استقبال الرئاسة التركية لرئيس دولة الاحتلال قراءة في المصالح والمفاسد ومنهج النظر
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
زار رئيس دولة الاحتلال الصهيوني إسحاق هرتسوغ الدولةَ التركية والرئاسة التركية، يوم الأربعاء 9 مارس 2022م، وهي الزيارة الأولى من نوعها منذ عام 2007م، وسيترتب عليها بطبيعة الحال إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الطرفين بما يمثل أعلى درجات التطبيع، ورغم أن منصب الرئيس الإسرائيلي يعتبر فخريا، وأي خطوات كبيرة للتقارب بين إسرائيل وتركيا ستتطلب موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، فإن زيارة هرتسوغ تمثل خطوة كبيرة في اتجاه تحسين العلاقات ونحو تطبيع العلاقات بشكل كامل.
ومنذ بزوغ أخبار هذه الزيارة والخلاف محتدم ما بين مؤيد ومعارض، وما بين مساند للخطوة داعم لها، ومندد بها ورافض لها، وحين وقعت الزيارة اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بالزيارة وآثارها، وصدرت بيانات العلماء الرافضة لهذه الزيارة، وآخرون أعربوا عن تأييدهم!
بين مؤيد ومعارض
فالمؤيدون يقولون: إن رئيس تركيا رجب طيب أردوغان مواقفه مشهودة في الدفاع عن المقدسات الفلسطينية، ولا يمكن أن يخون قضية فلسطين، ولا أن يخذل الشعب الفلسطيني، فمواجهته لشمعون بيريز، بحضور عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدو العربية، وبان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، في مؤتمر دافوس يناير 2009م مذكورة ومشكورة، وحين عاد استقبله الآلاف من الشعب التركي رافعين الأعلام التركية والفلسطينية معا، وهو الذي سيّر سفينة مرمرة التي استهدفت فك الحصار الإسرائيلي عن غزة وحمل مساعدات لأهلها، والتي راح ضحيتها شهداء أتراك عام 2010م، وترتب عليها قطع العلاقات بين الطرفين حتى عام 2016م، وتصريحاته المستنكِرة لممارسات الاحتلال منشورة ومشهورة، وحديثه عن القدس والأقصى في كل مناسبة معلوم ومعروف، والمؤتمرات الدولية التي عقدت للقضية تحت رعايته الشخصية واضحة للجميع وما تزال، وأن هذه الزيارة هي من باب الضروريات وأن رئيس تركيا مضطر لها بسبب حاجة تركيا للغاز، وتعزيز قدرات تركيا على التنقيب عنه في شرق المتوسط.
ولهم أن يذهبوا إلى وصف هذا الاستقبال لهذه الزيارة بالخطوة العبقرية، وأنها لا تصدر إلا من فقيه سياسي متمرس ومحنك، في محاولة لفك طوق العقارب والأفاعي التي تريد أن تلدغه وتحاصره وتسقطه داخليا وخارجيا، فها هي مثلا – كما نشرت جريدة الدستور المصرية – اللجنة العربية الوزارية المعنية بمتابعة التدخلات التركية في الشؤون الداخلية للدول العربية! والمكونة من جمهورية مصر العربية (رئيس اللجنة)، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والمملكة العربية السعودية، وأمين عام الجامعة، تعقد اجتماعها الرابع في نفس يوم زيارة إسرائيل لتركيا 9 مارس 2022م، لتناقش التدخلات التركية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وقد اطلعتْ على المذكرة الشارحة المقدمة من الأمانة العامة في هذا الصدد، وعلى قرارات مجلس جامعة الدول العربية في أعوام 2019، و2020، و2021م بحق ما أسموه انتهاكات تركية لسوريا والعراق ودول أخرى.
ثم هل الرئيس التركي لا يدرك خطورة التطبيع وحرمته، ولا يعلم أن هذا عدو محتلٌّ غاصب معتدٍ؟ لا شك أنه يعلم ويدرك، ومواقفه السابقة والمشهورة شاهدة على أهمية القضية عنده ووعيه بها، إذن فهناك أسباب سياسية وليست أخلاقية أو دينية دعته إلى هذا التصرف.
***
أما المعارضون فيرون أن هذا محتل غاصب، وأن التطبيع مرفوض كله سواء صدر من جهة أو شخص أو دولة، أيا كان هذا الشخص أو الجهة أو الدولة وهو لا يأتي بخير بل كله مفاسد وأضرار وشرور، ويُمكِّن للعدو المحتل، ويطيل أمد وجوده على أرض فلسطين.
ولهم أن يضيفوا: أن هذا موقف أخلافي مبدئي لا يمكن أن تُقبل المساومة فيه ولا المفاوضة عليه، وأن العلماء يجب أن يصدعوا به دون دخول في متاهة التكتيكات والموازنات، وأن معارضة العلماء لتصرفات بعض الحكام دليل صحة وقوة، لا أمارة مرض وضعف.
وفي هذا الإطار صدرت بيانات بعض الهيئات العلمائية رافضةً ومُدينةً لهذا التصرف؛ اعتبارًا للحجج السابقة، وربما حداها نحو هذا المسلك الرغبةُ في تحقيق مظهر “الاستقلال العلمائي” الواجب حصوله، وكذلك الرد المسبق على تساؤلات الجماهير: لماذا تحابون تركيا وتصمتون عنها؟ وهل التطبيع حرام على الإمارات ومن والاها وحلال على تركيا ومن والاها؟ لماذا تكيلون بمكيالين؟ ألم تُعلّمونا أن المبادئ لا تتجزأ؟ فالحرام حرام مهما كان فاعله، والواجب واجب مهما كان تاركه!.
ولم يَفُتْ بعض َأصحابِ هذا الرأي أن يذكروا مآثر أردوغان ومواقفه المشرفة من فلسطين وجهاده من أجلها، في محاولة لجعل خطابهم معتدلا ومتوازنا، ومنصفا في الوقت نفسه.
قواعد منهجية للتعامل والنظر
من أجل التعامل العادل مع هذه القضية وأمثالها؛ بعيدا عن الموافقة أو المخالفة وعن التأييد أو الرفض، لابد من الصدور عن عدد من القواعد المنهجية الأساسية والشرعية المقاصدية والأخلاقية المبدئية للوصول إلى رأي منصف وواعٍ وحقيقي ومؤثر؛ لأنني في الحقيقة أشعر بأن خطابنا الفقهي والإفتائي يحتاج لإعادة نظر، في التأمل الحالي، والنظر المآلي، وقَدْر الأمور حق قدرها:
أولا: رعاية السياق:
قبل الحكم والتعامل مع هذه الزيارة، أو أي قضية أخرى في الحقيقة، لابد من استحضار السياق الذي يكتنفها وتمر به، فالسياق مرشد للمعنى الصحيح، وحارس من الفهم الخاطئ، كما قال العلماء، وأي قراءة لأحداث وأشياء وأشخاص وأفكار وأفعال وتصرفات بمعزل عن سياقها هو خبط عشواء وتصرفات عمياء لا ترى الواقع ولا ملابساته، ومن ثم سيكون كلامها في الهواء لن يؤثر، ولن يقدم ولن يؤخر، وهذا يوجب الوقوف على السياق الشامل: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
فهل قرأ الموافقون أو المخالفون السياق وما يحيط به من تشابكات وتعقيدات وتركيبات، وما تمر به تركيا من ظروف إيجابا وسلبا بما يكون له تأثير على صدور الأحكام والآراء؟
ثانيا: التفرقة بين الفعل العارض والمنهج الدائم:
من المهم في الحكم على الأمور التفرقة بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت، وبين الفعل الفرعي والتصرف الأصلي، وبين العمل المؤقت والتصرف الدائم اللازم، وبين الممارسة الطارئة والفعل الاستراتيجي المنهجي، وبين التصرف طبقا لمصلحة الأوطان والعباد والفعل المتمحور حول الذات الخادم للأشخاص.
إن مواقف تركيا التي أورد بعضَها فريقُ المعارضين في خطابهم لا تُنكر، ومساندتها للقضية الفلسطينية مستمرة ودائمة، سواء من الرئيس التركي، أو الشعب التركي الذي يعشق القدس والأقصى، فكيف يكون الموقف من فعل عارض جاء لمصلحة وطنية من وجهة نظرهم، ولو رأينا أن هذا اجتهاد خاطئ فهل نسوي بذلك مواقف اتخذت فيها دولٌ عربية هذه العلاقةَ الآثمة منهجا مستمرا ودأبا لا ينفك أبدا؛ حرصا على مصالحهم الشخصية، فهل وعى المؤيدون والمعارضون هذه التفرقة وصدروا عنها في آرائهم وخطابهم؟!
ثالثا: الفقه الحق هو معرفة خير الخيرين وشر الشرين:
ليس الفقيه من عرف الخير من الشر، وليس العاقل من أدرك المصلحة من المفسدة، فهذا يعرفه عامة الناس، وإنما الفقيه الحقيقي من أدرك خير الخيرين وشر الشرين، والعاقل الحكيم هو من علم أعلى المصلحتين فيحصلها وأدنى المفسدتين فيتجنبها، قال الإمام ابن تيمية: “ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك، فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع”. [مجموع الفتاوى 20/54 ، 10/514].
ومن ثم فإن معرفة حرمة التطبيع، وحرمة التواصل مع عدو محتل غاصب لا تخفى على عامة الناس، وكذلك وجوب جهاده وتحرير الأرض وحفظ العرض واستنقاذ المقدسات من قبضته هو واجب شرعي وفرض ديني لا يجهله أحد، لكن إدارك المآلات البعيدة، ودراسة الواقع بدقة متناهية، وتقدير ما فيه من مصالح قريبة وبعيدة، ومفاسد قريبة وبعيدة هو عين الفقه ولب العقل في مثل هذه المسائل، فما المصالح والمفاسد المترتبة على هذه الزيارة؟ وما أعلى المفاسد لتُفوّت، وما أعلى المصالح لتُحصَّل؟ كل هذا في ضوء إدراك السياق والواقع وموازناته وتقديره الدقيق مع رعاية المآلات القريبة والبعيدة.
رابعا: الرأي يُبنى على علم بدقائق الأمور وحقائق الواقع:
لا يمكن للفقيه أو صاحب الرأي أن يبني رأيه دون علم بتفاصيل الأمور ودقائق المعلومات، فهل الموافقون أو المخالفون صدروا عن معلومات دقيقة؟ وعن فقه بالسياق والحال، وعن تقدير للحدث والمآل القريب والبعيد، هل الفقهاء الذين كتبوا آراءهم سواء فرديا أو جماعيا عندهم وحدات استخبارات، أو لديهم مراكز معلومات واتصال، أو عندهم هيئات سياسية استشارية رجعوا إليها أو على الأقل سألوها ليتبصروا بما لا تبنى الآراء والفتاوى إلا عليه؟
هل هناك امتلاك للمعطيات الاستخباراتية أولا، والجيوسياسية واقتصادية وعسكرية ثانيا لمعرفة حجم الضغوط والإكراهات، والتحالفات الاستراتيجية مع تركيا أو ضدها ثالثا، وكل هذا من باب تحقيق المناط الخاص بالنازلة لمعرفة الواقع قبل تنزيل الحكم الواجب عليه، هذا مع العلم أن اللوبي الصهيوني اليهودي متغلغل في مفاصل تركيا من عهد بعيد، وخاصة في مجال المال والأعمال الذي هو عصب قوة الدول اليوم أكثر من أي وقت مضى، أحسب أن هذا لم يحدث، لا من موافقين ولا من معارضين، وهذا ما يوجب علينا إجراء مراجعات مهمة في الخطاب العلمائي.
خامسا: التفريق بين الأحوال العادية وأحوال الضرورة:
من القواعد المنهجية المهمة في الحكم على الأمور والتعامل مع الأحداث: التفرقةُ بين الأحوال في السعة والرخاء، والتصرفات والقرارات في الضيق وأحوال الضرورات، حينما تكون في سعة وقدرة وتمكين من أمرك يمكنك أن تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد وتنفذ ما ترغب، بلا حسابات دقيقة ولا رعاية لأمور ذات بال، أما حينما تكون في أحوال ضرورة، حينما توشك أن تختنق أو تشرف على الهلاك، فإن الشرع أباح لك مقارفة الحرام بشرطين: عدم إرادة هذا الحرام والركون له والرضا به، وعدم تجاوز الحد إذا زال عنك وصف الضرورة، وهو ما لخصه القرآن الكريم في كلمتين: “غير باغ ولا عاد”.
وهذه التفرقة ضرورية في التعامل والحكم على الأحداث والأشخاص والأشياء، وهذا لا يعني أن يتحول حال الضرورة إلى أصل نستمر عليه، بل يجب السعي الجاد لرفع هذه الحال والوصول إلى الحال العادية، بحيث لا تتلبس بها ضرورات أو إكراهات، وهذا ما يجب أن نراعيه ونحن ننظر إلى طبيعة هذه الزيارة، سواء من الموافقين أو المعارضين.
***
هذه بعض القواعد المنهجية التي لو راعيناها في خطابنا الشرعي العلمائي وبناء الرأي نحوها لتغير حال هذا الخطاب، ولأحدث وعيا غير قليل في ضمير الأمة، ولكان ظهيرا للسياسيين الجادين، وكذلك يكون مناوئا وكاشفا لصبية السياسيين العابثين.
وإذا كانت تركيا يمكنها أن تستفيد من خطابات العلماء الذين أدانوا الزيارة بوصفها ضغوطا عليه أمام العدو، ويفخرون بأنه ما زال في الأمة علماء يرفضون تصرفاتٍ للرؤساء؛ فإن هذا لا يُعفي العلماء وأهل الرأي وقادة الأمة – موافقين ومخالفين – من إعادة النظر في منهجية النظر والحكم على الأحداث والأشخاص والأشياء.
المصدر: مركز الشهود الحضاري