بقلم الدكتور فتحي ابو الورد
القضاء يعني الحكم بين الناس بالحق، وهو نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يقول ابن حزم، والمقصود من القضاء هو دفع الفساد، وإقامة العدل، وإيصال الحقوق لأصحابها.
ولكي يتحقق مقصود القضاء ينبغي أن يستقل القاضي تماما عن أي مؤثرات تنال من حيدته وإنصافه، أو تبعث على تفضيل أحد الخصمين على الآخر.
حتى إن فقهاءنا عرضوا لتفاصيل في هذا الشأن، من ذلك ما ورد عنهم: لو أن رجلا خاصم السلطان إلى القاضي فجلس السلطان مع القاضي في مجلسه، والخصم على الأرض، فقالوا: ينبغي للقاضي أن يقوم من مقامه، ويجلس فيه خصم السلطان، ويقعد هو على الأرض، ثم يقضي بينهما، كي لا يكون مفضلا أحد الخصمين على الآخر.
ويعد اشتغال القاضي بالسياسة، أو خضوعه لأهواء الساسة مطعنا في مبدأ استقلال القضاء، وجرحا في حيادية القاضي، لأن تسييس القضاء يعني الانحراف به عن مسار العدالة، والانجراف به بعيدا عن النزاهة، والانجرار من خلاله إلى ظلم الأبرياء، واستخدامه آلة لذبح الخصوم باسم العدالة، والخضوع في أحكامه للأهواء. وتكبيله بالتبعية بعيدا عن الاستقلال، لترسيخ الفساد، وتمكين المستبدين، وإصباغ الشرعية على أوضاع باطلة. ورحم الله حافظ إبراهيم الذي قال:
لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت… حواشيه حتى بات ظلما منظما
وأي خلل في منظومة استقلال القضاء، أو في معايير اختيار القضاة، مثل المحاباة والمحسوبية والمجاملة، بعيدا عن معيار الكفاءة والأهلية والأمانة، أي خلل على شاكلة هذا يكرس للفساد، ويقوض منظومة العدالة، إذ كيف تنتظر العدالة ممن تسنموا سدة القضاء وهم قد دخلوا إليه من أبواب خلفية، ودفعوا في سبيل تقلده الأموال والهدايا، لم تؤهلهم قدراتهم ولا أمانتهم ولا كفاءتهم له، بل كانت الوساطة والشفاعة والأموال بريدهم إلى الحاكم ليأذن لهم بالدخول، ليستكمل بهم نقصا في الفسدة، وعجزا في الأتباع والأذناب، وثغرة في زوايا الباطل.
كيف ننتظر العدالة ممن اعتلوا منصة القضاء نفعا لأنفسهم، ورغبة في ميزات تميزهم عن الناس، وطمعا في مزايا طبية وترفيهية ومعيشية ومالية؟ إن أمثال هؤلاء من القضاة، بالشفاعة مجروحون وبالمزايا مطعونون.
وقد قرر الفقهاء أن بذل المال على طلب القضاء محظور في حق الباذل والمبذول له، لما روي أنس عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “لعن الله الراشي والمرتشي “. رواه أحمد والترمذي والحاكم والراشي هو باذل الرشوة، والمرتشي هو قابلها.
وأخرج الحاكم في المستدرك أن النبي – عليه الصلاة والسلام – قال “من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين”.
والمحاكمات المسيسة لها نتيجة حتمية ومسلمة، فحواها الظلم، ومضمونها التشفي، حين تقلد النفايات وتهمش الكفايات، وحين يوسد الحكم إلى أهل الثقة من الفسدة ويمنع منه أهل الكفاءة من الصلحاء، نتيجة حتمية مؤداها الجور في الأحكام.
وقد كان قضاة السوء يعرفون – قديما- بين العلماء من خلال الجور في الأحكام، التي تظهر فيها ممالأتهم للسلطان، أو أتباعه، وقبولهم الرشى، وعدم التعفف عن الدنيا، ولذلك ذاع بين العلماء قولهم: “إن فلانا من قضاة السوء في عصرنا”، كما يقول ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852هـ).
وكما قيل: ليس العدل في نص القانون وإنما العدل في نفس القاضي، وإن فساد القاضي تتبعه كل كارثة.
وقد أجرى الفقهاء الأحكام الشرعية الخمسة على قبول القضاء فقالوا: قد يكون واجبا أو مستحبا أو مباحا لمن هو أهل له وقد يكون مكروها أو حراما.
وقرروا أن تقلد القضاء يكون حراما إذا كان أحد يعلم عجزه عن القضاء، وعدم استطاعته لمراعاة العدل فيحرم عليه قبول القضاء، فلذلك قرروا أن تقليد (الجاهل الملوث أو المتلبس بالأشياء الموجبة للفسق، أو القاصد الانتقام، أو الراغب في أخذ الرشوة) حرام.
وكم من قاض اليوم لا يصلح أن يكون قاضيا، وكم من قاض اليوم وقع تقليده حراما، وجاء حكمه باطلا.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.