الأمة بين الاستلاب المعرفي والتفريغ الذهني!
بقلم أحمد الهواس
إفراغ عقول الأمة ولا سيما الناشئة منها عمل خبيث مستمر منذ عقود، وقد بدأ فعليًا بعد تقسيم الأمة تحت الاحتلالات الغربية، وبداية نشوء الدولة الوطنية حيث بات الدين “حصة” في المدرسة في كتاب “مختار ومجتزأ” فلا يدرس الطالبُ القراءات أو العبادة أو التفسير وكذلك العقيدة وعلم الحديث فضلاً عن غيابٍ شبه كامل لعلوم العربية وهي مفتاح المسلم نحو التفقه في دينه.
فبعد هذه التربية الذهنية، وغياب التحصين المنزلي، فضلاً عن حرب الحكومات العربية على الدين الإسلامي في العقود الأخيرة من القرن الماضي جعل كثيرًا من الأسر تشجع أبناءها على الأفكار القومية والعلمانية والليبرالية والأممية وبقية الأفكار، أو التحلل مقابل ألاّ يقتربوا من الخطر الداهم! وهذا أمرٌ مدبّر ولم يكن عبثيًا أو أنّه ظهر فجأة في الدول العربية، فقد جاء في نشرة الشرق الأعظم الفرنسي 1923:
“على الماسونية أن تدعمَ كل أولئك الذين يُناهضون الدين، ويقفون على طرف نقيض منه، من أمثال: الاشتراكيين والديمقراطيين ودعاة حقوق الإنسان، والجمعيات المتحررة”
هذا ما جعل غالبية الشباب “مفرّغين” ولديهم قابلية الامتلاء بأفكار أخرى حتى ولو نُسبت للإسلام، لذلك استساغوا مصطلحات مشوّهة لا وزن لها ولا قيمة مثل “الإسلام المتشدد، الإسلام المتطرف، الإسلام المعتدل، الإسلام السياسي” ولولا حالة التفريغ التي تحدثنا عنها لما تمكنت تلك المصطلحات من ألسنتهم بل وذهنيتهم، ومن هنا بدأت مرحلة أخرى من التخريب حيث يُرمى لهم بفكرة “سخيفة لا قيمة لها” من خلال ما بات يُعرف بالمفكرين الإسلاميين، وهو مصطلح أُطلق على أناس لا يُحسبون على الفرعين المهمين في الإسلام “الفقه والحديث” وهذا الصنف بدأ مع العقد الرابع من القرن المنصرم، وقد بدؤوا أولاً مع العلوم الشرعية قبل أن ينتقلوا لدراسة نتاج الغربيين أو الدراسة في جامعاتهم، وقد عُرف عنهم “الكلام من الرأس” وهو لا يشبه الفلسفة أو علم الكلام الذي ألفه المسلمون وانقسموا فيه بين فلاسفة مشائين ساروا على درب فلاسفة اليونان وفلاسفة مسلمون حاولوا أن يؤسسوا لفلسفة إسلامية، ويردوا على الفريق الآخر.
هذا الصنف – أي المفكرين – كانوا ممن تأثروا بالعلوم الغربية كما أسلفنا، وأرادوا طرح مشكلات المسلمين من خلال الفكر دون الاستشهاد بالقرآن أو السنة، ولا شك أن بعضهم قد تألّق وأثّر في الناس، ولكن استسهال هذا الأسلوب لا سيما في عقود الصحوة الإسلامية التي كانت في نهاية العقد السادس وما تلاه من بعض الذين لم ينالوا حظاً من العلم الشرعي ولم يتدرجوا في ذلك كحال من سبقهم من المؤسسين قد ترك الباب مفتوحًا لكل من هبّ ودب، ولكي يغطوا على قلة علومهم الشرعية استخدموا أسلوب “الثرثرة الكلامية” ونتيجة العقم الذي عليه المجتمعات العربية فقد وجد هؤلاء ضالتهم في العوام، والعوام هنا ليس المقصود بهم ممن لم يتعلموا ويدرسوا في الجامعات بل بالذين درسوا “حصص الدين” كما أسلفنا واطلعوا على الأفكار الوافدة ولم يدرسوا علوم دينهم.
