إعداد : د. صلاح الدين محمد النعيمي
لاشك أن الاختلاف جزء من طبيعة الإنسان بل يمكننا القول أن الاختلاف هو آية من آيات الله تبارك وتعالى، فنرى أن الناس مختلفون في ألسنتهم وألوانهم وأخلاقهم وفهمهم ومداركهم العقلية، دل على ذلك قوله تعالى: [ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين] [1]
جاء في تفسيرها: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم: اللسان الفم، وفيه اختلاف اللغات : من العربية إلى العجمية والتركية والرومية واختلف الألوان في الصور : من البياض والسواد والحمرة فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين فلا بد من فاعل فعلم أن الفاعل هو الله تعالى فهذا من أدل دليل على المدبر البارئ)[2]
قلت: فإذا كان الاختلاف فطرة الحق- جل في علاه- التي فطر الخلق عليها، فلا عجب أن يختلفوا في آرائهم وتفكيرهم ونظرتهم للإحكام الشرعية وكذا القوانين الوضعية وفهمهم لنصوصهما فكل يفهم ويفسر ويستنبط من تلك النصوص ما يراه مناسبا حسب ما لديه من الأدلة لذا نجد أنهم يختمون كلامهم بــ : (والله اعلم)
وهذا دليل على أن الاختلاف موجود ومجال الاجتهاد لمن يأتي بعده ليضيف أو يحذف من رأيه موجود أيضا.
وهذا ما ذكره الأئمة الأعلام فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، قولهم :
( إذا سئلنا عن مذهبنا ومذهب مخالفينا في الفروع يجب علينا أن نجيب: بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصواب لأنك لو قطعت القول لم يصح قولنا : إن المجتهد يخطئ ويصيب)[3]
يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)[4]
قال شراح الحديث:
( إذا حكم الحاكم ) أي أراد الحكم ( فأصاب ) أي وقع اجتهاده موافقا لحكم الله
(فله أجران ) أي أجر الاجتهاد وأجر الإصابة والجملة جزاء الشرط ( فله أجر ) أي واحد…إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط وهذا فيمن كان جامعا لآلة الاجتهاد عارفا بالأصول عالما بوجوه القياس فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر)[5].
من هنا يمكننا الجزم بأن الاجتهاد في حكم المسألة من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور المذاهب الفقهية العديدة، وفي هذا تيسير على الأمة ورفع الحرج، وهي الوسطية بعينها ، فالتوسط منبع الكمالات والتيسير ودفع المشقة عن الناس.
والمتتبع المنصف لهذه المذاهب يجد أن الاختلاف أصل واضح في ارثنا الفقهي، فما من مسألة إلا وتجد فيها أكثر من رأي لذا وجب علينا أن يسعنا ما وسع الجيل الأول من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأعلام ــ رضي الله عنهم أجمعين ـــ فقد اختلفوا في كثير من المسائل ولم يؤد ذلك الشقاق بينهم.
نماذج من احترام الرأي المخالف للصحابة ــ رضي الله عنهم ــ
الصحابة الكرام ــ رضي الله عنهم ــ هم الذين آمنوا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعاصروا الوحي، وماتوا على الاسلام، ومع ذلك اختلفوا في فهمهم لبعض المسائل، لكن اختلافهم هذا لم يفسد للود قضية، ولم يؤثر على علاقتهم، بل على العكس احترموا آراء مخالفيهم، كما سنرى ذلك واضحا جلياً في النماذج الآتية:
النموذج الاول: حديث أبي سعيد الخدري ــ رضي الله عنه ـ إذ يقول:
« كنا نغزو مع رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا، فأفطر فإن ذلك حسن)[6]
وجه الدلالة من الحديث:
فقول الصحابي أبي سعيد: ( فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) أي لا يعيب أحدهم على الآخر سواءً صام معه أم لم يصم، وفي هذا دليل واضح على أن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ كان يحترم أحدهم رأي المخالف، وفي ذلك احترام الرأي الآخر، مع أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بين أظهرهم،
فكان منهجهم كما عبر عنه سيدنا علي[7] ــ رضي الله عنه ــ ترجيح ( النمط الأوسط ) الذي يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي.
قال ابن القيم[8]: (فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وخير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهى الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط. والآفات إنما ينتظرون إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها)
النموذج الثاني: اختلافهم في أيهما أفضل إتمام الصلاة أم القصر في منى.
وأصل المسألة أن أمير المؤمنين عثمان ـــ رضي الله عنه ــ صلى بمنى أربعا فقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- صليت مع النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بمنى ركعتين ومع أبي بكر-رضي الله عنه- ركعتين ومع عمر ــ رضي الله عنه ــ ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق ووددت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين، فقد عاب ابن مسعود عثمان ــ رضي الله عنهما ــ بالإتمام بمنى ثم أقيمت الصلاة فصلى خلفه أربعا فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شر[9].
وجه الدلالة
إن ابن مسعود مع أنه مقتنع برأيه لكونه صلى قصرا وراء رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر ــ رضي الله عنهما ــ لكنه علل ذلك بقوله الخلاف شر وهذا قمة الفهم الوسطي الجديد، ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى مثل هذا الفهم.
النموذج الثالث:اختلافهم في تفسير قول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ
لما رجع من الأحزاب[10]( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)[11]
فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.
وجه الدلالة
إن بعضهم قال ( لم يرد منا ذلك ) ما أراد بقوله ظاهره وعدم الصلاة في الطريق وإنما أراد الحث على الإسراع، فعذر كل واحد منهم فهمه لهذه العلة.
قلت: واختلاف الصحابة إنما كان في فهمهم لقول رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ـــ ومع هذا فقد أقرهم الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ ولم يعب أحدهم على الآخر، وفي هذا احترام للرأي الفقهي المخالف، وهذا ما نصبوا إليه في كل زمان ومكان، فالاختلاف واقع، لكنه يجب أن يكون في الآراء فقط لا الاختلاف في القلوب.
وأخيرا أقول كيف نتعامل مع مسائل الخلاف اليوم:
أختم مقالي بهذه القاعدة الجليلة التي تبين لنا بوضوح طريقة التعامل مع المسائل الخلافية المستجدة اليوم، فأقول:
إن هناك اتجاهين في التعامل مع المسائل الفقهية:
الاتجاه الأول: الاتجاه المذهبي الجامد الذي يرى أن الحق معه ومع مذهبه ولو جئته بألف دليل يخالف رأيه، فهذا اتجاه مرفوض جملة وتفصيلا لأنه أعطى القدسية لرأيه، وألغى آراء المذاهب الفقهية المعتبرة، وفي هذا مبالغة مذمومة.
الاتجاه الثاني: الاتجاه االلامذهبي الذي يرى صاحبه انه مجتهد ويسير مع الدليل وقوله حق وصواب لا غيا أراء المذاهب بأجمعها، وهذا ليس مقبولا، أيضاً.
قلت: والراجح هو الاتجاه الوسط الذي يجمع بين الاتجاهين فيعرض آراء الجميع بأدلتهم ومناقشاتهم وردودهم ولا يبخس الناس أشياءهم، لأن المذاهب مدارس فقهية حاولت فهم النصوص من أجل التيسير على المكلفين، لذا وجب على الجميع احترامها وعدم تقديسها، وإذا بان لهم الحق وثبت عندهم الدليل أخذوا به، وإن كان قائله من غير مذهبهم، فالحق أحق أن يتبع.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
—————————————————————
[1] – سورة الروم، الآية: 22.
[2] – انظر: الجامع لأحكام القران للقرطبي :14/18.
[3] – الأشباه والنظائر، لابن نجيم، تح: عبد الكريم الفضلي (ط/ المكتبة العصرية، بيروت،2003م): 418، ونسب القول للإمام أبي حامد الغزالي.
[4] – أخرجه البخاري في صحيحه، محمد بن إسماعيل البخاري (ط3/ دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت، 1407هـ – 1987م تح: د. مصطفى ديب البغا: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ:6/2676 برقم(6919)
[5] – عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب(ط2// دار الكتب العلمية، بيروت 1415هـ):9/ 354
[6])) أخرجه مسلم، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، صحيح مسلم ، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (ت: 261هـ)، تح: محمد فؤاد عبد الباقي (ط/ دار إحياء التراث العربي ـــ بيروت ): 2/787 برقم (1116)
[7])) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (ت: 450هـ) (ط/ دار مكتبة الحياة، 1986م):24
[8])) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، محمد بن أبي بكر بن أيوب، ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ)،تح: محمد حامد الفقي (ط/ مكتبة المعارف، الرياض، د. ت): 1/182
[9] – الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق : سالم محمد عطا، محمد علي معوض (ط1/دار الكتب العلمية – بيروت، 1421 – 2000):2/ 228.
[10] ــــ الأحزاب: غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة سميت بذلك لتحزيب القبائل العربية وتجمعها ضد المسلمين ونزلت فيها سورة سميت بهذا الاسم .
[11] ـــ أخرجه البخاري، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء :1/ 321 برقم (904).
*المصدر : رابطة العلماء السوريين