استلابُ العصر الحديث: كيف فقد الإنسان نفسه
بقلم محمد السعيد
‘‘لا يوجد إنسان حي في الغرب في نهاية القرن العشرين ينجو من القلق أمام فقدان كل معنى، وأمام غزو الحياة الخاصة، وغزو القدرة على الوجود كذات بواسطة الدعاية والإعلان، وبتدهور المجتمع إلى مستوى الجمهرة، والحب إلى مستوى اللذة والإنسان إلى مستوى المادة’’.
آلان تورين، نقد الحداثة
مدخل:
صديقي القارئ، لا بُدّ أنّك قد لاحظتَ أن ظهور المرأة في الإعلانات كوسيلة للترويج والتسويق بات شيئاً أساسياً، حتى في المنتجات الذكورية التي لا تستخدمها النساء! ولا بد أنك قد ألِفتَ رؤيتها في وضعيات وحركات جنسية في أغاني الفيديو كليب والأفلام والمسلسلات والدعايات.
واليوم عزيزي القارئ هناك شركات في القسم الغربي من العالم تُقدّم لك خدمات تُعينك على تدبّر أمور حياتك وتسهيلها في حال تغاضيتَ عن السؤال الأخلاقي والقيمة الإنسانية للخدمة. مثلاً، شركة تقدم لك أباً أو أماً، أو صديقًا أو صديقة بالإيجار مقابل حفنة من الدولارات في الساعة! أو أُخرى توفّر لك رحماً للاستئجار فيما يُعرف باسم الأم البلدية التي تحمل الطفل حتى الولادة ثم تُسلِّمه لأبويه الحقيقيين وفق عقدٍ ينظُمه منطق البيع والشراء، والعرض والطلب.
كان المشروع الحداثي الغربي، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، يرى أن الإنسان سيعرف والمعرفة ستؤدي إلى تراكم والتراكم يؤدي إلى التقدّم والتقدّم يؤدي إٍلى السعادة وبهذا يصل الإنسان إلى مبتغاه.
لكن الذي لم يأخذه المشروع الحداثي في الحُسبان تكلفة التقدُّم والازدهار وفاتورته التي دفعها الإنسان وتَحمّل عبئها. ورغم ذلك لم يصل إلى السعادة والرفاهية التي كان ينشُدها في ظلال الحداثة والتطوّر المادي والتقني والبعد عن الإله.
توحُّش الرأسمالية:
بُعيد نهاية الحرب البادرة واندحار المعسكر الشيوعي، صعدت الرأسمالية الليبراليّة لتُحكم قبضتها على معظم بلدان الاتحاد السوفييتي. بدا النظام الليبرالي حينها أكثر قوة ممّا مضى، واليوم تتبنّى معظم دول العالم الرأسمالية لتسيير نظامها الاقتصادي.
صاغت الرأسمالية الليبرالية صيغتها السحرية للتقدّم والازدهار والتنمية الاقتصادية والسعادة الفرديّة والمجتمعيّة بتركيبة جمعت بين سوق عالمية مفتوحة بلا حدود، وإنتاج حر بلا ضوابط ولا قيود، وعدم تدخل الدولة في شؤون السوق، لا من جهة تنظيم وضبط العرض والطلب، ولا من جهة المراقبة والمساءلة، بهذا الشكل تمّكن منطق السوق التجاري من فرض سيطرته على المجتمع والإنسان.
في كتابه “نقد الليبرالية” يكتب الباحث المغربي الطيب بو عزة عن الشق الاقتصادي لليبرالية قائلاً: “الليبرالية حقاً حرّرت الفعل الاقتصادي وحقّقت نصراً في هذا الجانب، لكن انعكاسها وأثرها على الإنسان كان أشد وأفدح. إذ أن المشروع النيوليبرالي لا يهدف إلى تحرير الإنسان، بل إلى تحرير الرأسمالي الاقتصادي من كل قيد وتحجيم سلطة الدولة، لتتصرف القوة الاقتصادية كما تشاء.
ويُكمل: الليبرالية في جوهرها ليست تحريراً للكائن الإنساني، إنما لرأس المال. ليتحوّل من أداة إنتاج تخضع للمراقبة الاجتماعية، إلى كيان كُلي مهيمن يتحكّم في الاقتصاد والسياسة والإعلام، ويوجّه مسار الحياة الإنسانية وفق منطقه المادي القاصر”.
العالم مصنعاً:
يرى الدكتور المسيري أن طغيان المادية وهيمنتها أدّى بالضرورة إلى إعادة تشكيل اتجاهات الحياة ومساراتها وإلى إعادة صياغة الواقع المادي والإنسان نفسه في ضوء المقولات المادية. وهذا يعني ترشيد الحياة والإنسان والواقع وفق آلية مادية صلبة.
ويعني الترشيد، كما شرحه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر :«تحويل العالم بأسره إلى حالة المصنع -أي تحويله إلى نسق آلي منظم يستخدم فيه كل شيء بكفاءة، خاضع للحسابات الكمية، فتوظّف الطبيعية الخارجية وتتحول إلى مصدر للمادة الخام، وتوظف الطبيعة البشرية ويتحول الإنسان إلى وحدة اقتصادية رشيدة تتحرك داخل إطار بيروقراطي لا شخصي، فالعالم يُصبِح نسقاً آلياً ينتج سلعاً بكفاءة شديدة، ولا يهم المضمون الخلقي أو الإنساني لهذه السلعة، إذ ما يهم تعظيم الإنتاج.»
فعالمُ اليوم الذي يحكمه سوق طغى فيه تبادل النقود على كل شيء، ولا يعرف سوى الربح والخسارة ومزيداً من الكسب والإنتاج والعرض، نراه قد جُرِّد من كل أشكال ومظاهر العلاقات الإنسانية والقيم المتولّدة عن هذه العلاقات كالتعاطف والتضامن والتراحم.
وبهذا سقط إنسان الحداثة في منظومةٍ ماديةٍ أرضيّة، جعلتهُ شيئاً، كالشجرة والسلعة، ونزعت عنه قداسته وجوهره الإنساني الذي يتفرّد به عن سائر المخلوقات.
المجتمع مؤسسة اقتصادية:
في كتابه «ما لا يستطيع المال شراءه: الحدود الأخلاقية للأسواق» يستعرض الفيلسوف الأميركي مايكل ساندل، تبدّل وتغيّر شكل الحياة في العالم الغربي في العقود الثلاثة الأخيرة. ينتقد ساندل منطق الاقتصاد الذي صبغ المجتمع بصبغةٍ نفعيّة ماديّة وجرّده من مشاعر الإنسانية والتراحميّة.
تحتل قيم السوق اليوم في الحياة الاجتماعية دوراً أكبر بكثير ممّا كانت عليه في الماضي، والكلمات لساندل، ويتحوّل الاقتصاد إلى قطاع مهيمن على كل شيء. لم يعد منطق البيع والشراء يُطبّق ويجري فقط على السلع المادية وحدها، بل بات يتدخّل وبشكل متزايد في الحياة الاجتماعية ويتحكّم بها.
بمقدار ما تتوحّش المادة وتَطغى؛ يتضاءل الجانب الروحاني ويُلغى الفكر العقلاني ومشاعر الرحمة والإنسانية. تحمل النزعة الماديّة في طياتها السيطرة الاجتماعية، التي تحول المجتمع إلى مصنع كبير والإنسان إلى حيوانٍ اقتصادي.