هذه الأمور فضلاً عن حاجة الإنسان بطبعه “للدين” مقابل ما أثاره بعض الجهلة ممن يغطّون جهلهَم بصفة مفكر، فضلاً عن طبيعة الإسلام الصلبة بأنّ العلماء يتوارثون، ولا ينقطع العلم بينهم، ومع ثورة الاتصال الهائلة فقد بدأ جيل جديد من الشباب الذين تربوا على العلماء في كشف زيف كثير ممن تغلّفوا باسم “مفكرين” وهنا كان لا بدّ من طعنةٍ جديدة للإسلام حيث انقلب هؤلاء فجأة إلى “مجددين” وهم كما أسلفنا لم ينالوا حظّاً من العلوم الشرعية، وكذلك انتقل معهم المتأثرون بهم إلى الجانب الآخر! وهذا أيضًا مردّه إلى الأسباب التي ذكرناها، ولكي تكتمل صورة التجديد كان لا بدّ من مراحل يعمل عليها هؤلاء أوبما تطلب منهم المؤسسات التي ترعاهم حيث يبدأ الأمرُ أولاً برفض كتب الفقه بذريعة أنّها تراث لا قيمة لها بل هناك دين الفقهاء الذي ولّد العنف وهو لا علاقة له بالقرآن ولا السنة! ثم يأتي البند الثاني التشكيك بالسنة النبوية، وأنّها ملفقة في غالبيتها فإذا ما تمكنوا من ذلك انتقلوا للبند الثالث الاكتفاء بالقرآن، وهذا يعني أنّ القرآن كتاب لكل مسلم انتقِ منه ما تريد وفسّر بما ترغب!
وصدق رسول الله: “يوشك أن يقعد الرجل متكئًا على أريكته، يحدّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله.”
يدعو كثيرٌ من دعاة التجديد إلى إعمال العقل، وهي دعوة تبدو في ظاهرها صادقة، وفي باطنها دعوة لتخريب العقيدة، وكأن ثمة تعارضًا بين الدين والعقل، وقد سبق لابن تيمية أن ردّ على ذلك في درء التعارض:
ﻛﻞ ﻣـﻦ ﻗﺪّﻡ ﻋﻘﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻧﺼـﻮﺹ ﺍﻟﻜﺘـﺎﺏ ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻏﺮِﻕ ﻓﻲ ﻇﻠﻤﺎﺕ ﺑﺤﺎﺭ ﺍﻷﻫﻮﺍﺀ ﻭﺍﻟﺒﺪﻉ، فمن ﺗﻌﻮﺩ ﻣﻌﺎﺭﺿﺔ ﺍﻟشـﺮﻉ ﺑﺎﻟﻌقل ﻻ ﻳﺴﺘﻘﺮ في قلبه إيمان!
لقد باتَ الحديثُ بالدينِ، والاستشهاد بالنصِ الديني وفقَ الهوى دون علمٍ بأسبابِ النزولِ، أو مناسبة الحديث، وهل يندرجُ هذا النص في فقهِ الجهاد أمْ في فقهِ السلم أسهل الأمور تناولاً؟! والحقيقةُ المرّةُ عدم تفريق كثيرٍ من العامةِ ممن يتجرأ بعضُهم على الفتوى والرأي، بين العبادات، والعقيدةِ، والشريعة والفقه والتشريع!
حيث تبرز الحقيقة المرّة: إنّ تنحيةَ العلماءِ جانبًا، وعدم السماعِ لآرائهم من مهلكاتِ الأمة.
يتجنبُ الناسُ الحديثَ بالفيزياء والكيمياء، وكثيرٍ من العلومِ، أمام مختصٍ فيها، ويحترمونَ أصحابَها، أو يهابون محاورتهم خشيةَ أنْ يظهرَ جهلُ المتحدثِ غير المختص، وهي علومٌ دنيوية، ولكنّ الجرأةَ تغلبُهم في الحديثِ والمجادلةِ، والرأي في العلومِ الإلهية، وعدم احترامِ شيوخها وعلمائها!
أو كما يصف ذلك أ. فهمي هويدي في كتابه التدين المنقوص: (أكثرية أولئك المتحدثين بالإسلام، من دعاةٍ وهواةٍ هم المسؤولون عن التربية الإسلامية المنقصوصة التي شاعتْ بين الناس في زماننا الذي يصفه الشيخُ محمد الغزالي بأنّه العصرُ الأنكد، لأنّ بعضَ المتحدثين عن الإسلام “يُعرفون الناسَ به فلا يزيدونهم إلاّ جهلاً ” وربما صدّوهم عنه! يجعلونه كائناً محلوقَ الشارب، مُكشّر الأنياب، مكحولَ العينين، كميشَ الثياب، بينما الناس يريدون وصفاً للعقلِ الإسلامي، والحكمِ الإسلامي، يريدون أن يعرفوا الأسرةَ كما بينها الإسلامُ، والدنيا كما ينشدها الإسلامُ، وموازين العدالة كما ينصبها الإسلام!)
الدعوة إلى التجديد الديني هي إحياء لسنة إلهية، والتجديد يعني إعادة النضارة للقديم، وليس قطع الصلة مع القديم ونسف التراث كما يطالب “المجددون”، وقد ردّ الباحث الفرنسي أوليفر روى، عن التجديد الديني الإسلامي، وعن الليبرالية الإسلامية، وبقية المسميات السخيفة التي يسوّق لها دعاة التجديد الديني الذين يحاولون أن يصنعوا إسلامًا جديدًا يتناسب مع طروحات مؤسسة راند الأمريكية:
(لاأعتقد أن مؤمنًا يجب عليه أن يتبنى وجهة نظر “ليبرالية” لدينه حتى يصبح مواطناً صالحًا. كما أنّ المناداة بـ”إصلاح” الإسلام لا تقنعني، إن الذين ينادون بـ”مارتن لوثر” المسلم، لم يقرأوا لوثر أبدًا. لم يكن لوثر ليبراليًا في يوم ما، كما أنّه كان يعادي السامية عداءً صريحاً. إن تأقلم المسلمين مع السياق الغربي شيء لا علاقة له بعلوم الدين، بل بنمط الحياة التي يحياها الفرد، والجهد الذي يبذله من أجل التأقلم. إنهم يحاولون التوفيق بين ممارستهم وبين المحيط الغربي، والمحيط يقدم لهم الوسائل المناسبة – بإمكانهم مثلاً أن يتعلموا إعادة التفكير في المعايير التي يخضعون لها وذلك في سياق التصور القيمي الحديث قد يؤدي هذا على المدى القصير أو البعيد، إلى إصلاح الفكر الديني، ولكن من ناحية المبدأ لا يبدو لي مفيداً أن نساوي بين الحداثة والليبرالية الثيولوجية. إن التفكير على هذا النحو يعني إساءة فهم التاريخ، أو الانصياع التام وراء الأمنيات.)
كانَ الإسلامُ وما زالَ وسيظلُ دينَ الوسطيةِ والتسامحِ، وما كان يومًا دين تشددٍ إلاّ في أذهان الفئات الغالية التي شطّ فكرُها، واستحلتْ دماءَ مخالفيها، مستندين على حججٍ واهيةٍ أنكرها علماءُ وفقهاءُ الإسلامِ الثقات عبر تاريخِ الإسلامِ الطويل، وكلما ألمتْ بالأمةِ نازلةٌ وجدَ هؤلاء ضالتهم من خلال شيوعِ الجهلِ، وغيابِ العلماءِ، ويتبعُهم في ذلك العوامُ المخدوعون دون معرفةِ خطورةِ فكرهم.
لم يعرف الإسلامُ ما يسمى بالأصولية Fundamentalism وهي مصطلح غربي مسيحي، ظهر في أمريكا 1910 ويعني التفكير من القعر، أعادتْ أمريكا إنتاجهُ ملصقةً التهمةَ بالسُنة تحديدًا، أمّا في الإسلام فهناك الغلو، ومنه الفئات الغالية، التي تعتمدُ النصَ الديني ظاهرًا,فتكفرُ وتقتل المخالفين، وهي تظن أنها تحسنُ فعلاً.
لقد أنتج الإسلام قادةً عظماء، وقد تميزوا بالحكمة والخلق الرفيع، والرحمة، ومردّ ذلك إلى أنّهم تتلمذوا على يد العلماء، ويذكرُ التاريخُ عبقريةَ محمد الفاتح، الرجل الذي قضى على بيزنطة نهائياً وتلاشتْ من الوجود بعد أكثر من أحد عشر قرناً، ولكنْ حين نقفُ مع هذه الشخصيةِ الفذةِ، فإنّ ثمة شخصيةً عظيمةً كانتِ المعلمَ والملهمَ الذي يقفُ وراءه إنّه الشيخُ محمد بن حمزة الدمشقي الرومي المعروف بـ (الشيخ آق شمس الدين) مربي ومعلم السلطان العظيم محمد الفاتح الذي رافقهُ في فتحِ القسطنطينية، وبثّ في نفسهِ طمأنينةَ النصرِ، وذكّره أنّ بشارةِ النصرِ التي تحدثَ عنها الرسولُ الكريم تنطبقُ عليه وعلى جيشهِ العظيم.
من عظمةِ محمد الفاتح أنّه كانَ شديدَ الذكاءِ أتقنَ عدةَ لغاتٍ، ودرسَ علومَ الدين,وكانَ قائداً عسكرياً غير وجهَ التاريخ، ولكنّه كان تلميذاً أمام الشيخ آق شمس الدين مراجعاً له منصتًا لتوجيهاتهِ، ولم يقل ْ أنا قائدُ الجيشِ وأنا أعرفُ منك!
لقد جاءت الثورات العربية في ظلّ تراجع أخلاقي وقيمي، وجهل ديني، حتى وصل الأمر بعد الثورات أن تتحولَ الثورة عند البعض إلى ثورة ضد الدين، وكأن العالم العربي كان محكومًا بالإسلام، وليس بأنظمة علمانية عسكرية استبدادية حاربت الدين على مدى سبعة عقود!
لقد انشغلَ العربُ بالثوراتِ السياسيةِ وتغييرِ الأنظمةِ – وهو عمَلٌ عظيمٌ يُسجلُ في تاريخِهم المعاصر- ولكنّهم أغفلوا الثورةَ الأخلاقيةَ! وهي المرحلةُ الأهم والأساسيةُ للتغييرِ المنشود، ولا بدّ من عودة للقيم التي نهضت من خلالها الأمة، وهذا ما انعكسَ سلبًا على واقعِ الثورات ومستقبلها، فالثوراتُ أسقطتِ الظالمَ ولكنّها تعاملتْ بأدواتهِ وأساليبهِ، وسرتْ أخلاقُ الظالمِ على قسم ٍ كبيرٍ من الثائرين دون وعي منهم!
فالحرية التي نبحث عنها يجب أن تقترن بالعدالة كما يقول د. محمد عمارة:
الحُريةُ دونَ عدالةٍ اجتماعيةٍ، صُراخٌ لا يأتي بنتيجةٍ، فالعَدالةُ الاجتماعيةُ هي الفريضةُ الغائبةُ أوالمُغيبةُ!
(المصدر: ترك برس)