بقلم إحسان الفقيه
لم يكن الزعيم الكوبي فيدل كاسترو مُبالغًا حين قال: «اليهود حمقى لأنهم احتلوا دولة شعبها لا يكِلّ ولا يمل»، فالشعب الفلسطيني منذ الاحتلال لم يركن يوما إلى موازين القوى، صقلته تجارب النضال، وربّتهُ الجراح وشدّت عوده المحن.
عندما أطالع صور الجنود الصهاينة وهم يقاتلون العُزَّلَ من وراء جُدُر، ويتترسون بآلياتهم العسكرية خوفا من حجارة المقاومة، بل يفر الصهيوني بسلاحه أمام تلك الحجارة لا يلوي على شيء، فأقول: حقا إن بني صهيون أحرص الناس على حياة، أي حياة، مهما كان شكلها وطبيعتها، فالصهيوني يعيش مُتسلّقا، مُتحوصلا، لصًا يعيش، ذئبًا يعيش، حملًا يعيش، يغدُر، يسرق، يرشي، على رفات الأبرياء يعيش، ملتصقا بنعال الأقوياء الحُماة يعيش.
وفي المقابل رأيت كغيري بالأمس القريب، مشهدًا أسطوريًا لا نراه إلا في أفلام هوليوود، مشهدا من إنتاج وقصة وسيناريو وحوار وإخراج شعب ثلاثة أرباع وزنه إرادة، منذ أيام، وضمن فعاليات مسيرة العودة التي أطلقها الفلسطينيون في ذكرى يوم الأرض، كان ذلك الشاب على حدود غزة، يخوض ماراثون ركض وزحف ومناورة تحت وابل لا يتوقف من رصاص الاحتلال، وكأن تحرير فلسطين متوقف على ذلك الإطار من الكاوتشوك الذي يسعى إليه ذلك الشاب لإشعاله.
المفاجأة التي رأيناها في المشهد ذاته، هو ذلك الشاب الذي ركض بكل قوته نحو الأول، ليلتقط منه الإطار، يُذكّرك الأمر بتبادل حمْل الشعلة في مراسم الأولمبياد، إلى أن جاءته رصاصة غادرة في رأسه من قناص إسرائيلي، ارتقى على إثرها شهيدا بإذن ربه، لتسكب علينا والدة الشهيد من رحيق صمودها حين قالت لوسائل الإعلام: «لديّ غير عبد الفتاح (الشهيد) ثلاثة من الشباب، أتمنى أن يلحقوا به شهداء، فالشهادة هي مهر حرية الوطن، والوطن غال، ومهره غال، والحمد لله أن شرفني بشهادته».
تلك العقيدة هي أهم ما يميز الفلسطيني عن عدوه، فهو كغيره يريد الحياة، إلا أنه يأبى أن يعيش مُنكّس الرأس مسلوب الحق، وهو في ذلك الطريق يسعى لإحدى الحسنيين، نصْر على عدوه، أو شهادة يلقى بها ربه، ومن ثَمّ فلا مجال للخوف من الموت، ولعمر الله ذلك أشد ما يُرعب الأعداء، ولذا كان القائد المسلم في الزمن القديم يُهدّد عدوه فيقول: «سآتيكم برجال يحرصون على الموت أكثر من حرصكم على الحياة».
الفلسطيني لم يسقط في أوحال إلْف القهر، فمِمّا اصطلح عليه أهل الرأي، أن طول أمد الطغيان في الأصل يُلبس الناس أخلاق العبيد، لكن أهل فلسطين رغم الاحتلال فهم دائما في رباط ونضال، رضَع أطفالهم من لبن المناضلات الصامدات، وشبّوا على مشاهد تشييع الشهداء، ولا يزال الأقصى يغرس في نفوسهم غرس الاستعلاء.
لله درُّهم من صامدين..
صامدون وهم يرون بأم أعينهم آيات العمالة العربية، ويعلمون جيدا من هو الراشي والمرتشي والرائش والمُتاجر بأحلامهم وقضيتهم. صامدون وهم يرون حكام العرب يصافحون عدوهم ويهبونه حق العيش في سلام على الأرض المُغتصبة. صامدون رغم سقوط الرهان على تمثال الحرية بعد أن أعلن ترامب القدس عاصمة لإسرائيل. صامدون رغم سقوط موقعو أوسلو وأخواتها في أوحال التطبيع، التي لم يجد الوزير الإسرائيلي يوسي ساريد كلمات يُعبر بها عن سعادته بتلك الاتفاقية سوى قوله: «إن إسرائيل اليوم خلقت من جديد، فمنذ إنشائها لم تكن الدولة شرعية في المنطقة التي قامت فيها، واليوم (13 سبتمبر 1993) اكتسبت إسرائيل شرعية الاعتراف بها». وصامدون رغم خيبة الأمل في تحقيق حلم المصالحة وإصرار البعض على شق الصف الفلسطيني والعزف منفردا بعيدا عن التوافق الوطني.
عالم النفس النمساوي وضع الدوافع الأساسية للسلوك البشري مُرتّبة على هيئة هرم له خمسة مستويات، أولها وأهمها الحاجات الفسيولوجية المتعلقة بغريزة حب البقاء، من طعام وشراب ومسكن، ثم الحاجة إلى الأمان، ثم حاجات الحب والانتماء، ثم حاجات التقدير والاحترام، وأخيرا حاجات تحقيق الذات، ولا يتجه الإنسان إلى إشباع مستوى قبل أن يشبع المستوى الذي يسبقه في الأهمية، فهو يتجه أولا لإشباع حاجاته إلى الطعام والشراب والنوم والسكن، ثم يتجه بعدها إلى العيش في أمان وسلام بعيدا عن الدمار والحروب وأماكن الكوارث.
لكن الفلسطينيين من أهل غزة خاصة، كسروا هذه النظرية، فلا طعام ولا شراب ولا مأوى ولا رغبة في الأمان تسبق حاجتهم إلى الحرية، تلك هي العقيدة، وذلك هو نتاجها.
لم يعد الحديث مجديا عن هَبَّةٍ عربية وإسلامية لنصرة القضية الفلسطينية، بعد أن بِيعت في سوق النخاسة، وضاعت بين عمالة وصمت الحكام وعجز الشعوب، لكن الشعب الفلسطيني يقود نفسه بنفسه في مسيرة العودة، والرهان عليه في أن تبقى القضية متوهجة وأن يظل أمل التحرير باقيا، سيبقى نضاله فاضحا لكل الخونة والعملاء والشياطين الخُرْس، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(المصدر: هوية بريس)