الإنسان بوصفه كائناً اقتصادياً، إنسان الاستهلاك:
في إطار تحليله للرؤية الفلسفية الليبرالية، ونمطها الثقافي والمجتمعي، يعتقد الباحث الطيب بوعزة أن الليبرالية قامت بقلب دلالي لمعنى ماهية الإنسان من الماهية العاقلة إلى الماهية المالكة، بالمدلول الاقتصادي المادي للتملّك. إذ تعد مقولة الإنسان كائن اقتصادي Homo Economicus مرتكزاً نظرياً أساسياً للنمط الثقافي الليبرالي.
وبناءً على هذه الرؤية ينطلق العقل الغربي إلى قراءة مادية للذات والوجود قراءة لا تنظر إلى الغايات، بل تحول کل کینونة – حتی کینونة الإنسان ذاتها – إلى أشياء وأدوات استعمالية.
بهذا الشكل يتم سحب الفرد واقتلاعه من عالم الإنسان إلى عالم الأشياء وإقحامه في دائرة الإنتاج والاستهلاك.
في كتابه “الجسد بين النسق القيمي وسلطة الصورة الإعلامية” يرى الباحث حسن بوحبة أن “الإنسان اليوم لم يعد يُشكِّل وحدة مستقلة، ولم يعد خاضعاً لمعايير إنسانية أو أخلاقية. فقد ساوته قيم السوق والاقتصاد والمعرفة العلمانية بمختلف مكونات الطبيعة، مثله مثل الشجرة أو الفراشة أو السلعة، ونزعت عنه القداسة، فلم يعد مستعصياً على التفكير المادي، بل تم إخضاعه للتجريب، لأنه – في نظر الفكر العلماني المادي – نتاج بيئي، ونتاج مختلف المسببات والقوى التي تؤثر في الطبيعة، فوصلنا في نهاية المطاف إلى تشييء الإنسان، ليصبح مادة قابلة للاستعمال.
والإنسان الذي يُصبح شيئاً، كما يُخبرنا عالم النفس إريك فروم، هو إنسان جبان، ليس له أي إيمان ولا أية قناعة ولم يعد باستطاعته أن يحب حتى. يهرب في وجود فارغ، في الإدمان على الكحول، في الجنس وفي كل الأعراض المرضية النفسية، التي يمكن شرحها أحسن عن طريق نظرية الإرهاق. وهنا نصل إلى نتيجة متناقضة، تكمن في كون المجتمعات الأكثر غنىً هي في الطريق لكي تصبح الأكثر مرضاً.
لا يحتكم مجتمع السيولة اليوم لأي قيمة إنسانيّة. وإنسان ما بعد الحداثة فقد قُدسيته وإنسانيته، في ظلال التقدّم والتطور والازدهار وحقوق الإنسان، كما يُدَّعى، فهو يؤجّر ويُباع ويُشترى، ويُستخدم كزينة وشيء في المسابقات التجارية والعروض الإعلامية وحملات التسويق. يُسلّع كسلعة، ويتحوّل من كونه كائن مقدّس ومكرّم إلى وسيلة مادية وجنسية وإنتاجية لا قيمة لها إلا ما تُنتجه ولا كرامة لها إلا ما تملكه.
بين الأرض والسماء:
هناك منظومتان لتعريف الإنسان، الأولى تُعرِّفه بالإشارة إلى ما هو أعلى منه، أي بالنظر إلى السماء، نحو الله وعالم الروح الإيمان، والأخرى تُعرِفه بما هو دونه، بالنظر نحو الأرض والطين، تجاه المادة وعالم الأشياء.
بينما تملأ المنظومة الأولى وحدة الإنسان وفراغه الداخلي وتكفيه سؤال الغاية والمعنى وتُشرِّفه وتُكرِّمه، تأخذه الثانية نحو الأرض وتُهينه وتُشيؤه (تجعله شيئاً) ولا تزيده إلا غماً بغم وضياعاً بضياع.
هكذا ينشأ عبر الطريقتين نموذجان من الثقافة: ثقافة أخلاقية ذات جذور غيبيّة، وثقافة ماديّة ذات جذور أرضيّة.
المصدر: موقع أثارة