مقالاتمقالات مختارة

استئصال الإسلام في الحياة الثقافية

استئصال الإسلام في الحياة الثقافية

بقلم أ. د. حلمي محمد القاعود

لا ريب أن الإسلام في معظم بلاد المسلمين يعاني من متاعب كثيرة، ومن تضييق شديد، ومن دعاية وتدليس تربط بينه وبين ممارسات العنف والعدوان، فضلاً عن تهميشه أو استئصاله في كثير من جوانب الحياة، وإصرار النخب المثقفة أو التي يفترض أنها مثقفة على تشويه مفاهيمه وقيمه وتصوراته.

إن من يعلن أن الإسلام منهجه وإيمانه يظل متهماً أمام النخب الثقافية التي ترفض الإسلام، أو تؤمن بمناهج غير إسلامية أو قيم غربية، وهذا الاتهام يشكل مناخاً عاماً رسخته بعض الحكومات التي ترى في الإسلام خطراً عليها، أو تضطر لمسايرة قوى كبرى تناهض الإسلام لأسباب شتى فتقضي على النبرة الإسلامية أو تضعفها، وتحل مكانها نظريات أخرى أو أفكاراً تناقضها تراها ملائمة لنظام الدولة؛ ومن ثم يأخذ التهميش والتضييق طابعاً رسمياً أو شبه رسمي؛ فالذي يتبنى الإسلام لا يتمكن من إصدار صحيفة أو إقامة منبر إعلامي أو ثقافي، ولا يستطيع أن يعبر عن أفكاره مثل الآخرين ممن يتبنون النظريات المادية والبشرية، ولا ترحب به صحيفة أو مجلة أو دار نشر رسمية أو تجارية.

لقد استطاعت تقلبات السياسة في القرن الماضي أن تصنع من الإسلام فزّاعة مخيفة لدى كثير من النخب، فضلاً عن العامة، وتفاقم الأمر بعد استبعاد تدريسه من المناهج المدرسية دراسة جادة وتحويله إلى مادة صورية لا تضاف إلى المجموع (في بعض البلدان)، فأهملها المدرسون والطلاب جميعاً، ثم جاءت “كورونا” فأتاحت لبعض الحكومات أن تلغي امتحانها لأنها زائدة عن الحاجة!

بيد أن الأخطر من كل ذلك هو ربط الإسلام بالعنف والإرهاب والتطرف والتشدد من خلال بعض الممارسات الفردية أو المجموعات الشاذة فكرياً، أو تلك التي تحركها الأجهزة الاستخبارية العالمية أو المحلية، فصار الإسلام في الذهن العام رمزاً معادياً للإنسان، ورديفاً للتخلف والقمع والوحشية، هكذا أرادوا له، في الوقت الذي يصورون فيه الغرب وثقافته بالنور والمحبة والإنسانية والتعاطف البشري، فانعكست الصورة، وصار دين الرحمة في دائرة الاتهام، بينما منهج الوحشية الغربي الاستعماري الدموي في دائرة النور!

وضع مقلوب

هذا الوضع المقلوب ساعدت على إبقائه الصحافة وأجهزة الدعاية والنشر الرسمية والعلمانية والتجارية ومراكز التعليم التي تولى السيطرة عليها خصوم الإسلام والجاهلون به، فصار الإسلام على صفحاتها وموجاتها وشاشاتها ومؤسساتها في أحسن الأحوال مجرد مناسبة موسمية تأتي في رمضان أو الحج أو المولد النبوي، وليس عقيدة وتشريعاً ومنهجاً وتصوراً يحكم الإيمان والفكر والسلوك والعلاقات.

من خلال الوزارات المختصة في صناعة المخ القومي مثل الإعلام والثقافة والتعليم يغيب الحديث عن الإسلام بوصفه هوية الأمة، ومحور وجودها، ومنطلق مستقبلها، لتحل مكانه دعوات غريبة مثل علمنة الدولة، والفصل بين الدين والدنيا، والدولة المدنية في مواجهة ما يسمى بالدولة الدينية (وهي دولة لا يعرفها الإسلام، الذي لا علاقة له بالإكليروس أو الحرمان والغفران)، وبعث الانتماءات الشعوبية والقُطرية ورموزها القديمة التي مضى عليها آلاف السنين بوصفها بديلاً للهوية الإسلامية، وغير ذلك من دعوات.

في المقابل، لا يتاح الرد على مثل هذه الدعوات والأفكار والنظريات، بل يتاح لها مزيد من التمدد والتكرار، من ذلك مثلاً أن كاتباً طائفياً متعصباً يكتب منذ سنوات مئات المقالات في أبرز الصحف اليومية ترويجاً للعلمانية التي يزعم أنها الطريق لتقدمنا وقوتنا، بينما لا يشير أدنى إشارة إلى افتقاد المواطن إلى حقوقه الأساسية في الحرية والأمن والمشاركة في قضايا بلاده بطريقة حقيقية، متجاهلاً أن العرب منذ محمد علي حتى اليوم لا تحكمهم الشريعة ولا الإسلام!

ويزداد الأمر قتامة حين تنهض دور النشر الرسمية والعلمانية بنشر الكتب المعادية لدين الأمة أو تلك التي تتودّد إلى الطائفية وتكرسها في المجتمع تحت مسمى التنوير والتجديد والتسامح، دون أن تتسامح بنشر الكتب التي تقدم جوهر الإسلام، وتكشف عن عطائه الإنساني الزاخر، إنها ترفض ما يكتب دفاعاً عن الإسلام بحجة الرجعية والظلامية والأصولية.. إلى آخر هذه الأوصاف التي اخترعها الشيوعيون العرب وأشباههم، إرهاباً لمن يحملون الهوية الإسلامية، وينافحون عنها.

لقد أضحى الحقل الثقافي أو الحياة الثقافية بعامة ترفض مصطلح الإسلام، وتزعم أنه مصطلح طائفي! وهو دين الأمة كلها، وتتقي وجود أدب إسلامي، أو تصور إسلامي أو رؤية إسلامية، وتربط ذلك ببعض الجماعات أو التنظيمات، متجاهلة أن هناك قرآناً كريماً وسُنة شريفة وسيرة نبوية وتاريخاً إسلامياً.. غاية ما يسمح به هو “الإسلام منزوع الدسم”؛ أي الذي يتكلم في الفضائل المجردة والعبادات الفردية وفرائض الوضوء، إنهم يريدون إسلاماً بعيداً عن الحياة!

حدثان كاشفان

قد يتساءل بعضهم: وأين وسائط التعبير والنشر الإسلامية؟

الإجابة عن ذلك لا تسرّ، وسأخصّص لها صفحات أخرى إن شاء الله.

لكني معنيٌّ هنا بالإشارة إلى حدثين ثقافيين وقعا في أكتوبر 2020م، يؤكدان ما سبق، ويتعلقان باثنين من الأدباء؛ أحدهما مسلم، والآخر شيوعي، وقد فاز كل منهما بجائزة إحدى الجهات الأدبية.

الأول كاتب من الوزن الثقيل، ويمثل قيمة عالية بموازين الأدب الرفيع، وقد فاز بجائزة رمزية لكنها ذات دلالة، ولكن مشكلته في مفهوم الشيوعيين وأشباههم من المهيمنين على الحياة الثقافية أنه “مسلم”، ويتبنى التصور الإسلامي الناضج الفائق، وقد قوبل فوزه في البداية بصمت مطبق، ثم تحول الصمت إلى حالة هستيرية يقودها الشيوعيون الحكوميون وأشباههم (أغلبهم ملحد أو طائفي، أو موالٍ لثقافة الاستعمار)، من الهجوم الرخيص على شخص الفائز المسلم، وتقمصوا دور المخبر الغبيّ الذي كان يمثله إسماعيل يس في أفلامه الكوميدية، فقدموا بلاغات كيدية، وتناسوا أن الأجهزة المعنية تعلم دبة النملة في حياة كل من يحملون القلم!

الآخر صحفي كتاباته متواضعة، مُنح جائزة باسم أديب عراقي “سرياني” اشتهر بكتابة ما يُسمّى “قصيدة النثر”، وقالت لجنة التحكيم في بيان دورتها الثالثة: “مُنحت جائزة (…) للشعر وترجمته للعام 2020م إلى (…)؛ وذلك لكون قصيدته الحرّة (غير العروضية، رغم أن بعضهم يدعوها قصيدة نثر، عن جهل أو تماهياً مع روح القطيع) (تأمل الأدب الرفيع في وصف المخالف!) قد أخذت إيقاعها الخاص، لغة وموسيقى وبساطة، كتعبير عن ذائقة جديدة، ذائقة معبّرة عن دقائق الحياة اليومية، مبيّنة لنا المصائر البشرية وهي تهتزّ معلقة، بصوت خافت أقرب إلى الصمت أو التلاشي، قصيدة مترفعة عن السائد في لغة الشعر اليوم، وفي إطلالة تذكّرنا بإطلالة محمد الماغوط في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، مبتعداً عن طلب الشهرة والانتشار، مكتفياً بالظلّ الذي يقيه شمس الظهيرة (…)”.

وأشارت الأخبار التي ظلت تأتي تترى لأيام عديدة أن أمانة الجائزة تتكون من أصدقاء (الشاعر) العراقي الكبير في أوروبا وأمريكا، ويتزامن الإعلان عنها سنوياً مع ذكرى رحيله، وتتولى “دار الجمل” التغطية الإعلامية للجائزة وحفل تسليمها، وتمنح جائزة تقدر بأضعاف ما منح للفائز المسلم، ولكنهم يستقلونها! وتم وصف الفائز بالشاعر المحترم المتحقق عالمياً المتجاهل في الداخل!

لم يتوقف الأمر عند التهنئة بالفوز، واستقلال القيمة المادية للجائزة، وإغداق الأوصاف الكبيرة على الفائز الذي لا أظن أحداً يحفظ له سطراً أو فقرة مما كتبه، أو يحتفظ في ذاكرته بفكرة أو معنى مما نشره! فقد هاجت الشلة الاستئصالية المهيمنة على الدعاية والصحافة، وهاجمت هيئة النشر الرسمية واتهمتها ضمنياً بالتقصير في حق الفائز (الملائكي!)، وتساءلت في صيغة مظلومية للفائز: هل تنشر هيئة الكتاب أعمال الشاعر فلان؟ كما نقلت عن أحد الشيوعيين الحكوميين سؤالاً تهكمياً ساخراً: ماذا يضير الهيئة العامة للكتاب أو قصور الثقافة أن تنشر دواوين (فلان) ليقرأها الناس والعالم؟

وتكتمل حبكة التهكم والسخرية من عقول الناس بافتراض أن المذكور لا يحبذ نشر أعماله! وقد توجهت الدعاية الديماجوجية بالسؤال إلى الدكتور رئيس الهيئة الرسمية للنشر، الذي أفاد بأن الهيئة ترحب بشدة بنشر دواوين الشاعر الذي وصف أعماله بأنها مهمة، وفي حال موافقته؛ فإن الهيئة سوف تسعى لإصدارها في أقرب وقت، وتوالت الدعاية بالحديث عن حفاوة المثقفين الشيوعيين (الحكوميين!) المهيمنين على الحياة الثقافية بالجائزة ورأوا فيها انتصاراً للشعر ولتجربة الفائز اللافتة!

وقال شيوعي حكومي يدعي الانتساب إلى الشعر والترجمة: “إن إطلاق جائزة تحمل اسم الشاعر العراقي الراحل هي خطوة مهمة لصالح الشعر العربي عموماً ولصالح الترجمة” (كيف؟ لم يقل لنا).

وتغزَّل بعضهم في الفائز، فوصفه بالضوء الطليق المتباعد، المتعفف، المستغني، المنعزل، المتعالي.. لكن قصيدته هي الأكثر حضوراً وتأثيراً، في كثير من القصائد يسخر من صورة أمه أو صورة أبيه، يقسو أحياناً، لكن جلباب أمه المتسخ بالعرق والتراب، يمسك به باكياً، وهي تخرج غاضبة من البيت، هو أعمق صورة للحب!

ثم انتفضت صحيفة أدبية أسبوعية لتجعل الفائز موضوعاً رئيساً، وتضع صورته بحجم الغلاف وتخصص صفحات عديدة لكلامه، وكلام آخرين يتغزلون في إبداعه، وما يسمى شعره، ويصلون به إلى السماء!

إن من تحمل الجائزة اسمه لا يقول الشعر بمعناه المعروف نقدياً وتاريخياً، فهو يكتب كلاماً نثرياً قد يكون مفهوماً ومقبولاً، لكنه لا يعرف طريقه إلى الموسيقى والقافية وتوليد الصورة المبتكرة. اقرأ مثلاً قوله:

وإذا ما صرخنا

إذا ما أفصحنا عن أصواتنا الأخرى

فحتى الملائكة

ستخفي رؤوسها تحت أجنحتها الثقيلة

لئلا تسمع الصرخة

غير مسموح لك أن تعبر عن إسلامك في الحياة الثقافية ولو كنت في موهبة محمد إقبال، أو مصطفى صادق الرافعي، الإسلام محرّم عليك؛ لأنه يعني في مفاهيم الشيوعيين تلامذة الصهيوني “هنري كورييل” والعلمانيين والمرتزقة في الحياة الثقافية أن تقع تحت طائلة اتهام يقودك إلى جهنم الاستبداد والقمع والتغييب.

كيف تستطيع أن تقول: أنا كاتب مسلم أو أديب مسلم والاستئصاليون الشيوعيون وأشباههم من المسيطرين على ثقافتنا يسمون الإسلام بالإظلام والظلام والجمود والرجعية والطائفية والأصولية والسلفية والتطرف والتشدد والتعصب والإرهاب! أبسط الأشياء أن يقدموا ضدك بلاغات مكتوبة بأنك تنتمي إلى “داعش” أو “القاعدة”، أو هذه الجماعة أو تلك، ونسوا –كما قلت من قبل- أمراً بسيطاً، وهو أن السلطات في بلادنا العربية تعلم دبة النملة في حياة كل من يحمل القلم، ولكن شهوة الاستئصال تقودهم إلى الإرهاب الفكري ومهنة المخبرين الأغبياء ليظلوا على حجر الأنظمة، وحلب بقرتها الثقافية.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى