اتجاهات الفوبيا العلمية والفكرية – الشيخ سالم الشيخي
تحدثت في مقال سابق عن العلماء وخطر الفوبيا النفسية وتتمة هذا الموضوع الخطير على النحو الآتي: إنّ الفوبيا العلمية والفكرية تظهر آثارها في اتجاهات كثيرة خلاصتها تعود إلى أمرين اثنين:
الأول: فوبيا المسائل العلمية أي أن يتناول طالب العلم المسألة العلميّة ويركّز عليها ويعظّم من شأنها حتى يخرجها أحيانًا من مجالاتها العلميّة إلى مجالات أخرى، وبسبب التوتر الذي يصاب به صاحب هذه الفوبيا والاضطراب الذي يصحبه بسبب تضخيمه لشأن تلك المسائل يتشوش فكره ويرتبك عقله فينزل المسائل في غير منازلها المقدرة لها شرعًا، ويصبح حاله كما قال بعض الفضلاء، كأنّه الوكيل الحصري الوحيد لهذه المسائل. ويزداد الأمر سوءًا حين يجعل من هذه المسألة معقّدًا للولاء والبراء، وللحبّ والبغض، وهكذا يزداد تعامله الانفعالي المضطرب والمصحوب بمزاج معكّر ونفسيّة قلقة حتى ينتهي إلى حالة شبه مرضيّة هي دون شكّ صورة من صور الفوبيا.
ولقد حدث لي قديمًا عند حواري مع أحد طلبة العلم حول مسألة المعازف وأحكامها، وكنت أريد منه فقط أن يُقرّ بأنّها من مسائل الخلاف وهو يصرّ على أنّها من قطعيات الشريعة، وموارد الإجماع القطعي فيها الذي لا ينازع فيه أحد، وما مضت سنوات من تضخميه لهذه المسألة حتى وصل لقناعة بكفر من يقول بحل المعازف، وكفر بالنص شيخنا القرضاوي- حفظه الله- لقوله بإباحة المعازف، ثم قدّر الله له أن يعود عن رأيه المتشدّد، ويعترف بعد عشرين سنة أنه لم يكن طبيعيًّا في تناوله لهذه المسألة، وأنه كان مشحونًا بأقوال العلماء الذين أشعروه بأنّ هذه المسألة من أخطر وأعظم المسائل.
لعل المتابع لبعض المسائل العلميّة التي صاحبت جائحة كورونا يلحظ هذا الأمر، فبعض طلبة العلم تعامل- مثلًا- مع مسألة إغلاق المساجد وتعطيل الجمع والجماعات بسبب الجائحة، بشكل أخرجها عن ميزان الاعتدال النفسي، وقبل ذلك العلمي والفكري والأخلاقي. فلم تعد المسألة عنده مسألة علميّة خلافيّة بين راجح ومرجوح، وإنّما هي مسألة قطعيّة إجماعيّة، وليت الأمر توقّف إلى هنا، فهذا التصوّر بذاته اختيار علمي لا بأس به، لكن المستغرب هو أن تتحوّل هذه المسألة عبر مقالات كثيرة وتغريدات متنوعة تُشعرك وأنت تتأمّل فيها أنّ صاحبها قد أصابته فوبيا إغلاق المساجد وأنّ التوتر والاضطراب واضح في قاموس الألفاظ التي يستخدمها، أمّا إذا استمعت إليه فأنت ترى علامات القلق والانزعاج في لغة جسده وحركات أطرافه، وجماع ذلك كلّه تخوين للعلماء الذين أجازوا إغلاق المساجد واتهام مباشر لمؤسسات علميّة وعُلمائيّة كبيرة ولقياداتها أنّها أداة لمؤامرة علمانيّة تنفذ ضدّ المساجد وشعائر المسلمين.
الثاني: فوبيا العلماء والمفكرين وهذه فوبيا تصيب بعض طلبة العلم تجاه بعض العلماء والمفكرين فتجعلهم يتوترون تجاه ما يصدر عنهم من اجتهادات وآراء فكريّة مختلفة، ويتعاملون بقلق وشكّ وريبة وانزعاج يمنعهم من رؤية مواطن الصواب فيها، وتستطيع عندئذٍ أن تقول إنّ فلانًا من طلبة العلم عنده فوبيا فلان من أهل العلم والفكر، وذلك لفقدانه ميزان العلم والإنصاف تجاه ما يصدر عن هؤلاء، مع ظهور القلق النفسي والاضطراب الفكري على ألسنتهم وفي جميع تصرفاتهم. وقديمًا كتب شيخنا بكر أبوزيد -رحمه الله- كتابًا سمّاه: تصنيف الناس بين الظن واليقين، وعندما زار المدينة دعاه أحد شيوخنا إلى بيته واستضاف معه عددًا من أهل العلم وطلبته في المدينة المنورة، وكان من بين هؤلاء الشيخ ربيع المدخلي، وذلك في بداية تأسيسه للفرقة المدخلية، فقال الشيخ ربيع للشيخ بكر أبو زيد حول هذا الكتاب: أنت تقصدني بهذا الكتاب، فقال الشيخ بكر أبوزيد: بل أقصد نفسي، فقد انشغلت بتصنيف الناس وتتبعهم لفترة من عمري، وكان الشيخ قد انشغل ببعض العلماء والرد عليهم.
وختامًا: فإنّ مراعاة الحالة النفسيّة عند تناول المسائل العلميّة، لا ينبغي أن تغيب عن طالب العلم، ولقد نشرتُ في أوج انشغال العلماء بفتاوى كورونا، عدّة منشورات لمعالجة هذه القضية أذكر منها اثنين:
الأول: بعنوان: جنة اجتهاد لا ساحة معركة، وخلاصة ما جاء فيه: أخي طالب العلم عليك أن تتذكّر عندما تناقش المسائل العلميّة أنّك في دوحة جميلة وحديقة غنّاء وبين أناس ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الثمر، ولست في ساحة حرب تنتظر الانتصار على الخصم وهزيمته، رافعًا سلاحك مستعدًّا للنزال، أنت لست في معركة تحتاج فيها إلى لسان حاد، وقلم جارح، ونفسيّة متوترة وضرب من تحت الحزام بأساليب مختلفة.
الثاني: بعنوان: ومضة من شيخنا عبد الله الجديع، وخلاصة ما جاء فيه. إنّ البحث العلمي الفقهي في أيّ مسألة له وجهان: ووجه يتعلق بالمقاصد الأخرويّة المتعلقة بالاجتهاد وبذل الوسع فيه من استحضار النية والتجرد لله تعالى، مع الابتعاد عن الحظوظ النفسيّة من التعصب للآراء والأشخاص والمذاهب، والابتعاد عن الأحكام المسبقة ونحو ذلك من آفات هذا الطريق، فإذا غلب على ظنّ المجتهد أنّه يفتقد إلى استحضار المقاصد الأخرويّة، وظهرت على سلوكه وأخلاقه أضدادها فليس له عند ذاك إلّا التوقف والانتظار إلى ساعة هدوء النفس ورجوعها إلى دوحة الاحتساب لله، عسى أن يوفّق بعد ذلك إلى رأي سديد، وعمل رشيد.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)