الأمة.. بين المقاومة والتطبيع مع الصهاينة
مع أن القتال يبدو مكلفاً ويحتاج إلى نفقات، فإن بناء الجبهة الداخلية وتوافقها على المبادأة يجعل العدو يقلل من عدوانيته وغطرسته وعجرفته، ويحسب حساباً لرد الفعل، فلدينا جنود مخلصون إذا أتيح إعدادهم جيداً، وقادرون بفضل الله أن يوقفوا العدوان، ويحرزوا مكاسب لا بأس بها، صحيح أن العدو يمتلك سلاحاً وإعلاماً واستخبارات تمنحه تفوقاً كبيراً، وتجعله يمتلك زمام المبادأة بالهجوم دائماً، ولكننا نستطيع بالإيمان بالله إعداد ما نستطيع من قوة، وأن نجعله يدفع ثمن جرائمه، وهو ما حققته المقاومة الإسلامية في غزة، ومن قبل في حرب رمضان الخالدة التي شرفت بالمشاركة فيها.
لاحظت أن انتشار مقاومة «التطبيع» طمس المصطلح الحقيقي الذي ينبغي رفعه في كل مكان، وهو «الجهاد» -المصطلح الإسلامي العريق- والمؤسف أن مصطلح الجهاد صار سيئ السمعة لدى جهات عديدة داخلياً وخارجياً، بعد أن نجح الإعلام المعادي للإسلام والأمة بربطه بالإرهاب، وما أدراك ما الإرهاب في مفاهيم الغزاة المعتدين والموالين لهم هنا وهناك؟!
شارك العدو الصهيوني لأول مرة في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة عام 1981م بأوامر علوية، فأثار حفيظة رواد المعرض، وقاموا بالتظاهر ضد المعرض واقتحموا الجناح الصهيوني الذي أغلق بعد أيام قليلة من افتتاحه إلى الأبد، وصحب ذلك اعتقال عدد كبير من الشباب، واستطاع الشيوعيون وأشباههم -وهم يسيطرون على الإعلام والصحافة والثقافة ورئاسة معرض الكتاب طوال السنوات منذ إنشائه- توظيف مصطلح «مقاومة التطبيع» بدلاً من «مقاومة الاحتلال»؛ لأن الشيوعيين أعلنوا من خلال أحزابهم في الأربعينيات من القرن الماضي تأييد قيام الكيان الصهيوني في عام 1948م، واستنكار تدخل الجيوش العربية لحماية الشعب الفلسطيني! ونسي الناس مصطلح الجهاد، أو فُرض عليهم نسيانه، ومع ذلك نهضت المقاومة من جديد في صور الانتفاضة ومنظمات المقاومة الإسلامية التي تشكلت في قطاع غزة والضفة لتقضّ مضجع العدو وتجبره على ترك القطاع ومستعمراته والخروج منهزماً ذليلاً، وإن كان يعوّض ذلك بالقصف الجوي الإجرامي بـ «الفانتوم» ضد منازل القطاع ومساجده ومستشفياته، وقد استطاعت المقاومة المسلحة في القطاع مع الحصار والتضييق إزعاج العدو وحرمانه من النوم، وخاصة عندما يستخدم طائراته المؤذية.
التطبيع الفني والأدبي
وقد أثير مؤخراً موضوع التطبيع بكثافة نتيجة لقيام بعض الجهات والعواصم العربية بتمويل مسلسلات تلفزيونية، ودفع عدد من أتباع السلطات إلى زيارة الكيان الغاصب واستقبال مسؤولين صهاينة في عواصم عربية، وترديد مقولات وكتابة مقالات تدعو إلى التطبيع مع العدو، والمناداة بالتخلي عن قضية فلسطين، وتوجيه النداء إلى رئيس وزراء العدو الحالي ليقضي على بقايا الفلسطينيين قضاء مبرماً؛ لأن أرض فلسطين -في زعم الكاتبين- حق للغزاة اليهود، وسبق ذلك كتابات تشكك في قدسية المسجد الأقصى وتنكر الإسراء إليه، وتهوّن من شأن القادة المسلمين الذين حرّروا القدس من قبضة الصليبيين والمغول، فضلاً عن إهالة التراب على التاريخ الإسلامي والصحابة وقادة الفتوح الإسلامية، وطالب أحدهم باعتذار المسلمين المعاصرين عن هذه الفتوح! فضلاً عن العمل على تحسين صورة اليهودي في المنظور العربي والإسلامي؛ ليكون اليهودي المسالم الطيب الذكي المتحضر الذي يبحث عن التعايش؛ لأن هناك في البلاد العربية من يضطهده بسب تفوقه ونبوغه!
ومنذ سنوات ليست بعيدة، ظهرت أعمال أدبية وخاصة في الرواية تُقدّم اليهودي في الصورة المحسّنة مقابل المسلمين الأجلاف الإرهابيين المتعصّبين، الذين أرغموه على ترك وطنه في البلاد العربية والإسلامية، ونهبوا ممتلكاته وثرواته، فلم يجد مفراً من اللجوء إلى الكيان الصهيوني، وبالطبع لا تشير الروايات إلى الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي الذي يهضمه اليهود الغزاة، ولا إلى المذابح والجرائم التي اقترفوها في حق الشعب الفلسطيني وأبناء الأمة، ثم يتجاهلون أن هذا اليهودي ذهب في الحقيقة إلى الكيان الصهيوني بدافع عقيدته التي تفضّله على العالمين كما يزعم، وحَمَل السلاح وقاتل الذين احتضنوه وآووه وأطعموه مئات السنين واحتل أراضيهم، ولم يجد غضاضة حين أسر بعضهم في القتال أن يسومهم سوء العذاب ويقتلهم صبراً ويدفنهم أحياء في رمال سيناء (روح شاكيد مثالاً)!
ومن المفارقات أن الذين ينادون بالتعايش مع اليهود الغزاة لا يطالبون بالتعايش مع أشقائهم المسلمين في البلاد العربية والإسلامية.
إن من يتابع صحف بعض الأنظمة التي توحي بالتطبيع وتدعمه سرّاً أو علناً، أو تمارسه على أرض الواقع، يجد أنها لا تتسامح مع الفريق الأكبر من المسلمين في مجتمعاتهم؛ حيث يرى هذا الفريق أن الإسلام هو مستقبل المسلمين وعزهم ومجدهم وكرامتهم، وترى هذه الصحف، وما يسير على نهجها من إذاعات وقنوات وأجهزة ثقافية وتربوية وترفيهية، ضرورة شيطنة هذا الفريق الإسلامي الكبير وتجريمه، وتطالب بنبذه وحصاره وحرمانه من حق المشاركة في مصير وطنه وبلاده، بالإضافة إلى تلويث شرفه وسمعته، بل تخوينه، فجريمته أنه مسلم يؤمن بالإسلام عقيدة وهوية تستوعب التاريخ والجغرافيا والتراث، ولا تفرط في المقدسات وأرض فلسطين.
أليس من المنطقي التعايش مع الأشقاء قبل الغرباء، وتطبيع العلاقات مع الشعوب قبل الغزاة والمعتدين؟
انحطاط حضاري
إن التطبيع مع العدو يمثل علامة مؤكدة على الانحطاط الحضاري الذي وصلت إليه بعض القوى وهي تستسلم ببساطة وسهولة لإرادته العدوانية.
ومن الطريف أن مصطلح «التطبيع» ظهر لأول مرة لدى الصهاينة خاصاً بيهود المنفى؛ فقد عدّتهم الحركة الصهيونية شخصيات طفيلية شاذة، منغمسة في المجالات الفكرية، والغش التجاري، والأعمال المشينة مثل الربا، والدعارة، والقوادة.. ونحوها، وأرادت الصهيونية تطبيع اليهود ليكونوا مثل باقي الشعوب، وقد اختفى هذا المفهوم للمصطلح مع إنشاء الكيان الصهيوني بسبب حاجته لدعم يهود العالم له، وظهر ثانية مع «كامب ديفيد»!
والسؤال الآن: ما التطبيع؟ هناك تعريفات عديدة، منها:
«التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصاً للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) ومحتلين صهاينة (أفراداً كانواً أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني.
وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية، ويستثنى من ذلك المنتديات والمحافل الدولية التي تعقد خارج الوطن العربي، كالمؤتمرات أو المهرجانات أو المعارض التي يشترك فيها صهاينة إلى جانب مشاركين دوليين، ولا تهدف إلى جمع الفلسطينيين أو العرب بالغزاة الصهاينة، بالإضافة إلى المناظرات العامة، كما تستثنى من ذلك حالات الطوارئ القصوى المتعلقة بالحفاظ على الحياة البشرية، كانتشار وباء أو حدوث كارثة طبيعية أو بيئية تستوجب التعاون الفلسطيني مع الاحتلال» (الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية للعدو، بتاريخ 21/11/2007م).
