مقالاتمقالات مختارة

إمبراطورية العسكر.. كيف كانت وكيف أصبحت؟

إمبراطورية العسكر.. كيف كانت وكيف أصبحت؟

بقلم محمود جمال

يسيطر الجيش المصري على حكم الدولة المصرية منذ عام 1952م، بعد انقلاب مجموعة من الضباط داخل الجيش المصري أطلقوا على أنفسهم اسم الضباط الأحرار على النظام الملكي الذي كان يحكم مصر في تلك الفترة، ونجحت تلك المجموعة فيما كانوا يريدون تحقيقه وسيطروا على الحكم وغادر الملك فاروق وحاشيته البلاد. وأيد الشعب والغالبية منه ذلك التحرك العسكري للجيش وأطلقوا عليه اسم ثورة 1952. ومنذ هذا العام أصبحت مصر جمهورية يحكمها الجيش ويسيطر على مقدراتها وأملاكها.
ومن يقرأ المنشورات التي كانت تنشرها مجموعة الضباط الأحرار قبل سيطرتها على الحكم يرى أن أهم العوامل التي كانوا يذكرونها كسبب لرفضهم الحكم الملكي.. هو الاستبداد الذي يمارس على الشعب المصري من قبل طبقة حكم فاسدة تحكم سيطرتها على أملاك ومقدرات الشعب.[1] سيطر العسكر على حكم الدولة المصرية بشكل فعلي بعد إخراج اللواء محمد نجيب من حكم مصر عام 1954م، فالرئيس نجيب كان ينظر إلى حركة الضباط الأحرار على أنها المفترض أن تهدف بالأساس إلى تحويل نظام الحكم من نظام ملكي مستبد فاسد إلى نظام مدني ديمقراطي، وأن الجيش عليه تحقيق ذلك الأمر وأن يبتعد عن الحكم، وكان داخل مجلس قيادة الثورة أيضاً بعض القيادات تنظر لحركة الضباط الأحرار بنفس نظرة الرئيس نجيب، مثل يوسف صديق وخالد محي الدين، وقد نُكل بهم جميعًا لاحقًا.
لقد وضع جمال عبد الناصر عام 1954م هو ومجموعته التي سيطرت على زمام الأمور خطة محكمة، حتى تُدار كل الملفات داخل مصر تحت أعين المؤسسة العسكرية المصرية، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الجيش المصري لاعبًا كبيرًا في الحياة الاقتصادية داخل الدولة المصرية.
تعاقبت فترات الحكم العسكري على الدولة المصرية، وكانت تسير على نفس المنهاج الذي أسسه جمال عبد الناصر، ففي فترة حكم محمد أنور السادات ثم من بعده محمد حسني مبارك، وحتى بعد ثورة 25 يناير 2011م، والذي أدار المرحلة الانتقالية فيها المجلس العسكري، نرى أن الجيش المصري كان لاعبًا كبيرًا ومؤثراً داخل الدولة المصرية.
ولكن بعد قيام السيسي بالانقلاب العسكري في 03 يوليو 2013م، تغير هذا النهج، وأصبحت قيادات المؤسسة العسكرية الحاكمة تعمل على وضع نهج جديد لإدارة الملف الاقتصادي داخل الدولة المصرية.
فوضع الجيش المصري في الاقتصاد حاليًا، يتلخص في أنه تحول من كونه لاعبًا كبيرًا في الاقتصاد المصري، إلى فاعل مهيمن ومسيطر على الاقتصاد المصري ككل. لقد مر على الانقلاب العسكري لوقتنا هذا ستة أعوام، والمراقب لتعامل قيادات المؤسسة العسكرية مع الملف الاقتصادي يرى أنها تسير على هذه الخطة كي تحقق الهدف الذي وضعته للسيطرة التامة على المشهد الاقتصادي وتكون المهيمنة على الاقتصاد.
فمنذ اللحظة الأولى وطبقًا لخطة الاستحواذ على منظومة الاقتصاد، حددت القيادات العسكرية الحاكمة آليات لتنفيذ ذلك المخطط، بالتركيز أولًا على الكيف وليس الكم، مع اعتبار أن الكم سيأتي في مرحلة الاستحواذ التام، ولكن الكيف والذي يعني المفاصل المؤثرة للاقتصاد المصري هو أولى أولويات المؤسسة العسكرية حالياً في السعي إلى السيطرة.
وبناء عليه نرى الجيش المصري وقد وضع يده على أهم الملفات الاقتصادية داخل الدولة المصرية، وعلى سبيل المثال:
1- قطاع المقاولات والبنية التحتية.
2- قطاع الاتصالات.
3- قطاع الصحة وسوق الأدوية.
4- المشروعات القومية.
5- القطاع العقاري وعلاقته بالصناعة.
6- مجالات الصناعة الكيماوية والتعدين.
7- مجال الإنتاج الزراعي والصناعات الغذائية.
8- مجال الاستزراع السمكي.
9- إنتاج وتجارة اللحوم الحمراء والبيضاء.
10- لبن الأطفال.
11- مجال استيراد القمح.
12- السكر.
13- السيطرة على تنفيذ بطاقات التموين.
مؤسسات الجيش الاقتصادية “كيف كانت وكيف أصبحت”[2]:
الجيش المصري له أكثر من مؤسسة اقتصادية تتبع له، وتلك المؤسسات كانت أنشئت بالأساس لتلبية احتياجات الجيش العسكرية من تسليح ومعدات وما شابه ذلك، ولكن معظم تلك المؤسسات بعد 03 يوليو 2013م، تحول مسارها بشكل كبير، بعد أن أخذت على عاتقها التصنيع العسكري وتقديم الدعم العسكري للجيش، تحولت إلى إنتاج منتجات مدنية بشكل كبير.
ونذكر في السطور التالية بعض المؤسسات الاقتصادية التابعة للجيش المصري:
1-جهاز مشروعات الخدمة الوطنية: أنشئ الجهاز بقرار من محمد أنور السادات رقم 32 لسنة 1979 عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، ليستهدف الاكتفاء الذاتي النسبي من الاحتياجات الرئيسية للقوات المسلحة لتخفيف أعباء تدبيرها عن كاهل الدولة، مع طرح فائض الطاقات الإنتاجية في السوق المحلي والمعاونة في مشروعات التنمية الاقتصادية في الدولة من خلال قاعدة صناعية إنتاجية متطورة. إلا أن ما يقوم به الجهاز حالياً تعدى ذلك بمراحل، وأصبح يصنع منتجات لمنافسة الشركات المدنية في بعض الصناعات غير العسكرية، وذلك يبعد الجهاز تماماً عن دوره الرئيس.
جهاز مشروعات الخدمة الوطنية تتبع الآن له شركتان تغطيان مجموعة واسعة من القطاعات من البناء والنظافة إلى الزراعة والمنتجات الغذائية، وتضم شركات معروفة منها: كوين سرفيس للخدمات الأمنية، الشركة الوطنية لاستصلاح الأراضي، وشركة مصر للتصنيع الزراعي التي تمتلك 7 مصانع لإنتاج “صلصة طماطم، منتجات ألبان، أعلاف الماشية والأسماك، البصل المجفف”، وشركة كوين لإنتاج المكرونة، إضافة إلى قطاع الأمن الغذائي الذي يمتلك عدداً كبيراً من المزارع والمجازر للحيوانات والدواجن إضافة إلى وحدات إنتاج الألبان ومجمعات إنتاج البيض وغيرها.
2- الهيئة العربية للتصنيع: أنشئت عام 1975 بتعاون بين مصر وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بهدف بناء والإشراف على تطوير قاعدة تصنيع دفاع عسكري مشتركة. في عام 1993، قامت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات بإعطاء مصر أسهمها في الهيئة والتي بلغت قيمتها آنذاك 1.8 مليار دولار، فأصبحت الهيئة مملوكة بالكامل للحكومة المصرية. يتبع الهيئة العربية للتصنيع 11 مصنعاً وشركة تعمل في مجالات الصناعات العسكرية والمدنية، منها مصانع صخر وقادر وحلوان للصناعات المتطورة، ومصنع سيماف الذي ينتج عربات السكك الحديدية والقضبان.
