بقلم د. محمد عمارة
في مجلة الثقافة الجديدة – التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية، عدد أغسطس 2015 – مقال عن “العلمانية وثقافة التكفير”، وصف فيه كاتبه ثقافة التكفير بأنها “ثقافة غيبية ماضوية أحادية قمعية إرهابية نصية تحريمية انغلاقية نرجسية فاشية تقديسية سكونية ذكورية قبلية رعوية، ثقافة تميل إلى الخرافة وتكره العلم، ولا تعترف بالعقل، تقدس الماضي ولا تشعل بالها بالمستقبل، تكره الحرية وتهرب منها، وتعشق فقط حرية العبودية أو العبودية المختارة”.
وقد لا يكون لدينا خلاف مع كل هذه الأوصاف التي وصف بها الكاتب “ثقافة التكفير”، لكن الكارثة أن كاتب هذا المقال قد حكم على تراثنا الفكري والحضاري – الذي جعل أمتنا العالم الأول على ظهر الأرض لأكثر من عشرة قرون، والذي استلهمته أوروبا وأسست عليه نهضتها الحديثة – قد حكم على هذا التراث بكل هذه الصفات البشعة التي وصف بها “ثقافة التكفير”!!.. فقال “إن ثقافة التكفير هذه قد تشكلت وتكونت وترسخت تاريخيا عبر تراكمات لأفكار وممارسات ترتبط إيديولوجيا بما يمكن أن نسميه بالأصوليات الدينية أو الأرثوذكسية لعدد من كبار الفقهاء ورجال الدين أمثال الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وأبي حنيفة والأشعري والباقلاني والبخاري والشهرستاني والغزالي وابن تيمية وابن كثير وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب وأبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب”!!.
أي أن هذا المقال قد وصم تراث أمتنا – الفقهي والفلسفي – بالصفات البشعة التي وصف بها “ثقافة التكفير”.
وأمام هذا “الافتراء الجاهل” نتساءل: هل قرأ كاتب هذا المقال – وناشره – شيئا عن موقف هؤلاء العلماء الأعلام من التكفير؟!.
وإذا كان المقام لا يتسع إلا لمثال واحد، فإننا نقدم بعض ما كتبه ابن تيمية في رفض “التكفير”، يقول هذا الإمام – الذي تنشر الكتب والمقالات في الافتراء عليه – : “والذي نختاره أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة، وإن المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من مثل: أن الله تعالى هو عالم بالعلم أو بالذات؟ وأنه تعالى هل هو موجد لأفعال العباد أم لا؟ وأنه متحيز؟ وهل هو في مكان وجهة؟ وهل هو مرئي أم لا؟ لا تخلو هذه المسائل إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف؟ والأول باطل.! إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين لكان الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها، فلم يطالبهم بهذه المسائل، بل ما جرى حديث عن هذه المسائل في زمانه عليه السلام ولا في زمان الصحابة والتابعين، علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن الخطأ في هذه المسائل قادحا في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع عن تكفير أهل القبلة، إن أهل السنة لا يكفرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفا لهم، مكفرا لهم، مستحلا لدمائهم، كما لم يكفر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد بكفر ولا بفسق ولا بمعصية، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله”. وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ فإن ذلك أعظم من قتله”.
هكذا تحدث ابن تيمية، الذي يوصف – مع كل علماء الأمة – بأبشع صفات “ثقافة التكفير” في الخطاب الثقافي الإسلامي السائد الآن.