وفي بيان صادر عن مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة، بتاريخ 23 مايو 2017م: التطبيع في المفهوم الجاري هو إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني وأجهزته ومواطنيه كما لو أنّ الوضع الراهن كان وضعاً طبيعياً، ويعني بالتالي تجاهل حالة الحرب القائمة، والاحتلال والتمييز العنصري، أو هي محاولة للتعتيم على ذلك أو لتهميشه عن قصد.
في دولة فلسطين، بالرغم من وجود السلطة الفلسطينيّة، ما زال الفلسطينيّون يعيشون حياتهم تحت احتلال عسكريّ، يشمل كلّ حياتهم اليومية؛ فهناك المستوطنات وبناء الطرق، وشرعنة الأبنية الصهيونية على أراض فلسطينيّة خاصّة، والمداهمات المتكرّرة للبيوت، والاغتيالات، والاعتقالات التعسّفية، والعقاب الجماعيّ، ومصادرة الأراضي، وهدم البيوت، والحواجز العسكريّة التي تحدّ من حرّيّة الحركة وتضع العديد من العقبات أمام النمُوّ الاقتصادي، ومنع لمّ شمل العائلات، الذي هو امتهان لحقّ طبيعيّ لأعضاء العائلة في أن يتواجدوا معاً.
من جهة أخرى، فإنّ الحياة اليوميّة في الكيان الغاصب أو فلسطين تقتضي بعض العلاقات مع سلطات الاحتلال، ومع ذلك؛ فالمؤسَّسات والأشخاص الذين يقومون بهذه العلاقات يجب أن يظلّوا واعين أنَّ الوضع غير طبيعي ويحتاج إلى تصحيح، فلا يجعلوا الوضع غير الطبيعي وكأنه أصبح أمراً طبيعياً.
وهناك من يختصر تعريف «التطبيع السياسي والاقتصادي» بإعادة صياغة العلاقة بين بلدين بحيث تصبح علاقات طبيعية (خالد أبو شرخ، مخاطر التطبيع، الحوار المتمدين، العدد (3526)، 25/10/211م).
ويشرح صاحب التعريف مفهوم العدو للعلاقات الطبيعية في واقعه الراهن؛ حيث يصر على أن التطبيع السياسي والاقتصادي بينه وبين الدول العربية، هو شرط أساسي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، ولكن يوجد هنا خلل أساسي في المفهوم وفي المحاولة، فالتطبيع السياسي والاقتصادي يجب أن يتم بين بلدين طبيعيين، وهو الأمر الذي لا يتوفر في الكيان الصهيوني الغاصب، بسبب شذوذه البنيوي، حيث لا يزال تجمُّعاً استيطانياً، وليس دولة المواطنين الذين يعيشون داخل حدودها، فقانون العودة الصهيوني يعطي الحق ليهود العالم في الهجرة إلى فلسطين المحتلة، بوصفها وطن أجدادهم، بعد أن تركوها منذ ألفي عام، وينكر هذا الحق على الفلسطيني الذي اضطر لمغادرتها منذ بضعة أعوام، كما يتبدى الشذوذ البنيوي في علاقة الكيان الاحتلالي الغاصب بالمنظمة الصهيونية وبالوكالة اليهودية، فهي علاقة شاذة ليس لها نظير في الدول الأخرى، والكيان الغاصب هو الوحيد في العالم الذي يتمتع بعضوية مشروطة في هيئة الأمم المتحدة، وشرط قبوله في المنظمة الدولية هو عودة اللاجئين الفلسطينيين، وهو الأمر الذي لا توجد أي مؤشرات على احتمال تنفيذه في المستقبل القريب.
هناك اتفاق في التعريفات السابقة وغيرها على المعنى العام للتطبيع، واستثناء الحالات الضرورية التي تتعلق بالحياة اليومية والظروف الطارئة المرتبطة بحياة الشعب الفلسطيني.
إن التطبيع المجاني مع العدو يمثل خطورة في الحاضر والمستقبل، تتجاوز الشعب الفلسطيني إلى الشعوب العربية الأخرى؛ فالعدو يضع شعاراً معروفاً ومرفوعاً في «الكنيست» يتكلم عن الدولة الصهيونية من النيل إلى الفرات، وتشمل دمشق وبغداد والحرمين الشريفين وأم الدنيا، قبيل عام 1948م لم يكن هناك في العالم العربي من يصدق أن يقام كيان صهيوني يعترف به العالم، وقبيل عام 1967م لم يكن هناك عربي يصدق أن تكون القدس وبقية فلسطين وسيناء والجولان والأغوار والمزارع في قبضة العدو، وقبل عام 1977م لم يكن أحد يصدق أن العدو سيهيمن سياسياً ودبلوماسياً واستخباراتياً على العرب جميعاً ويأمر وينهى، ويقرر من يحكم أو لا يحكم في بعض العواصم العربية، وقبل انتكاسة الثورات العربية (الربيع العربي) لم يكن من يصدق أن يصف قادة العدو بعض المسؤولين العرب بالكنوز الإستراتيجية والأصدقاء الطيبين، والقادم مجهول!
المقاومة الشاملة
على الأمة أن تقاوم العدو بالمعنى الكامل الشامل، وليس الاكتفاء بمقاومة التطبيع، وهذا يقتضي بعض الأمور، أبرزها:
أولاً: استعادة الوعي بطبيعة العدو وتاريخه، وخطواته التي بدأت في القرن التاسع عشر بتفكيك دولة الخلافة وتمزيق المسلمين، عن طريق التحالف مع الأرمن والغرب الاستعماري والقوى الحزبية السرية والعلنية مثل الماسون والشيوعيين، واستغلال التسامح الإسلامي في تدبير المؤامرات وإسقاط من يعارضهم (السلطان عبدالحميد)، وتجنيد العملاء، وزرع الفتن في كل مكان تصل إليه أقدامهم وأيديهم ونفوذهم.
ثانياً: يجب البدء في التخطيط طويل النفس في شتى المجالات وخاصة «جمع المعلومات»، وتحييد القوى المناصرة للعدو في الغرب، وبعث المقاطعة الشاملة من جديد، والنهوض بالتعليم والتصنيع والزراعة والاكتفاء الذاتي في الغذاء والدواء والسلاح.
ثالثاً: الإيمان بأن المواجهة الشاملة قادمة، وسوف يفرضها العدو الذي يلتقط أنفاسه كلما أتحنا له أن يكون احتلاله آمناً مطمئناً، بيد أن المواجهة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية قائمة بالفعل ويجب خوض معاركها بقوة واقتدار، ولدينا العقول وكثير من الإمكانات التي تحقق ذلك.
رابعاً: ينبغي أن نستدعي دائماً الشخصية المسرحية الشهيرة «شايلوك»، عند التفاوض الرسمي مع العدو، فلا يأخذ شيئاً دون مقابل، تصور لو أن اللقاءات التي تتم بين عرب وصهاينة رسميين أو غير رسميين، واشترط الجانب العربي مقابلاً لها مثل إطلاق سراح بعض الأسرى الفلسطينيين، إزالة الحواجز الأمنية، رفع الحصار عن غزة.. وللأسف ستجد من يخبرك أن الطرف العربي هو الذي يستجدي لقاء العدو!
خامساً: آن الأوان لليساريين وأشباهم ألا يشغلونا بمصطلحات وأفكار لا تخدم إلا العدو، مثل الفرق بين اليهودية والصهيونية، والحرب الدينية، وضحايا النازية، وغير ذلك من ثرثرة غير مجدية، لا تمنع القصف الذي يقوم به العدو عبر طائراته وصواريخه ودباباته، ولا تفك حصاره عن الفلسطينيين، أو تصفيتهم في كل مكان أو تهويده للمقدسات والاستيلاء على بيوت القدس وهدم منازل أهلها بحجج واهية.
سادساً: رفض الأمر الواقع والعمل على تغييره، بكل الوسائل؛ فالذين يتعللون بالأمر الواقع لا يريدون العمل، ومثلهم الذين يقولون: إن الكيان الصهيوني بلد صغير، لا يمكن أن يشكِّل خطراً ثقافياً أو اقتصادياً على العالم العربي، فهذا كلام غير صحيح؛ لأن إنجـلترا في القرن الماضي، وهـي الجـزيرة الصغيرة، حكمت إمـبراطورية لا تغيب عنها الشمس!
المقاومة هي المنقذ من الاحتلال.
(المصدر: مجلة المجتمع)