اختصار كتاب سابغات .. كيف نتعامل مع الشبهات الفكرية المُعاصرة
قراءة عبد المنعم أديب
جهودٌ كثيرةٌ تُبذل من المُسلمين للوقوف أمام الشبهات المُوجَّهة ضد الإسلام؛ في الماضي وفي الحاضر. ومن الكُتُب المشهورة بين الناس الآن كتاب “سابغات”، لمؤلِّفه الأستاذ “أحمد السيِّد”. ولنْ أطيل في المقدمة اكتفاءً بالاختصار الذي أقدِّمه هنا. وأنبِّه إلى أنَّه اختصار كامل، ليس فيه من فكرةٍ في الكتاب إلا أدرجتُها فيه بإذن الله.
وتقف صعوبتان ما أمام تلخيص هذا الكتاب؛ وهما طبيعة الكتاب التفتيتيَّة. فالكتاب في الأصل موادّ متناثرة أعدَّها الأستاذ المُؤلِّف لدورات، ثُمَّ حوَّلها لكتاب. لذا ترى أنَّ الكتاب ذو بنية هيكليَّة، اعتمد الكاتب فيها على إيراد نقاط شاسعة التنوُّع في حيِّز ضئيل (قد لا يصلح له كما عبَّر بنفسه أكثر من مرَّة). وتأثير ذلك على شكل الموضوعات وعلى محاولة اختصاره لا تحتاج إلى بيان.
الصعوبة الأخرى أنَّ الكتاب موضوعات لا فصول، هذه الموضوعات ذات اتساع في المجال يكاد يُوصَف بالهائل. لكنْ -حتى لا نتيه- لجأتُ إلى تقسيمه إلى جزء نظريّ وآخر عمليّ تطبيقيّ مُختصّ بالرد الفعليّ على الشبهات. ومن حيث الموضوعات أرى أنَّ به أربعة موضوعات: قسم معالم الموجة -التي قسَّمتُها للفهم-، وقسم القواعد، وقسم الردود، وقسم الخلاصات. وإليكم الاختصار، وبالله نستهدي جميعًا ونستعين.
المقدمة
لمْ تتناول مقدمة الكتاب شيئًا إلا استمرار الشبهات الفكرية في حاضرنا، وضرورة صناعة وقاية قويَّة نصدُّ بها عنَّا شرَّها. وبذلك جاء التشبيه (في النظر البلاغيّ استعارة تصريحيَّة) بين الدُّرُوع الواسعة الطويلة “سابغات”، وبين الوقاية من الشبهات التي تحاول الفتك بعقول المسلمين.
معالم الموجة التشكيكيَّة المُعاصرة
قسَّمتُ العنوان الأوَّل إلى المعالم وحدَها، ثُمَّ أوردتُ طبيعة التأثُّر وحدها؛ لأنَّ الكتاب خلط الاثنين تحت عنوان واحد. وتتلخَّص -حسب ضمِّي لها- معالم الموجة الجديدة في أربعة:
1-أنَّها موجة هدميَّة لا بنائيَّة، فوضويَّة لا منهجيَّة؛ تعتمد على هدم التصوُّر الإسلاميّ دون تقديم أيّ بديل. ويُمثِّل الكاتب لها بإنتاج “عدنان إبراهيم”. ويستغرب المؤلف من موقف المُهاجمين؛ فمتى قلبنا الوضع، وأردنا الهجوم على الإلحاد مُريدين هدمَه؛ فلن يبقى منه حجر باقٍ في مكانه.
2-لا سقف لهذه الموجة؛ فنجدها تُوجِّه الهجوم بكلِّ عبثيَّة وضراوة، لأنَّ الهدف هو هدم هذا التصوُّر في عيون المُؤمنين به. لذا يضمُّ الكاتب سمةً أخرى؛ أنَّها تتوجَّه في غالبها إلى أصول الإسلام وثوابته، لا إلى مذهب من المذاهب الإسلاميَّة، أو شخصيَّة أو إمام، إنَّما على البناء كلِّه.
3-تتستَّر هذه الموجة وراء شعارات برَّاقة لجذب الناس. مثل: الحريَّة، وتحرير العقل، ونقد الموروث.
4-تتفاوت أهدافُ القائمين عليها؛ فبينما يستهدف بعضُهم إخراجَ الناس من الإسلام، يُروِّج البعضُ هذه الشبهات من منظور حُسن النوايا -يقصد مع عدم التثبُّت وقلَّة التحرِّي-.
طبيعة التأثُّر بهذه الموجة
1-يأخذ التأثُّر بها أشكالًا بين التخفِّي والإعلان؛ الذي يرى الكاتب ازدياد وتيرته في السنوات الأخيرة.
2-ميدانها الأكبر هو وسائل التواصل الاجتماعيّ (يقصد من حيث الوسيط)، فإنَّها تُصدِّر الشبهات بلا تفرقة في المرحلة العُمريَّة، كما أنَّها تعبُرُ حدود المكان. وهذا الميدان أيضًا يُخفِّف من أثر “الموانع الجمعيَّة المُفتَرَضة”، ويقصد بها المسجد، والمدرسة، والأُسرة. (يقصد التي تصدُّ هذه الشبهات بشكل افتراضيّ من خلال مُمارسة السلوك الجماعيّ).
3-أغلب المتأثِّرين بها من الشباب؛ بما يُنبئ بمُستقبل خطر إنْ لمْ نتدارك المُشكلة.
4-ينقسم المتأثِّرُون بها إلى قسمَيْنِ: العابثون في الحياة تستُّرًا بتلك الشبهات لتسويغ عبثهم، والمتأثرين فكريًّا حقيقةً. لذا لا يصحُّ أنْ نُعمِّم الأحكام ونطلق الاتهامات دون تفرقة. (كتاب ميليشيا الإلحاد).
الخير المُنطوي ضمن موجة الشبهات الفكرية المُعاصرة
هناك خيرٌ مُنطوٍ في هذه الموجة، رآه الكاتب في الآتي: إعادة الاقتناع بالإسلام، لا الإيمان تقليدًا. ويُمثِّل لهذا بإيمان الصحابة عن اقتناع وتغيُّر حياتهم على أساسه. وكذا بثُّ رُوح البحث والحوار والمُناظرة. وكذا استنهاضُ همَّة الأُمَّة إلى المعرفة الشرعيَّة والدفاع عن مُقدَّساتها. وكذا إعطاءُ فرصة للدُّعاة لمُراجعة أنفسهم من حيث أهليَّتهم وثقافتهم، ووسائل دعوتهم.
أسباب التأثُّر السلبيّ بالشبهات الفكرية المُعاصرة
وهي عنده ثلاثة أنواع، ألخِّصها في الآتي:
-النوع الأوَّل مُؤثِّرات خارجيَّة: تأتي أوَّلًا شبكات التواصل الاجتماعيّ بما أتاحته من إمكانات هائلة للتعرُّف على هذه الشبهات، وبما فرضتْه (يقصد من سلوكيَّات فكريَّة خاطئة) مثل مبدأ “خالِفْ تُعرَف”، الذي يسلكه الكثير من الشباب ليتميَّز عن مُحيطه. وتأتي الأفلام والروايات بما فيها من عُنصر الإمتاع، وهي تصنع تأثيرًا غير مُباشر بنقلها للثقافة الأجنبيَّة دون تمييز. ونجد كذلك تأثير الدراسة المُباشرة في العالَم الغربيّ، بما في مقعد “التلميذ” من فتح لباب التلقِّي الجيِّد والرديء، خاصَّةً دون تأصيل شرعيّ.
ومن المُؤثِّرات الخارجيَّة أيضًا انتشار الشهوات المُحرَّمة نتيجة انفجار وسائل الإغراء الجنسيّ، التي تُغرق الشباب وتُبعدهم عن التكاليف الشرعيَّة. ثُمَّ تُدخلهم في مرحلة تأنيب الضمير التي تدفع إلى التخلُّص من مصدره كُليَّةً بالخروج الزائف عن الدين، أو إنكار عنيد للحساب والآخرة لتغطية وتبرير الغوص في تلك الشهوات.
ومن المؤُثِّرات أيضًا التقدُّم الماديّ للعالَم الغربيّ، وتأثير الوقوع في هوى الغرب، والشعور بالانهزاميَّة أمامها. ويذهب “عبد الله العجيري” في “ينبوع الغواية الفكريَّة” إلى تأثير أمرَيْن في المشهد: هيمنة النموذج الثقافيّ الأجنبيّ، وضعف التسليم لله ورسوله. مِمَّا يؤدي إلى مُحاولة تشكيل الإسلام وفق هذه الأنظمة: الإسلام الاشتراكيّ، الإسلام الديمقراطيّ. (كتاب سلطة الثقافة الغائبة).
-النوع الثاني مُؤثِّرات داخليَّة: مثل ضعف اليقين؛ الذي نراه في التهاوُن في أداء بعض العبادات. وهذا الضعف يُوهِن المُسلم أمام موجات التشكيك. وكذلك تلعب المشكلاتُ النفسيَّة والضغوط الاجتماعيَّة دورًا؛ حيث تزيد من هشاشة المُقاومة لدى المُسلم، وترفع عنده شعور السخط على قضاء الله. وكذا نجد فيها ضعف الجانب التعبُّديّ، خاصَّةً أعمال القلوب التي تعزِّز لذَّة الإيمان لدينا. ومن أهمّ المُؤثِّرات النفسيَّة الفراغ الوقتيّ والذهنيّ والرُّوحيّ الذي يسوِّغ قبول الشبهة، مهما كان تهافُتها وسقوطها.
وقد أفرِّق (لمْ يذكر هذه التفرقة، ذكرتها للتسهيل) هنا بين مؤثِّراتٍ داخليَّة نفسيَّة -التي ذكرتُها قبلُ-، وأخرى داخليَّة عقليَّة. وممَّا أدرجه الكاتب فيها: ضعف أدوات البحث والتوثيق وغياب العقل الناقد، وكذا ضعف العِلم الشرعيّ؛ الذي يمهِّد للاضطراب المنهجيّ والمعرفيّ.
-النوع الثالث، جوانب النقص في الدعوة والمُعالجة الشرعيَّة: فنجد فجوةً بين المتخصِّصين الشرعيِّين وبين عُموم الشباب، وغياب فكرة “القدوة” التي تحقَّقتْ بوجود النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- نفسه، وقلَّة اللقاءات المفتوحة بين الطرفَيْنِ (مثَّل لها بمُحاضرات أحمد ديدات). وكذا قلَّة تنويع الأساليب المُستخدمة في الدعوة، وضعف الخطاب الشرعيّ العقليّ المُبرهَن.
سمات الخطاب الدينيّ المُؤثِّر
ومن النقطة الأخيرة تفرَّع الكاتب لهذه النقطة، مُدمجًا معها النقطة التالية. وقد فرَّقتُ بين الاثنين مخافة الاختلاط في العرض. وأدرج سمات الخطاب في الآتي: الاهتمام بالخطاب العقليّ، مع علمنا أنَّ الأدلَّة النقليَّة تُعزِّز هذا الخطاب وترتسم على نظمه، ومثَّل بآيات إثبات البعث بالعقل في القرآن كقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ). ومن سماته الوعي بحقيقة التساؤلات المطروحة في الساحة، وبذلك يستهدف الخطيب هذه التساؤلات بدل الحديث عن مشكلات لا قيمة لها. ومراعاة تفاوُت المُخاطَبين بهذا الخطاب، واتخاذ ما يُقرِّبهم منه لا ما يُنفِّرهم. ومُقابلة الحُجَّة بالحُجَّة لا بالشتم والسبّ؛ اللذَيْنِ يؤثِّرانِ سلبًا على الخطاب. وأخيرًا الرغبة الصادقة في هداية الناس من الداعية.
طُرُق مُخاطبة العقول
قسَّمها ثلاثةً. فمنها ما يعود إلى طريقة الخطاب المُوجَّه وأسلوبه: مثل استخدام السؤال لإثارة الانتباه وجذب المُتابعة (مثل حديث: أتدرون ما المُفلِس؟)، واستخدام القياس وضرب الأمثلة (مثَّل لها بالإلكترون الذي نشعر به ولا نراه على قضيَّة الغيبيَّات)، والاستخدام الجيِّد لمهارات الإلقاء والإقناع، وبناء المُقدِّمات السليمة لتؤدي إلى نتائج سليمة.
ومنها ما يعود إلى طريقة إبطال أقوال المُخالفين: مثل إبراز التناقُض العقليّ أو المنهجيّ (مثَّل لها باعتماد مُنكِر السُّنة على السُّنة نفسها في استدلاله)، وإبراز اللوازم الفاسدة لأقوال الخُصوم (مثَّل لها بفساد سؤال المُلحدين ومُنكري البعث عن مصير الظالمين، واستنكارهم الظُّلم). ومنها ما يتعلَّق بالاهتمام بحدود العقل -لأنَّنا نتحدث عن مُخاطبة العقول-، ودوره كمصدر للمعرفة، وعلاقته بالنقل وبالغيبيَّات.
كيف نتعامل مع الشبهات الفكرية المُعاصرة؟
هو الموضوع الثاني في الكتاب. وقسَّمه إلى ثلاثة أنواع من القواعد؛ وقائيَّة للبُعد عنها، وعلاجيَّة متى وقعت الشبهة، وثالثة لخطاب المُشكِّكين.
أولًا: قواعد وقائيَّة من الشبهات الفكرية المُعاصرة:
1-تعزيز اليقين بأصول الإسلام: عن طريق طرح دلائل الإسلام بصورة عقليَّة. وعن طريق إحياء عبادة التفكُّر في آيات الله الكونيَّة عن طريق المواد المسموعة والمرئيَّة (مثَّل بحلقات مصطفى محمود)، وكذا إشاعة عبادة التفكُّر في آياته الشرعيَّة، وربط الناس بالقرآن (جهود مركزَيْ تدبُّر وتفسير)، ومطالعة كُتُب إعجاز القرآن القديمة (الرُّماني، الباقلاني، وغيرهما) والمُعاصرة (النبأ العظيم، محمد عبد الله دراز). والاهتمام بالحديث عن الله وصفاته في الدعوة وعبادات القلوب، وكذا تتبُّع قصص المُسلمين الجُدد (حلقات برنامج “بالقرآن اهتديتُ” لفهد الكندري).
2-تكوين العقل الناقد الفاحص المُدقِّق، وهو مُفارق للعقل المُشكِّك ذي التفكير السلبيّ. (كُتُب آداب الجدل والمناظرة).
3-التأصيل الشرعيّ: من دراسة أصول الفنون الشرعيَّة (العقيدة، وأصول الفقه، والفقه….)، وتسهيل ذلك عبر مُحاضرات مُختَصَرة (جهود عامر بهجت)، وضرورة تثبيت أصول المسائل العلميَّة الكُبرى التي بدأت الموجة الجديدة تقدح فيها، في كُتُب مداخل العلوم.
4-تحديد مصادر التلقِّي والمعرفة، وموقف الإسلام من كلِّ مصدر؛ فليس الحسّ والتجربة وحدهما مصدرَيْ المعرفة كما يُشاع (كتاب مصادر المعرفة في الفكر الدينيّ والفلسفيّ، د/ عبد الرحمن الزنيدي).
5-عدم التعرُّض لخطاب الشبهات من جانب غير المُتخصِّصين (يقصد ابتداءً من نفسه) ففيه مخاطر كثيرة، وكثير من الناس زلَّت أقدامهم بهذا التعرُّض.
6-القراءة الوقائيَّة في كُتُب الردود على الشبهات بشروط: أنْ تكون الشبهات مُعاصرةً ومُنتشرةً، وأنْ تُجمِلَ الكُتُبُ في ذِكر الشبهة وتُفصِّل في الردّ، وأنْ يكون الردُّ مُحكَمًا. (كتاب السنة ومكانتها، مصطفى السباعي، وكامل الصورة للكاتب نفسه).
7-ترتيب هَرَم الغائيَّات الكُبرى على حسب مُراد الله، لا على حسب هوى الإنسان. حتى إذا تعارَضَا بادَرَ الإنسان -الذي يُرتِّب الغائيَّات على ما يهوى- إلى اختيار مراده هو. وهو سبب في كثير من الاستشكالات في الشبهات، مثل حُكم الردَّة والجزية. (كتاب مآلات الخطاب المدنيّ، إبراهيم السكران).
8-تعزيز البرامج الجماعيَّة التي تُغني المعرفة وتسدُّ أبواب الفساد. مثل برامج القراءة الجماعيَّة، والأندية الثقافيَّة. (ومثل البناء المنهجيّ الذي يشرف عليه الكاتب نفسه).
9-الدعاء والابتهال إلى الله بجادة الصواب.
ثانيًا: قواعد للتعامُل مع الإشكالات والشبهات بعد وُرودها:
- استعمال التفكير الناقد والتوثيق العلميّ الذي يقلِّل من قبول الدعاوى المُتهافتة، مثل ردّ أحاديث “مُعاوية بن أبي سفيان” لطعن النبيّ فيه، فهذا الخبر غير ثابت، وكذا التشكيك في السُّنة لإحراق “عُمر بن الخطاب” صحُفًا فيها أحاديث، وهو خبر غير صحيح. كما يساعد في ردّ الشبهات المُعتمدة على خبر صحيح، لكنْ تلاه استدلال فاسد، مثل الاستدلال بالنهي عن كتابة السُّنة على عدم حُجِّيَّتها.
- سؤال المُتخصِّصين ذوي المعرفة والخبرة.
- مراجعة الجهود السابقة في الرد؛ لأنَّ غالب الشبهات رُدَّ عليها من قبل، خاصةً الشرعيَّة (موسوعة بيان الإسلام).
- ردُّ المُتشابِه إلى المُحكَم؛ مِمَّا يُلزمنا باستعراض كامل النصوص الخاصة بأيَّة مسألة حين نبحث الشبهة فيها.
- التماسُك أمام الشبهة التي لا نعرف جوابها بعدُ؛ فعدم علمنا بجوابها لا يعني عدم وجود الجواب.
- التفكُّر في سلبيات الانتقال إلى الأفكار المُخالِفة للإسلام؛ فمُخالفة الإسلام الجُزئيَّة أو الكُليَّة لا تحلُّ أيَّة شبهة، بل تؤدي إلى نتائج أشدّ إظلامًا.
- عدم مُساواة وسواس الأفكار مع الشبهة في التعامُل. فالشبهة يُردُّ عليها، أمَّا الوسواس فيصدر من النَّفس، ويجب الإعراضُ عنه؛ لأنَّه يحمل النفس على قبول الشبهة.
ثالثًا: قواعد حواريَّة وجَدَليَّة مع أصحاب الشبهات ومَن يبثُّها:
- استيعاب مذهب المُحاوِر من مادَّته كاملةً (كُتُب، مواد مسموعة، ومرئيَّة).
- الاتفاق على قاعدة مُشتركة في الحوار. كالاتفاق على أنواع الأدلَّة المُجازة من الطرفَيْن (أدلة محسوسة، معقولة….).
- تحرير محلّ النزاع؛ بفَهم كُلِّ طرفٍ قولَ الآخر، وتحديد عَلامَ نتنازع، وتحديد الهدف المُرتجى من الحوار.
- التدقيق في كلام الطرف الآخر، ومعرفة مُنطلقاته، وطريقة استدلاله؛ لتسهيل كشف أيَّة تناقضات.
- عدم الاكتفاء بالدفاع، بل الهجوم على مُنطلقات الخصم.
- عدم التسليم بمقدمات باطلة. كقول: الله موجود، وكلّ مَوجُودٍ له مُوجِدٌ، بل الصحيح: كلّ حادِثٍ له مُحدِثٌ.
- تحرَّ بيانَ الدليل من الادعاء الذي تُواجهه، وكذلك تحرَّ الصحةَ في النقول التي أتى بها.
- التنبُّه من الاستدلال الانتقائيّ بالنصوص الشرعيَّة؛ فإنَّه سلوك شائع لدى الملحدين والمُنصِّرين. مثل الاستدلال بقوله (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) على أنَّ الإنسان مُجبَر.
إضاءات تهمُّ المُدافِعَ عن الإسلامِ وثوابتِهِ
أورَدَ أربع إضاءات: الأولى عِظم فضل الردّ على الشبهات، ودخوله في باب الجهاد، وكذا فالله نفسه أجاب على الطاعنين في ذاته ودينه في كتابه الكريم. والثانية: يجب أنْ ينتبه المُدافع أنَّه يُدافع عن الإسلام لا عن نفسه؛ فيجب عليه تقديم الأمر كما هو في الإسلام. والثالثة: ليس على الداعية أنْ يستجيب الناس لما يقول، بل عليه أن يجتهد ويدعو ويُعلِّم. والأخيرة: اهتمام الداعية بسلوكه الشخصيّ، والتزامه بالأخلاق الفاضلة؛ ليكون قدوةً حسنةً.
الجزء التطبيقيّ في الكتاب
أصلانِ ومُنطلقانِ للإجابة عن الشبهات الفكرية
هذا العنوان ليس موجودًا في الكتاب، بل بدأ الكاتب استعراضَهما قبل تناوُل الشبهات. وهنا اختصارهما:
الأصل الأوَّل: أدلَّة وجود الله:
1-دليل الفطرة: الفطرة تدلُّ على وجود الله من ثلاث جهات: أنَّ الناس كلَّهم يمتلكون معارف أوليَّة ضروريَّة لا تختلف، مثل: الجزء أصغر من الكلّ، ولكُلِّ حادِثٍ مُحدِثٌ. هذه المعارف تدلُّ على الله من طريقَيْنِ: النظر في الكون لمعرفة أنَّ له مُحدِثًا، ووجود هذه المعارف نفسها يدلُّ على مُوجِدِها في نفوسنا. والجهة الثانية أنَّ العبد ضعيف مُحتاج للخالق الهادي، هذا الافتقار ذاتيٌّ فطريٌّ ظاهرٌ في كلّ الحضارات، والتي نرى عباداتها لكيان أسمى بسبب تشويه فطرتها. والجهة الثالثة وجود الغرائز والأخلاق في الحيوان والإنسان.
2-دليل إيجاد المُحدَثَات: الكون حادِث، ولا بُدَّ له من مُحدِث؛ إعمالًا لمبدأ السببيَّة. وحدوث الكون تتفق عليه غالب الأوساط العلميَّة. (كتاب شموع النهار، عبد الله العجيري).
3-دليل الإتقان: ليس الدليل في حدوث الكون فقط، بل في مدى دقَّته وإتقانِه التامّ، وانتظام حركته.
4-دليل العناية: يدلُّ النظرُ في الكون على تسخير كافَّة إمكاناته للإنسان، وكأنَّه مُعتنًى به من مُعتنٍ.
الأصل الثاني: مُقدمات في الحِكمة والعدالة الإلهيَّة:
لا بُدَّ في هذا الموضوع من الإقرار بعدد من الاعتقادات: منها الإيمانُ التامُّ بوجود الله، والإيمانُ بكمال الله في ذاته وفي أفعاله، والإقرارُ بقصور الإنسان ونقصه بدليل بحثِهِ عن الكمال، واكتشافِهِ النقصَ في أفعاله، والإيمانُ أنَّ الله أرسل رُسُلًا وأوحى إليهم بهداية الناس مُؤيَّدين بالمُعجزات. هذه السلسلة من الإيمانيَّات تنفي الشكّ في حكمة الفعل الإلهيّ. وقد مثَّلَ الكاتب بشركتَيْ آبل وسامسونج؛ حيث قد يجد أحدُنا في أجهزتهما بعض ما يوحي بانعدام الفائدة منه، لكنَّ أحدًا لا يشكُّ في هذا ثقةً في أنَّ الشركتَيْنِ لن يصنعا عبثًا؛ فكيف بالله وصنعه؟!
النوع الأوَّل من الشبهات: حول أصل الإسلام:
الباب الأوَّل: حول وجود الله وحكمته. وهو قسمان.
القسم الأوَّل: وجود الله: في الآتي:
1-سؤال مَن خلق الله: ليس صحيحًا؛ فالله لمْ يكُنْ مخلوقًا ليُسأل عن خالقه، وهو قائم على التسوية بين “لكُلِّ حادثٍ مُحدِثٌ”، وبين “لكُلّ مَوجُودٍ مُوجِدٌ”. ويؤدي إذا استرسلنا معه إلى عدم وجود الكون؛ فسنسأل: ومَن خلَق خالِقَ الخالِقِ؟ ثُمَّ مَن خلقَ هذا الأخيرَ؟ وهكذا.. فلن يكون الكون موجودًا. وقد قرَّر الإسلام لله صفة “الأوَّل” ليملأ هذا التصوُّر إسلاميًّا.
2-دعوى الاستغناء بالقوانين الكونيَّة عن الخالق: ويُردُّ بأنَّ القوانين مُفسِّرة للكون، لا مُنشئة له، كما سيطرح هذا سؤالًا صحيحًا: مَن سنَّ هذه القوانين للكون ابتداءً؟
3-نظريَّة التطوُّر الداروينيّ: صارت عقيدةً لا يطالها النقاشُ، في الوقت الذي نراها لا تصل إلى حدِّ الحقيقة العلميَّة، وأدلَّتها تتفاوت قوَّةً وضعفًا، ونرى كثيرًا من العلماء التجريبيين يدحضها (مثل “مايكل بيهي” في كتابه “صندوق داروين الأسود”). وعلى جانب آخر نرى بعض المُسلمين يحاول التوفيق بينها وبين الإسلام، والقول بتطوُّر مُوجَّه من الله؛ رغم ذلك نجدها تصطدم بحقيقة قرآنيَّة هي خَلقُ اللهِ آدمَ خلقًا مُباشرًا لا عن تطوُّر. (التطوُّر المُوجَّه، هشام عزمي).
4-فرضيَّة الأكوان المُتعدِّدة: أورد حوارًا بين “ريتشارد داوكنز” و”ستيفن واينبرغ” يدلُّ على التقليل من احتماليَّتها بشدَّة، مع عدم اعتراف كبار الملاحدة الفزيائيِّين بها.
القسم الثاني: حول حِكمة الله:
1-سؤال لماذا خلَقنا الله وأمرنا بعبادته: اعتمد على نقاط الأصل الثاني التي سبقتْ. وأنَّ إيجاد الكون أكمل من عدم إيجاده، وأنَّ الحِكمة بائنة من كلِّ خلق الكون وتدلُّ على وجود غاية لكُلّ شيء، ويُوجِب العقلُ أنْ تتفق هذه الحكمة مع كمال الخالق، ومن كماله أنْ يُعرِّف الخلائقَ عليه بطريقَيْنِ: غرز الفطرة فيهم، والوحي إليهم، وأنَّه لا تُتصوَّر علاقةٌ بين الخالق ومخلوقاته إلا علاقة الخُضوع والشكر والحمد، وهذا ما أراده الخالقُ لمَخلوقِيْهِ، وما أمرك الله إلا بهذا الذي تُوجبه العلاقة بينكما، على كونه مُستغنيًا عن عبادتك.
2-سؤال لماذا تُوجد الشرور في العالَم: يُنبِّه أنْ إذا ألحدَ أحدُهُم فلن تتوقَّف تلك الشرور، وأنَّ هذه المُشكلة تكون لدى المُلحد لا المُؤمن؛ فالأخير يعتقد بحِكمة الله. ويصوغ الأمر في قواعد: الإرادة الحُرَّة تجعل الإنسان مسئولًا عن الشرور، والشرُّ في الدنيا يأتي لكونها دار نقص وابتلاء لا دار جزاء وثواب، والابتلاءُ في الدنيا يُنقِّي المُؤمنَ كما تُنقِّي النارُ الذَّهَبَ، وهناك شرورٌ لها حِكمةٌ قد لا تتبيَّنُ لنا من النظرة العَجلَى، ويُمثِّل لها بقصَّة سيِّدنا “موسى” مع “الخَضِر”. كما أنَّ المرء قد يتمنَّى أمورًا عندما تأتيه تصير سبب شقائه، والله لا يخلق شرًّا محضًا. (كتاب مشكلة الشرّ، سامي عامري).
3-سؤال لماذا لم يُجِبْ اللهُ دُعاءَ بعض الناس: الصحيح أنْ يسأل: لماذا تأخَّرت استجابة الدعاء؟ مع مراجعة النفس في أفعالها، ومُضاعفة الجهود الطيبة. ولا يصحُّ أنْ نُحكِّمَ قضيَّة استجابة دعاء شخصيّ خاصّ في حكمة الله، ويجب أنْ نقرن تفكيرنا في الاستجابة بمسألة الابتلاء المُقدَّر من الله.
4-سؤال كيف نجمع بين القضاء والقدر وبين تعذيب الكافر على كفره: يُنوِّه إلى الربط غير الصحيح بين مُصطلحَيْ القَدَر والجَبْر. فالعقل يُدرك حريَّةَ الإرادة، ويدلُّ عليها إرسالُ الرسالات التي تختبر الناس في إرادتهم، وهذه الإرادة والمشيئة البشريَّة جعلها الله من أسبابه لانبعاث العمل، والأسباب -بما فيها المشيئة الإنسانيَّة- ليست مُستقلَّة عن الله بل داخلة تحت مشيئته؛ فمتى أراد الله عطَّلَ أثرها كما في قصة النار مع سيدنا “إبراهيم”. وهو باب مُتعلِّق بالحِكمة الإلهيَّة التي لا يُحاط بها، والمنهجيَّة الصحيحة هي التسليم لما جاء من الله. (شفاء العليل، ابن القيِّم).
الباب الثاني: شبهات حول القرآن الكريم
ادعاء وجود أخطاء فيه على جهات:
1-أخطاء لُغَويَّة: ويردُّ بأنَّ لسان قريش مُحكَّم وحُجَّة، والنبيّ من قريش. كذا أنَّ قواعد النحو وُضعتْ بعد القرآن لا قبله، وهي مُستمدَّة منه ومن مجموع النقول شعرًا ونثرًا، وكذا فإنَّ اللغة العربيَّة بها لهجات وجميعُها صحيحةٌ (مثَّل بإلزام المُثنَّى الألفَ في جميع أحواله)، كما يلحظ الكاتب أنَّ الأخطاء المُدَّعاة طفوليَّة؛ فهل يُعتقد أنَّ كتابًا شهد له الجميع بالفصاحة والإعجاز يقع فيها؟!
2-أخطاء علميَّة: مثل آية (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) التي يدَّعي البعض أنَّ القرآن فيها يقول: إنَّ الشمس غربت في عين من عيون الأرض. ورغم سذاجة الطرح؛ فالآية تنقل أنَّه “وجدها” أيْ أنَّها رؤية مَن رأى، والمفسرون قد قرَّروا أنَّ الشمس أكبر من الأرض، وأنَّ ظاهرة أنَّ الأرض مَمدودة تأتي من عِظَم الأرض واتساعها، حتى تبدو ممدودةً أمام الرائي، رغم أنَّها كُرة.
3-أخطاء تعارُض الآيات: سببها الجهل بدلالات ألفاظ اللُّغة، ودلالات العموم والخصوص، والجهل بمَجموع نصوص الشرع من القرآن والسُّنة؛ فإنَّ بعضها يُبيِّن بعضًا. (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب، محمد الأمين الشنقيطي).
الباب الثالث: شبهات حول الرسول
القسم الأوَّل: التشكيك في نبوَّته: ويردُّ عليها بدلائل النبوَّة، وهي:
1-برهان صدقه وأخلاقه: يدَّعي النبوَّةَ شرُّ الناس (يقصد الكاذبين) وخِيارُهم (وهُم الأنبياء الحقيقيُّون). وكلُّ أحوال النبيّ تدلُّ على أنَّه من خير الخلق وأصدقهم. يشهد له بذلك أهلُ مكَّة من أعدائه، والمُشكِّكون فيه؛ حيث لمْ يطعنْ أحدُهُم في أمانته وصدقه. وموقف كإنكاره أنَّ الشمس قد كسفت لموت ابنه إبراهيم يؤكِّد صدقه، كذا تبليغه القرآن وبه آيات عتاب له يدلُّ على ذلك أيضًا.
2-براهين القرآن على صدق نبوَّته: حيث تحدَّى به العربَ جميعًا على أنْ يأتوا بمِثله أو ببعض من مِثله وعجزوا، وكذا يدلُّ على صدقِ نبوَّتِهِ أخبارُ الغيب التي أتت في القرآن مُحدَّدةً واضحةً، ولا يمكن أنْ يُغامرَ كاذبٌ بمِثلِ هذه التنبُّؤات الواضحة، وكذا تدلُّ قصصُهُ عن الأُمم السابقة -مع عدم معرفته أخبارهم- على صدق نبوَّته.
3-برهان كمال التشريعات والعقائد والآداب التي جاءت على لسانه، والتي ما يزال الجميع ينهل منها، ويستخرج أسرارها، والتي لا يمكن لخيال بشريّ أنْ يأتي بها من عنده؛ بما توفَّرَ فيها من شموليَّة وصلاحيَّة وإتقان.
4-المعجزات الحِسيَّة: تواترت الأخبار من الصادقين العُدُول الضابطين بوقوع مُعجزات حِسيَّة منه، مثل: تفجُّر الماء بين يدَيْه، وتكثيره الطعام. ولا تُردُّ هذه الأخبار إلا بردِّ غيرها من الأخبار المُتناقلة التي توافرت فيها شروطُ القبول كإثبات مُمارسة “ابن سينا” للفلسفة، و”أرسطو” للمنطق.
5-النبوَّات السابقة المُبشِّرة به: الله أخبر بتبشير النبوَّات به (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). ويُمثِّل لهذا بكلمة “المُعزِّي” وترجمتها، وذكر مكَّة، وجبل فاران.
القسم الثاني: شبهات حول مواقف من سِيرته:
1-زواجه من عائشة وهي صغيرة: الرسول قد تزوَّجها في السادسة، لكنَّه بنى بها في التاسعة انتظارًا لبلوغها، وسنُّ الزواج مَرهُون بالأعراف لا يتعلَّق بمُحدِّد موضوعيّ، وهو مُختلف بين الدول جميعًا. ونرى أنَّ أحدًا من قريش أو اليهود أو المُنافقين لمْ يُنكر هذا على الرسول، وإنَّ مِقدار السعادة والأُلفة والمحبَّة التي حظيتْ به العلاقة ينفي عنها كلَّ سوء. والغريب أنَّ العلاقات الجنسيَّة خارج الزواج لا تُستنكر من أولئك الذين يستنكرون فعل النبيّ.
2-حادثة بني قُريظَة: وادِّعاء الوحشيَّة وقتل الأطفال. ويردُّ بأنَّ سبب قتلهم هو خيانتهم العُظمى للرسول والمُؤمنين في غزوة الأحزاب، بسماحهم للكفار بالمرور وهذا أتاح فرصة لقتل المُسلمين جميعًا. رغم ذلك فالرسول قتل الرجال فقط، دون النساء والأطفال. ونقضُ العهد مع الرسول شمِلَ جميع بني قريظة؛ منهم مَن أبرم الخيانة ومنهم مَن وافق عليها بصمته.
3-زواجه بصفيَّة: يُدَّعى أنَّه تزوَّجها يوم مقتل زوجها دون استبراء. وهذا غير صحيح، بل لفظ الحديث يُصرِّح بالحِلِّ وبالعِدَّة. وقد كانت صفيَّة راضيةً عن الزواج، ناقلةً للأحاديث. مع وجود مَن رفضتْ الزواج من الرسول.
الباب الرابع: شبهات حول التشريع الإسلاميّ: جانبان:
1-ادِّعاء مَظلوميَّة المرأة في الإسلام: ومن أبرز مظاهرها قضيَّة الميراث. ويردُّ عليها بأنَّ المرأة في حالات كثيرة ترث متساويةً مع الرجل، وفي حالات أخرى ترث أكثر منه، وأنَّ الذَّكَر هو المُطالَب بالمَهر للمرأة في الزواج وهو المُلزَم بالإنفاق عليها وإنْ كانت غنيَّةً، وأنَّ مَنشأ الاستنكار هي فكرة التساوي المُطلَق بين الرجل والمرأة في كلّ شيء. وهذا مُخالِف حتى للطبيعة التركيبيَّة لهما، والإسلام قد شرَّع التشريعات على حسب الحاجة: فشرَعَ لها الزينة والذَّهَب، على حين منعهما على الرجال، وأوجب الجهاد على الرجال دون النساء. وهنا يتعجَّب الكاتبُ أنَّ مناصب الرئاسة في الغرب للرجال إلا في حالات نادرة؛ فهل هُم غير مُقتنعين بما يقولون؟!
ويُبيِّن وجوه التدليس عند أصحاب الدعوى في: الخلط بين عادات بعض المُنتسبين للإسلام وبين أحكام الإسلام، وعدم ذِكر جوانب تكريم الإسلام للمرأة، وتجاهُل الأحكام التخفيفيَّة على النساء مُقابل أخرى تُشدِّد على الرجال، مثل: إيجاب الإنفاق على الرجل، وجواز لباس الحرير والذَّهَب للنساء، وصلاة الجماعة على الرجال -عند مَن يُوجبها-، وأخذ الجِزية من الرجال فقط من غير المُسلمين. وكذا تغافُلهم للآثار السيِّئة لأفكارهم، مثل ملايين الأطفال من ضحايا الإجهاض.
2-شبهات حول الجهاد: وهنا يبنون تصوُّرهم من الجماعات القتاليَّة المُعاصرة المُنتمية إلى الإسلام، مع أنَّهم مسلمون مُحاكَمون للشريعة، لا حاكمون عليها. ويتجاهلون جوانب الرحمة في أحكام الجهاد؛ كعدم جواز استهداف الأطفال والنساء، وتحريم الغدر والتمثيل بالجُثث، وجواز بقاء الكافر على كُفرِهِ مع دفعِهِ الجزية…. ثُمَّ يتناسون ملايين قُتلوا من غير المُسلمين، وكذا يجب ملاحظة دوافع الإسلام للقتال (نشر دين الله، وإنقاذ الناس من النار، وإزالة الطُّغاة للتخلية بين الناس واختيارهم الحُر) التي تختلف عن دوافع غيره.
النوع الثاني: شبهات التشكيك في الثوابت الشرعيَّة:
الباب الأوَّل: شبهات حول السُّنة النبويَّة: تدور حول ستَّة أمور، هي:
1-الاستغناء بالقرآن عنها: بدليل قوله (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). والردُّ أنَّ المقصود في الآية اللوح المحفوظ لا القرآن. حتى لو كان المقصود بها القرآن فلا وجه للاستدلال بها على إسقاط حُجِّيَّة السُّنة. ويستدلون أيضًا بقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَاب تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء). والردُّ أنَّ مِن تبيان القرآن إرشادَهُ إلى اتِّباع الرسول، وتحذيرَهُ من مُخالفته في عشرات المواضع. ويستدلون أيضًا بقوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) قائلين إنَّ اتباع السُّنة اتخاذُ حَكَم آخر، وهذا شِرك!
والردُّ أنَّ المعنى حَكَم بين الرسول وبين مُعارضيْه، وأنَّ هذا قلَّة فهم لدلالة حَكَم؛ فالقرآن قد أورد الكلمة بالصيغة نفسها مطالبًا باتخاذ حُكَّام (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا)، وأنَّ طاعة الرسول طاعةٌ لله (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه)، والله أمر بردِّ النزاع إلى الرسول (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).
كما أنَّ حُجِّيَّة السُّنة ثابتةٌ بالأدلَّة المُختلفة: فمن القرآن نجد الآيات تأمر باتباع الرسول والنهي عن مُخالفته، ومن السُّنة نفسها -لمَن يأخذ ببعض السُّنة ويترك بعضًا- حديث:
لا ألْفَيَنَّ أحدَكم مُتَّكِئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري؛ مِمَّا أمرتُ به أو نهيتُ عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه.
وكذا ثابتة بإجماع العلماء.
2-التشكيك في حُجِّيَّة خبر الآحاد: بحُجَّة أنَّها تفيد الظنّ، والظنُّ مذموم في القرآن. والردُّ أنَّ أخبار الآحاد لا تفيد الظنَّ؛ فشرعًا كان النبيُّ يُقيم حُجَّة الإيمان ببعث فرد أو أفراد إلى الأُمم، وواقعًا لأنَّنا يحصل لنا اليقين بِناءً على خبر الآحاد من زواج وطلاق ونجاح ورسوب. وأحاديث الآحاد الصحيحة فيها ما يُفيد اليقين، وفيها ما يفيد الظنَّ الراجح. والظنُّ ليس مذمومًا كلَّه في القرآن؛ بل مذموم حين يدلُّ على الوهم الكاذب. كما أنَّ الأمَّة أجمعت على قبول خبر الآحاد.
3-شكوك حول نَقَلَة السُّنة ورواتها: والردُّ أنَّ علم الجرح والتعديل معيار دقيق في معرفة الرواية الصحيحة من العليلة، كما أنَّ كثيرًا من القصص التي رُويت للقدح في الصحابة غير ثابتة.
4-النهي عن كتابة السُّنة وتدوينها: والردُّ أنَّهم يستدلون بالسُّنة التي يجحدون حُجِّيتها، وكذا فالرسول أمر بحفظ الحديث وتبليغه كما نهى عن كتابته؛ فلماذا يأخذون هذا ويدعون ذاك؟! وقد جاءت أحاديث مُتعدِّدة في كتابة الحديث وتدوينه (مثل حديث اكتبوا لأبي شاه). وفارقٌ بين النهي عن الكتابة وعدم الحُجِّيَّة. وعن حديث النهي عن الكتابة فهناك مَن رآه موقوفًا على “أبي سعيد الخُدريّ”، وهناك مَن رآه منسوخًا بأحاديث الرخصة. أمَّا عن تأخُّر تدوينها فتُراجع الكُتُب المُختصَّة (دراسات في الحديث النبويّ وتاريخ تدوينه، محمد مصطفى الأعظمي)، مع العلم أنَّ التدوين لمْ ينقطع من وقت النبيّ إلى وقت التدوين.
5-حول علم الحديث ومناهج المُحدِّثين: المُشكلة هنا تكمن في أنَّ نقاش الموضوع يحتاج إلى وجود تصوُّر كامل وشامل عن علوم الحديث، وهذا ما لا يمتاز به غالبُ المُشكِّكين في السُّنة. أمَّا عن العلم نفسه فقد امتاز بدرجات فائقة من الدقَّة، وتكفي نظرة على شروط الصحَّة في الحديث (العدالة، والضبط، واتصال السند، والسلامة من الشذوذ ومن العِلَّة) لمعرفة الأمر، مع العلم أنَّ تحت هذه الشروط شروطًا أخرى وبنيةً كاملة.
6-استشكال بعض الأحاديث الصحيحة بدعوى التعارُض: الإشكال هنا يبدأ في سلوك الفوضى في التعامُل مع هذه الأحاديث، ورمي أئمة المسلمين بالجهل، وعرضها على الناس علانيةً وكأنَّها مفاجأة، وكأنَّ ردودًا كثيرةً لمْ تعالج الأمر منذ قرون طويلة. وقد اعتنى علماء المُسلمين بموضوع التعارُض في كُتُب أصول الفقه، وفي مبحث مُختلف الحديث. ومن الكُتُب المعالِجة: اختلاف الحديث للشافعيّ، وشرح مُشكل الآثار للطحاويّ.
الباب الثاني: شبهات حول الإجماع:
نجد فيه دعوى جواز إجماع الأُمَّة على الخطأ. وهذا يُخالف كونها خير الأمم، وكونها أمَّة وسطًا شاهدةً على الناس. وعقلًا نجد أنَّ مصدر الأحكام جميعًا الكتاب والسُّنة، والإجماعات راجعة إلى أصل الوحيَيْنِ نفسِه. مع اشتراك المُجتهدين في أصل أدوات الاستنباط. فهل يُعقل أنَّ جميعهم أخطأ في فهم النصّ حتى يدِّعي أحدٌ معرفة الصواب الآن؟! هذا وقد كان المُجتهدون الأوائل أكملَ؛ من حيث صفاء اللسان العربيّ، ومُعاصرة النبيّ من طبقة أوَّل المُجتهدين من الصحابة.
ويُنبِّه إلى أنَّ الخطأ مُنصبٌّ على تخطئة كلّ القديم، لا الزيادة على أقوال القدماء أقوالًا جديدةً، ويُنبِّه أيضًا إلى الفارق بين القدح في حُجِّيَّة الإجماع وبين إثبات وقوعه -كما هو مبحوث في كُتُب الأصول يقصد-. ويستدلُّ البعض في القدح على الإجماع بقول الإمام “أحمد”: “مَن ادَّعى الإجماعَ فهو كاذب” دون فهم. وتوجيهُهُ أنَّه قاله في مُقابل فقهاء المُعتزلة الذين لمْ يتحرَّوا أقوال الصحابة والتابعين في اجتهادهم، أو أنَّه قاله وَرَعًا؛ لأنَّ دعوى الإجماع أمر صعب، وقد استخدم بدلًا عنها جملة: “لا أعلمُ فيه اختلافًا”.
الباب الثالث: شبهات حول منهجيَّة فهم النصّ الشرعيّ
ونطالع فيها دعوى أنَّ لكلّ أحدٍ فهمَه الخاصّ. وهذه الدعوى تنزع عن النصّ صفة بيان الحقّ فيما يختلف فيه المسلمون، وكذلك تُفقد النصَّ الشرعيَّ صفةَ القطع، بل تُوجد للكافر مُبرِّرًا لكُفره. وهذه دعوى كفيلة بهدم الدين كُلِّه؛ فماذا يبقى إذا كان لكُلٍّ رؤية خاصة في تفسير النصّ الشرعيّ؟ وهل يبقى مفهوم “نصٌّ شرعيّ” بعدها؟! ومثَّل لهذه بدعوى “محمد شحرور” أنَّ الزنا يكون من المُتزوِّج فقط إذا خان زوجته، أمَّا مَن لم يتزوَّج فهو ليس زانيًا إنْ واقع امرأةً.
الباب الرابع: شبهات حول الحدود الشرعيَّة:
ومنها شبهات حول حد الرَّجْم؛ وأنَّه وحشيّ. وهذا القول يُدَّعى رغم وجود حدود مُماثلة كقطع اليد والرجل من خلاف، والمُدِّعي يتغافل عن أنَّ الله يُقدِّر العقوبة بحِكمته، وأنَّه قد ثَبَتَ هذا الحدُّ عن رسول الله، وطبَّقه على بعض الزُّناة، وأجمع أهل السُّنة على الرجم. (شبهات حول أحاديث الرجم، سعد المرصفي).
ونجد كذلك دعوى ردّ عقوبة الرِّدَّة لتعارُضها مع آية (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). وكأنَّ أهل العلم كانوا غافلين عن هذه الآية، بل يدلُّ هذا على أنَّهم لمْ يروها مُعارضةً للآية. ومَكمَن الإشكال نابع من ثقافة مركزيَّة الإنسان التي تسيطر على العصر، وتجعله يُحاكم النصَّ الشرعيَّ بهذه المركزيَّة.
الباب الخامس: شبهات حول الصحابة:
تُثار شبهات حول الصحابة، ويردُّ عليها بإجماع أهل السُّنة على تعديل الصحابة (أيْ كونهم عُدُولًا)، وأنَّهم نَقَلَة الشرع. مثل قول “الغزالي”: “والذي عليه سلفُ الأمَّة وجماهيرُ الخَلَف أنَّ عدالتهم معلومة بتعديل الله إيَّاهُم وثنائه عليهم في كتابه”. كما أنَّ أهل السُّنة يقولون بعدالة الصحابة لا بعصمتهم.
وكثير من الأخبار القادحة فيهم غير ثابتة إسنادًا؛ وبهذا تخرج من النقاش. والغريب أنَّ الطاعنين يطعنون في الأخبار الصحيحة المتعلِّقة بهم، ويتعلَّقون بأخبار ضعيفة قادحة فيهم! وكذا نرى في معاصي الصحابة الكثيرَ من فضلهم؛ حيث يُسارعون للتوبة والندم والاعتراف، بل الإصرار على إقامة الحدّ عليهم بهدف تطهُّرهم.
خلاصات في أبواب فكرية مهمة
الخلاصة الأولى: في العقل والشرع:
العقل لا يُقدَّم على الشرع بدعوى أنَّنا عرفنا الشرع بالعقل، بل الشرع معصوم والعقل غير معصوم. وعن الأفهام فهي تتفاوَتُ ومعايير القبول مختلفة؛ لذا لا يُسارِعْ مَن استنكر شيئًا في الشرع بإنكاره، بل يُراجع ويسأل. وعلى العقل أنْ يعترف بمَحدوديَّته؛ وهذا لا يُمثِّل استنقاصًا منه. وفي تعامُلنا مع النصوص يجب أنْ نُفرِّق بين مُحالات العقول (الأمور التي يُبطلها العقل)، وبين مَحارات العقول (الأمور التي يعجز العقل عن تصوُّرها) كما قال “ابن تيميَّة”.
الخلاصة الثانية: في التعارُض بين العلم الطبيعيّ والدين:
يجب تذكُّر أمور في هذا الشأن: معرفة تاريخ الصراع الأوربيّ الذي أدَّى إلى ظهور العلم الطبيعيّ، ومنه صراعه مع الكنيسة؛ هذا الصراع الذي جعل غالب أنصاره يرون تصادُم العلم مع الدين، وأنكروا على أساسه الدين والفلسفة. وهذا كلُّه لا وجود له في منظومة الإسلام.
ولنتذكَّر أنَّ العلم التجريبيّ ليس مُحايدًا كما يبدو؛ فإنَّ النزعة الإلحاديَّة الماديَّة شكَّلتْ الكثير منه، كما أنَّ الكثير منهم يعتقد أنَّ منهجهم فقط هو الصحيح في الاستدلال وصناعة المعرفة، وأنَّ القوانين كفيلة للاستغناء عن الخالق. وكذلك نتذكَّر أنَّ العلم الطبيعيّ قاصر؛ لأنَّه مُتغيِّر مُتجدِّد تكشف مراحلُهُ المُتعاقِبةُ عن خطأ سابقها (مثَّل لذلك بنظريَّة الأثير بين القديم والحديث).
الخلاصة الثالثة: قضيَّة الحُرِّيَّة في الإسلام:
هذا الباب شرعيّ لا عقليّ، يرتبط بما شرَعَه الله لنا، ويجب جَمعُ النصوص لفهم الباب فهمًا صحيحًا. ونراعي أيضًا في بحثه الآن دور “ضغط الثقافة الليبراليَّة” على تشكيل تصوُّرنا للحريَّة، والتفرقة بين معالم الحريَّة عندهم وبين التصوُّر الإسلاميّ لها. وننتبه أيضًا لبعض مفاهيم الحريَّة في الإسلام التي لمْ تأتِ في التصوُّر الغربيّ، مثل تحرير الإنسان من عبادة المال أو الشهوة.
وأخيرًا التفريق بين مساحة الحريَّة فيما يعتقده الشخص داخل نفسه وبين حيِّز الإعلان في المجتمع؛ ففارقٌ بين اعتقاده وبين الجهر بالكُفر أو الطعن في الدين عَلَنًا، وفارقٌ بين وجود إشكال شخصيّ وبين بثّ هذه الإشكالات بين الناس وإفساد صفاء عقيدتهم.
المصدر: موقع تبيان