مقالاتمقالات مختارة

احذروا هذا النّوع من التّعاطف مع المحكومين بالإعدام على أيدي المجرمين

احذروا هذا النّوع من التّعاطف مع المحكومين بالإعدام على أيدي المجرمين

بقلم محمد خير موسى

ما إن انتشر خبر تأييد حكم الإعدام بحقّ انثي عشر من العلماء والدّعاة وقادة الإخوان المسلمين في مصر؛ حتّى شهدت مواقع التّواصل الاجتماعيّ والفضاء الافتراضيّ تعاطفاً واسعاً مع هؤلاء العلماء والرّموز وحملاتٍ رافضة لهذه الجريمة المتوقّعة.

الكثيرُ من هذه الكتابات حملت نوعاً من التّعاطف الصّادق، لكنّه يصبّ في النّهاية في خدمة القاتل من حيث لم يقصد أو يتنبّه أصحابها.

وقد تجلّى هذا التّعاطف الصّادق في بعض العبارات والاقتباسات التي تُعلي قيمة الشّهادة في سبيل الله تعالى وتغبط هؤلاء العلماء والقادة على هذه الخاتمة المتوقّعة.

هذا الخطاب التّعاطفيّ خطابٌ صحيحٌ في مضمونه وأفكاره من حيثُ الأصل، لكنّ الإشكال يكمن في توقيته، فخطورتُه في الاتّكاء على صحّة الفكرة دون الالتفات إلى توقيتها إن كان مناسباً أم غير مناسب، نافعاً أم ضارّاً

ومن هذه العبارات: “وما عليهم ألا يموتوا شهداء؟”، و”كم نغبطكم على هذه الخاتمة”، و”الشهادة تليق بكم”، و”وما عليهم أن يقتلوا لنعيشَ أحراراً”، و”إنَّ الشّهادة اصطفاء واتّخاذ واختيار”، وغير ذلك من العبارات في هذه السياقات.

أين تكمن الخطورة في هذا الخطاب؟!

هذا الخطاب التّعاطفيّ خطابٌ صحيحٌ في مضمونه وأفكاره من حيثُ الأصل، لكنّ الإشكال يكمن في توقيته، فخطورتُه في الاتّكاء على صحّة الفكرة دون الالتفات إلى توقيتها إن كان مناسباً أم غير مناسب، نافعاً أم ضارّاً.

ومن التّقريرات المنطقيّة أنّ القولَ والحكمَ قبلَ الفعل يختلف عن القول والحكم بعد الفعل، من حيث طبيعته وأثره ومآلاته.

ومن الأمثلة الواضحة على هذا المعنى ما نقل عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنه كان إذا جاء إليه رجلٌ لم يقتل فسأله: هل للقاتل توبة؟ فيقول له: لا ‏توبة له، تخويفاً وتحذيراً، فإذا جاءه من قتل فسأله: هل للقاتل توبة؟ قال: له توبة، تيسيراً ‏وتأليفاً.‏

ومثل هذا نقل عن الحسن البصري إذ جاءه رجل سأله: هل لقاتلٍ توبة؟ قال: نعم، ثمَّ جاءه آخر فقال: هل للقاتلِ ‏توبة قال: لا، فقيل له في ذلك، فقال: توسّمتُ في الأوّل أنّه قد قَتَل فقلت: نعم، وتوسّمت في ‏الثاني أنه يريد أن يفعل فقلت: لا.‏

فالحديثُ عن الشّهادة والاصطفاء وغبطة الشّهداء على مآلِهم قد يصلح بعد أن يقع الفعل – لا سمح الله – لكنّه لا يصلح قبلَه مطلقاً.

وتكريسُ هذا النّوع من الخطاب في هذه المرحلة ينطوي على مخاطر جمّة؛ من أهمّها:

ما دمنا في مرحلة توقّع الجريمة فالواجب أن يكون الخطاب والجهد منصبّاً على حشد الطّاقات كلّها للحيلولة دون وقوعها

أولاً: الانشغال عن الواجب الأصلي وهو منع حدوث الجريمة، بالإغراق في الحديث عن مكانةِ العلماء والقادة واصطفائهم واتّخاذهم شهداء، ممّا يصرف النّظر عن الجهة والقضيّة التي يجب تركيز النّظر والخطاب والجهد عليها.

ثانياً: هذا الخطاب يتعامل مع التّهديدات وكأنّها وقعت فعلاً، وأنَّ هؤلاء العلماء قد استشهدوا، مما يعني المساهمة في تهيئة الرّأي العام لتقبّل الجريمةِ تحت عنوان الخاتمة العظيمة التي نالها هؤلاء العلماء والقادة وأنَّهم هم الفائزون بنيلِهم الشّهادة، فهل هناك خدمة للمجرم أكثر من هذا التقبُّل والتَّمرير؟!

ما هي المنهجيّة المطلوبة في الخطاب والمواقف إذن؟!

ما دمنا في مرحلة توقّع الجريمة فالواجب أن يكون الخطاب والجهد منصبّاً على حشد الطّاقات كلّها للحيلولة دون وقوعها. وذلك من خلال تركيز الخطاب على فداحة الجريمة، وعلى المجرم وخطورة إقدامه على فعله، وتحريك الشّارع مشاعريّاً وسلوكيّاً لرفض تقبُّل الجريمة والعمل الجادّ على منع حدوثها.

وقد رسم لنا القرآن الكريم منهجيّةً واضحة في التّعامل والخطاب مع التّطاول الفرعونيّ وعزمه على قتل المصلحين. ففي سورة غافر يبيّن الله تعالى أنَّ فرعون قد أعلن عزمه على قتل موسى عليه الصّلاة والسّلام بتهمة الإفساد في الأرض، وهي تكاد تكون التّهمة ذاتها التي يُعتقل تحت ذريعتها العلماء والدّعاة والرّموز وقادة الإخوان في مصر: “وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ”.

وهنا يرسمُ القرآن الكريم منهجيّة التّعامل مع هذا التّهديد من خلال مؤمن آل فرعون، حيث يقول تعالى: “وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا”.

وتتجلّى هذه المنهجيّة في نقاط عدّة من أهمَّها:

أولاً: المبادرة والخروج عن الصّمت مهما كلّف الثّمن؛ فمؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه لكنَّه في هذا الموقف لم يسعه الصّمت والسّكوت، بل أعلن عن نفسه وأفصح عن إيمانه وحدّد موقفه الرّافض بكلّ وضوح. وفي هذا رسالةٌ واضحةٌ إلى الذين ما زالوا متلفّعين بالصّمت والخذلان للعلماء والرّموز متذرّعين بذرائع شتّى.

ثانياً: أعلن مؤمن آل فرعون بكلّ وضوح موقفه الرّافض لقتل موسى عليه الصّلاة والسّلام واستنكاره على فرعون وجنوده تهديدهم وعزمهم على هذه الجريمة، وركّز خطابه على الجريمة وفداحتها وتعرية المجرم وإسرافه وكذبه، ولم يتعرّض بالقول والخطاب إلى غبطة موسى عليه السّلام لنيلِه الشّهادة والخاتمة العظيمة!!

ثالثاً: توجيه الخطاب بشكلٍ واضحٍ للمجرم وقومه وأركانه تحذيراً من مآلات الإقدام على الجريمة، وأنَّ ملكهم وسلطتهم لن تنفعهم إن أقدموا على جريمتهم وتحذيرهم من بأس الله تعالى.

وكذلك وقع في السّيرة النبويّة ما يرسمُ منهجيّةً للتّعامل والخطاب مع التّهديدات والتّوقعات بإعدام العلماء والمصلحين، وذلك في بيعة الرّضوان.

فعندما منع المشركون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من دخول مكّة مع أصحابه عندما عزموا على العمرة واستقرّ بهم المقام في الحديبية؛ أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفّان رضي الله عنه سفيراً إلى مكّة ليفاوض قريشاً لأجل دخول المسلمين لأداء العمرة.

سرَت شائعةٌ تقول: إنَّ عثمان رضي الله عنه قد قُتل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وبايعهم تحت الشّجرة على مواجهة قريش ومناجزتهم، وسمّيت بيعة الرّضوان لأنَّ الله تعالى رضي فيها عن المبايعين: “لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً”.

هذا يستدعي منّا مراجعة خطابنا التّعاطفيّ ومنهجيّة تعاملنا مع أحكام الإعدام والتوقّعات بتنفيذها بحقّ العلماء والمصلحين والقادة المعتقلين في مصر، وتجاه القضايا من هذا النّوع كي لا يكون تعاطفنا سهماً قاتلاً في كنانة المجرم من حيثُ لا ندري

وبعدَ انتهاء هذه البيعة العظيمة فإذا هو عثمان رضي الله عنه يصل إليهم سالماً يبشّرهم بأنَّ قريشاً عزمت على الصّلح، وأنَّها سترسل وفدها المفاوض للاتفاق عليه.

وفي هذا المشهد منهجيّة مهمّةٌ في التّعامل تتجلّى في نقطتين أيضاً:

الأولى: التّعامل مع أحكام الإعدام بحقّ المصلحين المعتقلين في زنازين المجرمين بجديّةٍ تامّة، وعدم تسفيهها أو التّقليل من شأنها، لا سيما إن كان للمجرمين سجلٌّ حافلٌ في القتل والإجرام، فقد تعامل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع شائعة مقتل عثمان بجديّةٍ متناهية.

ثانياً: استنفارُ الجهود والتّركيز على الخطاب والمواقف والإجراءات العمليّة الواجبة تجاه هذه الأحكام، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ركّزَ في الواجب تجاه الجريمة ولم يتحدّث عن اتّخاذ عثمان شهيداً وحسن خاتمته وفوزه بالشّهادة!

وهذا يستدعي منّا مراجعة خطابنا التّعاطفيّ ومنهجيّة تعاملنا مع أحكام الإعدام والتوقّعات بتنفيذها بحقّ العلماء والمصلحين والقادة المعتقلين في مصر، وتجاه القضايا من هذا النّوع كي لا يكون تعاطفنا سهماً قاتلاً في كنانة المجرم من حيثُ لا ندري.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى