراب العلاقات الاجتماعية أنى كانت، من الأسرة إلى الجماعة! وهي سبب فشل الإنسان في مد جسور المحبة والتواصل مع المؤمنين. وكلها آفات لسانية وقلبية[2]، وهي كما جاءت مرتبة في الآيات كالتالي: السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، والظن، والتجسس، والغيبة! فلا بد من الوقوف مع هذه الأمراض حتى يعلم المسلم حقيقة أمره منها.

إن حسن المعاملة بين عموم المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم؛ لذلك نبّه هذا النص القرآني إلى أمور من حسن المعاملة قد يغفلها المسلم، إذ النهي عن أمور يقتضي كما هو معلوم في علم أصول الفقه الأمر بأضدادها.

وهذه الأمراض التي أشارت إليها الآيات في هذه السورة العظيمة، تفسد الحياة، وتدمر العلاقات، وتؤجج نيران الفتن، وتهيئ البيئة للاقتتال، وتوقد الحرائق في حقول المحبة الخضراء! فما أعراضها وأوصافها إذن؟

المرض الأول: السخرية

السخرية: وهي الاستهزاء. جاء في مختار الصحاح سَخِرَ منه من باب طرب وسُخُراً بضمتين ومَسْخَرَاً بوزن مذهب.. وقال الأخفش سخر منه وبه وضحك منه وبه وهزئ منه وبه كل يقال والاسم السُّخْرِيَّةُ[3].

وحكمها في الشرع أنها حرام، بل يتبيَّن من التعليل الوارد في الآية المبالغة في النهي عن تحريمها.

نهَى – جلّ جلالُه – المؤمنين في مطلع هذا النص القرآني عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، واستصغارهم، وهذا حرام، بل هو كبيرة شنيعة! لأن الساخر المحتقر لغيره إنما يفعل ذلك لِمَا توهم من العلو لشخصه ولما وجد من الكبرياء في نفسه! والمتكبر لا يدخل الجنة ابتداء من مثقال ذرة منه لما فيه من رد الحق وغمط الناس واحتقارهم؛ لأنه ضرب من التأله والتجبر على الخلق! وتلك كلها أحاسيس تعمي صاحبها عن أن يرى للناس منازلهم!

المرض الثاني: اللمز

واللمز لغة: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وبابه ضرب ونصر، وقرئ بهما قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]، ورجل لَمَّازٌ مشدداً ولُمَزة بوزن همزة أي عيَّاب[4].

وفي الشرع: هو ذكر ما يعده الذاكر عيباً لأحد مواجهة، فهو المباشرة بالمكروه، ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفي يعرف منه المواجه به أنه يذم أو يتوعد.. وهذا يصب في قالب من يزدري الناس وينتقص بهم ويطعن فيهم ويعيب عليهم، وهو من أشنع الأخلاق وأسوئها!

وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز، وهذا الذي أوردناه هو المنخول من ذلك[5]. وقد توعد سبحانه فاعله بالويل في سورة الهمزة: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: ١]، وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: ١١]، معناه: لا تلمزوا إخوانكم المؤمنين، فهم بمثابة أنفسكم؛ لأن مجتمع المؤمنين كالجسد الواحد.

المرض الثالث: النـبز

والنبز في اللغة من: النَّبَزُ بفتحتين، وهو اللَّقب، والجمع الأَنْبَاز، ونَبَزَهُ أي لقبه، وبابه ضرب، وتَنَابَزُوا بالألقاب لقَّب بعضهم بعضاً[6].

وفي الاصطلاح هو: اللقب السوء والمكروه، وغالب الألقاب في الجاهلية كانت نبزاً، قال الشاعر:

أكنيه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقبه والسوأة اللقب

واللقب ما أشعر بخسة أو شرف، سواء كان ملقباً به صاحبه أو اخترعه له النابز له.

وقد خصص النهي في الآية بـ “الألقاب” التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خصّ بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم: أصَدق ذو اليدين؟ وقول المحدثين “الأعرج” لعبد الرحمن بن هرمز، و«الأعمش» لسليمان بن مهران[7].

وقوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: ١١] أي لا تتنادوا بالألقاب الساخرة! مما يطلقه بعضكم على بعض سخريةً وتنقيصاً واستهزاءً! فالنبز طعن أيضاً كاللمز، ولذلك قال تعالى بعدها مباشرةً: {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ} [الحجرات: ١١]، أي بئس ما كنتم تصنعون من التنادي بالأسماء الفاسقة والألقاب الشنيعة مما اعتدتم عليه في الجاهلية!

فذلك كله مما وجب على المؤمن أن يتبرأ منه ويتخلى عن بوائقه، من بعد ما أكرمه الله تعالى بالإيمان والتوبة والصلاح. ومن لم يتب من هذا الفعل الشنيع فأولئك هم الظالمون لأنفسهم، بما لطخوها من السيئات، والظالمون لغيرهم بما وقعوا فيه من الطعن في أعراضهم والحط من أقدارهم! وقد يكون أولئك المطعون فيهم ممن أحبهم الله وأعلى لهم الدرجات! وما يدريك؟ فربما طعنتَ على ولي حقيقي من أولياء الله؟ المحروسين بعين الله! و(كَمْ مِنْ أشْعَثَ أغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لاَ يُؤبَهُ لَهُ لَوْ أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ!)[8].

المرض الرابع: الظن السيئ

ما سبق ذكره من هذه الأمراض مشاحنات شنيعة يبوء بها اللسان، وينوء ببوائقها؛ سخريةً ولَمْزاً ونَبْزاً! لكنها جميعها ترجع إلى ما يقع بالنفس من أوهام وخواطر شيطانية، ما يَعْقِدُ القلوبَ على الإثم وظن السوء بالمؤمنين! ومن هنا يبدأ الخطر!

ذلك أن الظن السيئ إذا تشكل في قلب الإنسان جرّأَهُ على الطعن في الأعراض والحط من الأقدار! سخريةً ولمزاً ونبزاً! ولذلك فقد غاص الخطاب القرآني في أعماق النفس الإنسانية منبّهاً المؤمن إلى ضرورة التخلص مما ينعقد بقلبه من الظنون السيئة، وما يلقيه الشيطان إليه من خواطر سوداء تجاه إخوانه المؤمنين! فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12].

والظن هو التوهم، والمراد بـ “الظن” هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس. والمقصود بالظن السيئ: التهمة بالوهم، والتخون المتخرص للأهل وللناس؛ لأن بعض ذلك إنما يكون إثماً وظلماً!

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول محذراً من الظنون: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث! ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً!)[9].

والظن المأمور باجتنابه هو التهمة التي لا دليل عليها، واتهام الآخر دون دليل موقع في الإثم ومفضٍ إلى العقوبة، وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة، قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إن تَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَإنْ أَنتُمْ إلاَّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148].

ولما جاء الأمر في آية الاستدلال باجتناب كثير من الظن، علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة؛ لذلك
يجب تمييز الظن الباطل من الظن الصادق، حتى لا يعامل المسلم أخاه بما لا يليق من المعاملات السيئة، وتكمن خطورتها في كونها خفية لا يتفطن لها من عومل بها ليدفعها[10].

وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة، وليس التكليف باجتناب ما يحصل منه في خاطر الإنسان عن غير اختيار، وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا ظننتم فلا تحققوا”[11].

ينبغي للمؤمن أن لا يستسلم لوسوسة الشيطان في إساءة الظن بالمسلمين، بل عليه أن يلتمس لهم المعاذير والمخارج فيما يراهم أخطأوا فيه، بدل أن يتطلب لهم العثرات والعيوب،
وإذا لم يجد وجهاً واحداً للخير يحمله عليه فيجمُل به أن يتريث، ولا يستعجل في الاتهام، فقد يبدو له شيء عن قريب، وما أصدق ما قاله الشاعر هنا:

تأنّ ولا تعجل بلومك صاحباً

لعل له عذراً وأنت تلوم!

فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس، قد يصير علماً راسخاً في النفس، فتترتب عليه الآثار بسهولة، كما أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود؛ لأنه قد يوقع فيما لا يحد ضرره من اغترار في محل الحذر ومن اقتداء بمن ليس أهلاً للتأسي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقالت “رحمة الله عليك أبا السايب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله”: “وما يدريك أن الله أكرمه؟”. فقالت: “يا رسول الله ومن يكرمه الله؟”. فقال: “أما هو فقد جاءه اليقين وإني أرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي”. فقالت أم عطية: “والله لا أزكي بعده أحداً”[12].

وهي عند المالكية من الكبائر. وجعلها الشافعية من الصغائر 257:

فإذا تظاهر إنسان بمعصية، أو اشتهر بتعاطي الرّيَب، أو جاهر باقتراف السيئات، أو دخل مداخل السوء؛ فلا لوم على مَن أساء به الظن؛ لأن الظن هنا أصبح حقيقة، وما دام ذلك كذلك يكون بعضه من تمام الإيمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان»[13].

لهذا نجد في كتب السير والأخلاق أنَّ عمر بن الخطاب روي عنه أنَّه قال: (مَن دخل مداخل السوء فلا يلومن مَن أساء به الظن). وفي الحديث (… حَتَّى مَتَى تَرْعَوُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اهْتِكُوهُ حَتَّى يَحْذَرَهُ النَّاسُ)[14].

المرض الخامس: التجسس

إن الذي يتحدث عن هذه الأمراض ينبغي له أن يتحدث عنها مجتمعة مرتبة كما ساقها النص القرآني؛ نظراً لارتباط بعضها البعض وأن بعضها يتولد من بعض، فتتكاثر كأنها خلية سرطانية لا تعرف التوقف حتى تشل الأركان عن الحراك.

والتجسس في اللغة: نقول – جس الخبر: بحث عنه، وفحص. وتجسس الخبر: جسه. والجاسوس: من يتجسس الأخبار ليأتي بها (ج) جواسيس -: صاحب سر الشر. والناموس صاحب سر الخير[15].

وفي القرآن الكريم: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، أي: خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر لله عز وجل، أو: لا تفحصوا عن بواطن الأمور، ولا تبحثوا عن العورات.

لذلك جاء النهي في الآية {وَلا تَجَسَّسُوا}، وهو مرحلة تحصل بعد الظن السيئ لمحاولة التحقق من تلك الظنون والأوهام، فالتجسس بهذا الاعتبار هو محاولة التحقق الخفي والتتبع السري للعورات، لفضح ما قد صوّرته النفس الأمارة عن المؤمنين من عيوب خفيات!

فقد نهى النبي عن تتبع عورات المسلمين وبيّن العاقبة الوخيمة لذلك الفعل: «… من يتبع عورة أخيه يتبع اللهُ عورتَه! ومن يتبع اللهُ عورتَه يفضحه في جوف بيته!»[16].

المرض السادس: الغيبة

الغيبة لغة: البعد، والتواري. وشرعاً: – بإجماع المسلمين – هي ذكرك أخاك بما يكره[17].

وقد حذر منها المولى جلّ في علاه قائلاً: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].

نهى سبحانه عن إشاعة التصورات السيئة، والمواقف المنتقصة من أقدار الناس، سواء كان ذلك بحق أو بباطل! فلا يجوز تجريح مؤمن بغيبة أو بأي كلام جارح مما لو اطلع عليه لغضب منه! وهو ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم جواباً في الحديث الصحيح: قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: “ذكرك أخاك بما يكره!”. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: “إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ”[18].

ويلحق بالغيبة في المعنى السَّعْيُ بالنميمة بين الناس؛ لإفساد ذات بينهم! وهو ما ذمه القرآن بشدة في سياق آخر، وذلك قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ10 هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: ٠10 – ١١].

وقد جعل الله تعالى الغيبة في بشاعتها – وما يلحق بها من آفات – كأكل لحم الإنسان وهو ميت! ومعلوم أن النفس الإنسانية تعاف مثل هذا وتستقذره! بل تعاف حتى مجرد تصوره خيالاً[19]! فبيَّن الله – جل جلاله – أن التجسس والغيبة في بشاعتهما وشناعتهما أشد عند الله من ذلك! فقال تعالى: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].

ولذلك؛ فقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا وذاك أشد التحذير! فقد روى البراء بن عازب وأبو برزة الأسلمي – رضي الله عنهما – قالا: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العَوَاتِقَ في بيوتها، أو قال: في خدورها، فقال: يا معشر مَنْ آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَه! لا تغتابوا المسلمين!…)[20].

وعن أنَس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوهَهم وصدورَهم! قلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)[21].

  • الوقاية والعلاج:

وللسلامة من هذه الأمراض كلها دعا سبحانه المؤمنين إجمالاً إلى الدواء الشافي الكافي وقاية وعلاجاً، دعا إلى تقوى الله! وإنما تكون التقوى هنا بالحرص على تعظيم محارم الله من أعراض المسلمين، وصون شرفها وحفظ كرامتها! فقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].

فوجب بمقتضى ذلك على من وقع في شيء من هذه الكبائر الخطيرة؛ أن يسارع إلى التوبة إلى الله قبل فوات الأوان! عسى أن ينجو برحمة الله، ويفوز بغفرانه جل ثناؤه!

أما بالتفصيل فينبغي على المسلم أن يتربى على خلق التواضع، وعدم الخوض في عيوب الناس قولاً أو فعلاً، ومناداة الناس بأحب الأسماء إليهم، وإحسان الظن بهم ما لم يقفوا مواقف التهم، وعدم التحقق من الظنون السيئة، وعدم تتبّع عورات الناس، وحفظ الحواس عن هذه الأنجاس، وتجنب الغيبة ومجالسها، والاستغفار لمن وقعت عليهم الغيبة بختم المجالس بكفارة المجلس اقتداء بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، والموفَّق لهذا العلاج من حمل نفسه على الخلال الحسنة وابتعد عن هذه الأمراض.

:: مجلة البيان العدد 315 ذو القعدة 1434هـ، سبتمبر – أكتوبر 2013م.

[1] أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] انظر ص 244 مجالس القرآن للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله.

[3] انظر مختار الصحاح، الجذر: س خ ر.

[4] انظر مختار الصحاح، الجذر: ل م ز .

[5] انظر على سبيل التمثيل تفسير ابن كثير ج 4، ص 551 في تفسير سورة الهمزة. ذكر الطاهر بن عاشور في تفسيره يقول عما اعتمدناه أنه هو المنخول من ذلك الاضطراب.

[6] معجم: مختار الصحاح، الجذر اللغوي: ن ب ز.

[7] راجع تفسير الطاهر بن عاشور تفسير سورة الحجرات، ص 249.

[8] أخرجه الترمذي والضياء عن أنس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم 4573.

[9] أخرجه البخاري.

[10] الطاهر بن عاشور، ص 251.

[11] صححه الشيخ الألباني في الصحيحة 3942.

[12] انظر تفسير الطاهر بن عاشور ص 253 .

[13] أخرجه أبو داود (صحيح الجامع 5965).

[14] أَخْرَجَه الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ رِجَالَهُ مَوْثُوقُونَ وَأَخْرَجَهُ فِي الْكَبِيرِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ.

[15] القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً للدكتور سعدي أبوجبيب: ص 64، ط 1408 ه‍ = 1988 م، دار الفكر، دمشق – سورية.

[16] أخرجه الأربعة عن البراء بن عازب، وأخرجه أحمد وأبو داود عن أبي برزة الأسلمي، كما أخرجه الترمذي عن ابن عمر، وصححه الألباني: حديث رقم 7984 في صحيح الجامع.

[17] القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً، ص 281.

[18] أخرجه الإمام مسلم بسنده من رواية أبي هريرة.

[19] لمزيد من التصوير البياني حول هذه الآفة ص 524 مجالس القرآن للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله.

[20] أخرجه أحمد (4/420، رقم 19791)، وأبو داود (4/270، رقم 4880)، والبيهقي (10/247، رقم 20953). وأخرجه أيضاً: ابن أبي الدنيا في الصمت (ص 121، رقم 168)، وأبو يعلى (13/419، رقم 7423)، وصححه الألباني في المشكاة، 5044.

[21] أخرجه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني. حديث رقم 5213 في صحيح الجامع.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى