بقلم د. محمد عمارة
من يهن يسهل الهوان عليه.. بل ويسهل هوانه على الآخرين!
أما الذين يعتزون بذواتهم – دون غرور – وبدينهم – دون تعصب – وبحضارتهم – دون انغلاق – فإنهم هم الذين ينتزعون الاحترام والتقدير حتى من الأعداء!
وفي سيرة العالم التركي بديع الزمان النورسي (1294 – 1379 هـ، 1877 – 1960م) عندما وقع أسيرا إبان الحرب العالمية الأولى بيد الجيش القيصري الروسي، درس إسلامي بليغ في دلالته على عزة المسلم حتى عندما يكون أسيرا في قبضة الأعداء.
فعندما زار القائد الروسي “نيكولا نيكولافيج” – وهو خال القيصر – معسكر الأسرى، قام جميع الأسرى تحية له ما عدا بديع الزمان! ولاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومر ثانية أمام النورسي، فلم يقم له كذلك، وتكرر المشهد للمرة الثالثة دون جدوى، وعند ذلك دار هذا الحوار بين خال القيصر القائد العام وبين الشيخ الأسير:
– الظاهر أنك لم تعرفني!
– بل عرفتك، إنك خال القيصر والقائد العام في جبهة القوقاز.
– إذن، فلم تستهين بي؟!
– كلا إنني لم أستهن بأحد، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
– وماذا تأمرك عقيدتك؟
– إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيمانا، والذي يحمل في قلبه إيمانا هو أفضل من الذي لا إيمان له، ولو أنني قمت لك لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك لم أقم لك.
– لقد أهنتني وأهنت جيشي وأمتي بإطلاقك عليّ صفة عدم الإيمان، لذلك يجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في أمرك.
ولقد انعقدت المحكمة العسكرية لمحاكمة الشيخ الأسير بديع الزمان النورسي، وأصدرت ضده الحكم بالإعدام!
وساعة التنفيذ، ساقه الجنود والضباط الروس إلى ساحة الإعدام، وكان القائد “نيكولا نيكولافيج” يراقب المشهد، فرأى النورسي وهو في حالة من الابتهاج يقول للضابط:
– أرجو أن تسمح لي بلحظات أؤدي فيها واجبي الأخير.
وتوضأ وصلى ركعتين، وإذا بالقائد الروسي – خال القيصر – يتقدم إلى هذا الشيخ الأسير بعد فراغه من الصلاة قائلا:
– أرجو منك المعذرة، كنت أظنك قد قمت بعملك قاصدا إهانتي، ولكنني واثق الآن أنك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك، ولذلك فقد ألغيت قرار المحكمة بإعدامك، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة مرة أخرى!!
تلك هي شيم العلم والعلماء الذين يحترمون ذواتهم وعقائدهم فينتزعون الاحترام حتى من الأعداء، وحتى عندما يكونون أسرى في قبضة هؤلاء الأعداء!
(المصدر: عربي21)