يرأس الهيئة العربية للتصنيع حالياً الفريق عبد المنعم التراس “عضو مجلس عسكري على قائمة الاستدعاء”، تتوفر منتجات عسكرية للهيئة العربية للتصنيع حاليًا، ولكن بشكل ضعيف جداً، وتصنع معدات عسكرية ضعيفة ومحدودة الإمكانيات ولم تلبِّ احتياجات الجيش المصري من التصنيع العسكري كما يرى خبراء، والسؤال هنا: هل هذا هو الدور المنوط بتلك الهيئة؟ والتي يُفترض أن مهمتها دعم وتقوية التسليح العسكري المصري الأمر الذي كان يعمل عليه وزير الدفاع الأسبق المشير أبو غزالة؟ الجيش المصري الآن يعتمد على التسليح الخارجي بشكل أساسي وابتعد تماماً عن التسليح العسكري الوطني، ومعلوم أن السلاح الذي يأتي من الخارج يُفقد الدولة استقلالها، ولذلك يحتم على الدولة التي تبحث عن الاستقلالية وألا تكون دولة تابعة أن تمتلك وتصنع سلاحها بنفسها إلى جانب غذاءها ودواءها.
وبناء على ما كشفة معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري SIPRI) مؤخراً، فإن مصر أصبحت ضمن قائمة الدول الأكثر استيراداً للأسلحة في العالم بين أعوام 2008-2012 و2013-2017. [3] تصدر الهيئة العربية للتصنيع المعدات التي تصنعها إلي جيوش متهالكة وضعيفة من الناحية العسكرية وتحديداً في أفريقيا. وأصبحت المصانع الحربية التابعة للهيئة تركز على تصنيع مواد أساس منزلية بالدرجة الأولى كي تنافس الصناعات المدنية في ذلك المجال.
3- الهيئة الهندسية للقوات المسلحة: تحولت الهيئة الهندسية بعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم منتصف 2014م، من كونها إدارة متخصصة بالأعمال الهندسية العسكرية داخل الجيش إلى شركة مقاولات كبرى مهيمنة على السوق، وهذا ما كشف عنه المقاول محمد على في فيديوهاته الأخيرة.[4] فالهيئة الهندسية الآن تسيطر عن طريق إدارتها التابعة (الأشغال العسكرية، المساحة العسكرية، المياه، المشروعات الكبرى، المهندسين العسكريين) على تنفيذ وإنشاء شبكات الطرق الحرة والكباري والمطارات والفنادق والمدن العمرانية الجديدة في مختلف محافظات مصر، وعلى العديد من مشاريع محطات تحلية المياه وحفر الآبار، ومد خطوط المياه إلى المدن والتجمعات العمرانية الجديدة، وتنفيذ الأعمال المساحية وإصدار الخرائط والموسوعات لمعاونة الأجهزة المدنية في تنفيذ المشروعات العملاقة، فضلًا عن المشاركة في مشروعات التنمية الحضارية والاجتماعية الصحية، بإنشاء وتطوير المدارس والمستشفيات والوحدات الصحية ومراكز التنمية الحضارية، وإقامة المشروعات الزراعية والإنتاجية وصناعة الخامات والمواد الإنشائية المستخدمة في المشروعات، وإنشاء وتطوير الاستادات والملاعب والساحات الرياضية لإقامة البطولات المحلية والدولية. كما تقوم أيضًا بمعاونة القطاع المدني بالتغلب على الآثار الناجمة عن الكوارث الطبيعية والصناعية، وعمليات الإنقاذ والنجدة والتدخل السريع باستخدام أحدث الأجهزة والمعدات المتنوعة والقدرات والإمكانات، وإيواء المتضررين وإزالة الأنقاض والمعاونة في إنشاء معسكرات العزل الصحي.
4- الهيئة القومية للإنتاج الحربي: تأسست عام 1984، بهدف الإشراف على المصانع الحربية، تمتلك الهيئة حالياً أكثر من 18 مصنعاً للصناعات العسكرية والمدنية، ولكن تصنيعها حالياً ينحصر في الصناعات المدنية، ومن تلك المصانع “أبو قير – أبو زعبل – شبرا – حلوان” للصناعات الهندسية، إضافة إلى مصنع حلوان للأثاث ومصنع حلوان لمحركات الديزل ومصنع حلوان للصناعات غير الحديدية، وفي الصناعات الكيميائية تمتلك الهيئة مصانع “أبو زعبل وقها وهليوبوليس” وفي الصناعات الإلكترونية هناك مصنع بنها للصناعات الإلكترونية، كما تمتلك الهيئة أسهماً في شركات أخرى مثل “ثروة البترول” و”إيبيك” العالمية لصناعة المواسير وهي أكبر منتج لأنابيب النفط والغاز في المنطقة، كذا الشركة العالمية لصناعة الكمبيوتر.
5- وزارة الإنتاج الحربي: وزارة الإنتاج الحربي المصرية هي الوزارة المسؤولة عن إدارة وتطوير وتشغيل المصانع الحربية في مصر ويتولى رئاستها الآن اللواء محمد سعيد العصار “عضو مجلس عسكري على قائمة الاستدعاء”، ولكن معظم المصانع الحربية التابعة للوزارة اتجهت للتصنيع المدني بشكل كبير وكان آخر تلك المصانع مصنع النجيلة الصناعي الذي أصبح مهيمنًا على ذلك السوق.
فكما قال أحد الساسة مؤخراً في توصيفه لهيمنة الجيش على القطاع الاقتصادي “لقد وصلنا إلى نقطة يتنافسون فيها حتى مع البائعين المتجولين“! وبشكل عام فإن أي عمل اقتصادي يقوم به الجيش مرتبط ارتباطًا كليًا بعقيدة ومنهج الجيش، فإذا تخلى الجيش عن الدور المنوط به وتغيرت عقيدته الوطنية يحدث تحولاً كبيراً في كافة أنشطته.
فعند النظر إلي كافة المؤسسات الاقتصادية التي يرتكز إليها الجيش حالياً في نشاطه الاقتصادي، نجد أنها كانت تهدف بالأساس إلي امتلاك وتصنيع السلاح ومعاونة الجيش في تنفيذ مهامه، وظلت تلك المؤسسات حتى بعد اتفاقية كامب ديفيد على قدر جيد من التصنيع وملبية لاحتياجات الجيش اللوجستية، ولكن بعد يوليو 2013م، تغيرت عقيدة ومنهج الجيش المصري في مستوياتها الثلاث الأساسية والبيئية والتنظيمية، وأصبح العدو التاريخي للجيش والدولة المصرية ليس الكيان الصهيوني؛ بل أصبح “الإرهاب” و”الإسلام السياسي” هما العدو[5]، وأصبح الانتشار العسكري غير مرتكز ناحية الشرق بل أصبح متكتلًا في وسط العاصمة وناحية الغرب.[6] لقد أصبح التصنيع العسكري غير ضروري للنظام العسكري الحالي؛ لأن الدولة المصرية المتمثلة في نظامها العسكري كما يرى البعض دولة تابعة لا تسعي نحو الاستقلالية، وأهم ما يميز الدول التابعة استيراد السلاح وليس تصنيعه، وأصبحت السيطرة على الحياة الاقتصادية من أولويات ذلك النظام، لتحويل وضعية الجيش المصري من لاعب كبير إلي فاعل مهيمن ومسيطر على كافة النواحي، ولذلك حوّل كافة مؤسساته الاقتصادية للتصنيع المدني.
ختاماً:
إن تحول الجيش المصري من كونه لاعبًا رئيسًا إلى فاعل مهيمن ومسيطر، يعني أنه يسير نحو السيطرة التامة على كافة الجوانب الاقتصادية، وبالتالي من يظن أن الجيش يركز على ملفات دون أخري فهو في الأغلب خاطئ، لأنه يمشي نحو الكيف أولاً ولكن الكم أيضًا سيأتي ويستحوذ عليه في الفترات القادمة. لذلك فإن المستثمرين الأجانب ورجال الأعمال المصريين حتى المؤيدين منهم لسياسات ذلك النظام، والذين يظنون أن أعمالهم في منأى عن سيطرة الجيش على كافة الحياة الاقتصادية واهمون، فهيمنة المؤسسة العسكرية على القطاع الاقتصادي ستلحق الضرر بالجميع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتاب “كنت رئيساً لمصر” ص 92.
[2] “اقتصاد العسكر” القصة الكاملة لإمبراطورية الجيش المصري.. من حماية الحدود لحماية “البيزنس”، فيلم وثائقي.
[3] مصر: سياسات التسليح العسكري 2018، محمود جمال، المعهد المصري للدراسات.
[4] محمد على: هل يقود صراع الأجنحة إلى سقوط السيسي؟، محمود جمال، المعهد المصري للدراسات.
[5] الجيش المصري وإسرائيل: تحولات العقيدة، محمود جمال، المعهد المصري للدراسات.
[6] الجيش المصري: التكوين وخرائط الانتشار.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى