مقالاتمقالات مختارة

الأخوة في الله من دعائم النفس والمجتمع

الأخوة في الله من دعائم النفس والمجتمع

بقلم د. سيرين الصعيدي

المجتمع الذي ينشد التطور والتقدم ويرنو إلى النور والارتقاء، كان لا بد أن يقيم أركانه على دعائم متينة وأركان راسخة تهيئ له الصمود في تقلبات الزمن والأحوال، وتدفع به لتجاوز العثرات في تقدم الأمم والشعوب بل وفي الأفراد أنفسهم.

ولن تجد في أي زمن من الأزمان أو عصر من العصور مثل المجتمع الذي رسم ملامحه وأسس لبنيانه ووضع دعائمه وركائزه وأشرف على تأسيسه محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جمع أشتات أفراده على اختلاف منابتهم وخلفياتهم الفكرية والثقافية، فاجتمعوا على قلب رجل واحد، بعدما كانوا أعداء ألدَّاء وشرذمة قليلة تبعثرت وسط الصحراء تتقاسمها الدول العظمى كما يتقاسم الجائعون رغيف الخبز.

والمتأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد أنه في بداية مرحلة دعوته الجديدة التي انتقل بها إلى يثرب لتكون البؤرة والمركز وانبعاث الحياة التي تليق بمخلوق كما الإنسان، كرمه الله وسخر له من الأسباب ما يمكّنه من تحقيق مهمة وجوده وغاية خلقه إذا هو تدبر ووعى، فما كان من النبي الكريم إلا أن يحدد الدعائم ويرسخ لأصولها، بل ويسارع في تنفيذها؛ لئلا تظل ثغرة في المجتمع يتسلل منها المتسللون، فسارع في إرساء هذه الدعائم وترسيخها، إذ كانت هي من أسباب الفوز والرفعة والتمكين لهم في زمن طغت فيه جاهليات شتى فرقت جمعهم وأراقت دماءهم، فكان لزاماً على من يريد أن يؤسس في نفسه ومجتمعه السير على خطى الحبيب المصطفى واقتفاء أثره.

وهذه الدعائم الثلاث التي لم يتوان الرسول صلى الله عليه وسلم في إنفاذها لما لها من أهمية وأثر على كيان الفرد والمجتمع، فكانت أولى الخطوات في تغيير المعادلة والموازين في ذلك الوقت بل وفي كل وقت وحين، إن وجد من يتبع النبي الكريم في الشرعة والمنهج.

فقد باشر الرسول صلى الله عليه وسلم تأسيس الدعامة الأولى وهي بناء المسجد، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومن ثم كتابة الوثيقة التي تحدد صلة وعلاقة المجتمع الفتي بغيره من طوائف أخرى ومجتمعات شتى، وكان لا بد من الوقوف بروية عند الأصل والدعامة الثانية لعل في العمر بقية لتناول الدعامة الأولى، فللأخوة في الله من الأهمية ما يجعل المرء يقف عندها بشيء من المهابة والإجلال، في الوقت الذي طغت فيه الماديات على الناس فتنكروا لأخوة النسب، ناهيك عن أخوة الدين إلا من رحم الله.

ومن الأسباب الأخرى التي تحتم علينا أن نقف عند هذه الرابطة ونتأملها بجدية، وقد زعم أو ظن البعض بأنّ هذه الأخوة كانت في بداية التأسيس للدولة الفتيّة، فظنوا خطأً أنها كانت مجرد علاقة عابرة مستنسخة، وما علموا أن الحقوق المادية المتوارثة هي المستنسخة، بينما هي فقد بقيت ضاربة بجذورها إلى يوم الدين، يوم أن يحشر الخلائق، فتأتي هذه الرابطة تحاجج عمّن أخذها في الله فأدى حقها، ليكون المتحابين في الله من السبعة الذين يظلهم بظله، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: “وَرَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ اجْتَمَعَا عليه وَتَفَرَّقَا عليه” [صحيح البخاري].

 لن تقوم قائمة لأي مجتمع إن اختلفت قلوب أفراده وتنافرت أرواحهم، بل سيكون أشبه ما يكون بالجمر المتقد، أو إن شئت فقل إنه يقوم على حقل ألغام، سرعان ما ينفجر ويأتي على الأخضر واليابس

وأي مجتمع لا تقوم له قائمة إن اختلفت قلوب أفراده وتنافرت أرواحهم، بل هو أشبه ما يكون بالجمر المتقد، أو إن شئت فقل إنه يقوم على حقل ألغام، سرعان ما ينفجر ويأتي على الأخضر واليابس، فيبقى مشتتا تتجاذب أطرافه الفرقة من هنا وهناك فيصبح أفراده معاول هدم بدلا من أن يكونوا عوامل بناء وارتقاء، وكان لا بد من عقد يجمع المتنافرين والأضداد، لا يقيم وزناً لفوارق الجنس واللون والنسب، ولا للوطن أيضاً، وأي عقد تتجاوز نفوذه كل هذه الفوارق غير عقد الأخوة الذي قلب الموازين وباين بين صورة العرب قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجزيرة العربية وما كانوا عليه من تنافر واختلاف، واستحواذ الدول العظمى عليهم، وخضوعهم لها وبين صورة الأوس والخزرج المتناحرين والخصوم الأعداء، وكيف جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- شملهم بهذا العقد ورأب الصدع بينهم فالتأم جرحهم وتعافت نفوسهم، فكانت قلوبهم وبيوتهم أكثر سعة من الفضاء الرحب للوافدين الكرام الجدد من أرض مكة، فأنزلوهم ديارهم ومساكنهم وقلوبهم أعزاء كرماء وقد ضاقت بهم بلادهم وعشائرهم، فما كان لهم ذلك لولا ميثاق الأخوة الذي دفع بذلك الأنصاري ليبذل من ماله بل ومن أزواجه لأخيه المهاجر طواعية، فقد ورد في صحيح البخاري: “آخَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عَوْف وَسَعْد بن الرَّبِيعِ، قال لِعَبْدِ الرحمن: إني أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لي أُطَلِّقْهَا، فإذا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا”، فكيف لا تكون هذه الأخوة الركن والدعامة الراسخة التي حفظت المجتمع الناشئ الجديد من أن يميد أو يتزعزع وسط كل ما كان يحاك له وحوله.

وما فائدة الحدود على اتساعها إذا ضاقت بأهلها وأطبقت عليهم من قبضتها فسلبتهم حرية الفكر والمعتقد ، فكان لا بد من فضاء آخر يتسع للسكان الجدد يجمعهم الإيمان بالفكرة والمبدأ والعقيدة الواحدة، وهذا لن يتوفر ما لم تجد من يشاركك الغاية والوسيلة، الفكرة والمبدأ، المسير والمصير؛ فيكون الواحد منهم لأخيه كما البنيان المرصوص.

فلا عجب من أن يكون هذا المجتمع الذي أشرف على بنائه المبعوث رحمة للعالمين من المتانة ما يجعله عصياً على الكسر، بل ودانت لهم العرب والعجم، وهم القلة التي كاد -قبل ذلك – يبتلعها شِعب أبي طالب بأمعائهم الخاوية يخوضون معركة المصير، فكانت الأخوة الركن الثاني من الأركان التي تأسس عليها المجتمع الرباني في يثرب، حتى أصبح منارة نور تخرج الناس من الظلمات إلى النور بما يحملونهم من رسالة تآلفت أرواحهم وتوحدت قلوبهم عليها.

اصطحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر في الهجرة، يرشدنا إلى أهمية التزود في السير إلى الله، وهذا التزود يكون باتخاذ صاحب تأمنه على نفسك ودينك، وما لذلك من أثر ذلك على النفس

ما سبق هو صورة من صور دعامة الأخوة وأهميتها وأثرها في المجتمعات، وانظر لصورها في النفس وأثرها على رباطة الجأش وتذكير المرء وتصبيره ومؤانسته؛ للمضي في دربه حتى يلقى الله وهو قابض على هذا الدين صابراً محتسباً لما يصيبه، إلى أن يحقق الله له إحدى الحسنين، إما موت في سبيل الله أو انتصار وتمكين، وتأمل اصطحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر في الهجرة، وكأنه يرشدنا إلى أهمية التزود في السير إلى الله، وهذا التزود يكون باتخاذ صاحب تأمنه على نفسك ودينك، وما لذلك من أثر ذلك على النفس، وفي ظروف مشابهة قبل هذه الحادثة بزمان ليس بقليل كان أصحاب الكهف، وهم فتية تآلفت أرواحهم نحو هدف واحد وتوحدت قلوبهم إذ جعلت من الله جل شانه قبلتها ووجهتها، فهجرت أرضها وقومها بعد أن ضاقت بهم بلادهم وأهليهم ليتسع لهم الكهف الذي آواهم، ونشر الله رحمته عليهم فيه، فوسع بعضهم بعضاً وتكاتفوا وكانوا لبعضهم البعض العدة والعتاد، والرابطة التي جمعت بينهم كانت بعد الله خير معين لهم على أن يمضوا على ما مضوا عليه، إذْ ليس عبثاً أن يأتي قوله تعالى في نفس السورة بل وبعد قصة هؤلاء الفتية تحديداً: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

هي نفسها الرابطة التي كانت تلقي بظلالها على قلب السابقين لنا، فيمسك الواحد فيهم يد صاحبه ليقول له تعال بنا نؤمن ساعة، يثبت نفسه ويثبت قلب أخيه على ما اختاروا من درب ومصير، وما يدريك فقد يأتي الوقت الذي يكون فيه إخوانك -الذين أنجبهم رحم العقيدة ممن تشاركوا معك عثرات المسير ويقين المصير- جيشك الذي تجابه به العدو من نفسك ومن سائر المعادين من البشر ، لكن ليكن قرارك وعزمك الأكيد أن تثبت على دربك ولو انقطعت بك الأسباب من البشر، ولو تفردت في ساحة الوغى النفسية والمادية، وليكن تعلقك الكلي بأسباب السماء، فإن صدق عزمك لا يضيرك من خذلك أو تركك.

ولكن قد تأتيك الأرزاق من مُسببها وخالقها على هيئة بشر يجعل لك من قلبه وطناً، ومن روحه فسحة في غربة هذا الزمن، تتقاسمان حلاوة العبودية وتتشاركان المحنة، لتتذوقا بها مذاق المنحة، فاثبت إن خلُص لك الرفيق أو عز عليك الزمان بأن يجود عليك به، فإن انقطعت أسبابك من هذه الصلة لتغريب أو تهجير أو تقتيل فاجعل من سيَر السابقين نبراساً واستحضر صورهم ومواقفهم، فيكونوا لك النجم الساطع في وسط حلكة الليل البهيم، ولن تجد ذلك إلا في صفوة البشر الأنبياء والرسل وكل من سار على دربهم، وانتهج نهجهم، وصدق السير على خطاهم.

اجعل منهم قدوة حية ماثلة أمام عينيك حقيقة لا ضربا من الخيال والوهم.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى