مقالاتمقالات المنتدى

إمام الوسطية والتيسير .. بركة الأعمار

إمام الوسطية والتيسير .. بركة الأعمار

بقلم د. أمين الحزمي (خاص بالمنتدى)

لَكَمْ ترددتُ في الكتابة عن الإمام القرضاوي بعد المصاب الجلل الذي أصيبت به الأمة بفقده، إذ ما عسى مثلي أن يضيف عن هذا الإمام العلم الشامخ الذي عزَّ نظيره، لكنه أقل الواجب في حقه وأنا أحد من تشرف بالتتلمذ على كُتبه ومناقشاته كما الآلاف من طلبة العلم والعلماء في أنحاء العالم.
ورغم أن مرضه الذي حجبه عن الناس في السنوات الأخيرة قد جعل موته متوقعاً في أي لحظة مع طول العمر وتراكم الأمراض، إلا أن مصيبة الموت في مثله لَمِنْ أكبر الفواجع التي يهتز لها القلب، وهنا يحضرني ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 14/850 عند حديثه عن موت الإمام الموسوعي المجتهد المطلق ابن جرير الطبري رحمه الله؛ حيث نقل رثاء ابن الْأَعْرَابِيِّ فيه، إذ قال:

حَدَثٌ مُفْظِعٌ وَخَطْبٌ جَلِيلٌ … دَقَّ عَنِ مِثْلِهِ اصْطِبَارُ الصَّبُورِ
قَامَ نَاعِي الْعُلُومِ أَجْمَعِ لَمَّا … قَامَ نَاعِي مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرِ

وإن مصاب الأمة بفقد شيخنا القرضاوي لا يقل عن مصابها بموت الطبري في زمنه حيث لم يكن في زمنه مثله، وكذلك الإمام القرضاوي في زماننا فهو إمام موسوعي مجتهد، أزعم أنه لم يوجد له نظير في آخر 200 سنة. واللافت أن ابن جرير الطبري على جلالة قدره وسَعَةِ علمه قد لحقه الكثير من الأذى من بعض المتعصبة الغلاة، كما أن الإمام القرضاوي قد لحقه منهم الكثير وإن لم يبلغ ما لحق الطبري رحمه الله تعالى.

100 عام تقريباً عاشها الإمام القرضاوي في دنيانا الفانية، ثرية بالإنتاج العلمي والمعرفي والدعوي والفكري والمواقف الأصيلة الصلبة. وقد أحسن أستاذنا الدكتور/ محمد المختار الشنقيطي أيما إحسان حين لخص التعريف بالشيخ في جملتين هما في تقديري أبلغ وأجمع ما قيل فيه عندما قال: (جمع بين العلم الشرعي والموقف الشرعي).

100 عام كانت حصيلتها من الإنتاج المكتوب 100 مجلدٍ كبيرٍ جمعت كل إنتاجه العلمي والفكري، ما يعني مجلداً واحداً عن كل عام منذ ولادته إلى وفاته، محققاً منقحاً وفيه الكثير من الجديد السَّديد من بنات أفكاره لا مجرد نسخ ونقل لكتابات غيره من الفقهاء والعلماء، كما أنها كتابات جاءت لسدّ فراغات في وقتها لطالما احتاجت إليها الأمة ولم تكن مجرد حشوٍ أو تَرفٍ فكريٍ، ولذلك حفرت أثرها في الأجيال.

مضافاً إلى ذلك تدريسُه الجامعي، وعشرات وربما مئات الرسائل العلمية التي أشرف عليها أو ناقشها، ومئات الكتب التي قدم لها بعد قراءتها، مع ما يقدمه لأصحابها من ملاحظات أو نصائح، وهو في ذلك كله خير مشجعٍ للباحثين، ومنصف للعلماء، ورافع من أقدارهم، بل طالما أظهر تعلُّمه من تلك الكتابات، وتتلمذه عليها أدباً وتواضعاً قَلَّ نظيره، وقد سَحَرَ بتواضعه كُلَّ من اتصل به، على ما كان عليه من مقام وقدر رحمه الله تعالى.

هذا كله مع كثرة أسفاره واللقاءات والمؤتمرات والندوات التي شارك فيها في قارات العالم، وفوق ذلك الذين يقصدونه في مكتبه أو حيث يقيم في أسفاره من العامة والخاصة من كافة الشرائح. مع ما يتطلبه كل ذلك من جهد بدني وحضور ذهني وتفاعل مع الجميع وما يقصدونه إليه من مشورة ورأي، أو نصح وتوجيه.

عشرات المؤسسات التعليمية والإفتائية والخيرية والاقتصادية، المحلية والإقليمية والعالمية التي أسَّسها أو ساهم في تأسيسيها أو رئاستها أو عضويتها مما تدهشك به جولة سريعة في سيرته الذاتية، ووجوده في كل تلك المواقع وجودٌ فاعلٌ، لا مجرد وجودٍ شرفيِّ رمزي، ولقد لَمستُ ذلك جيداً في دورات المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء الذي يعدُّ إحدى أهم المؤسسات الإفتائية التي رأسها منذ تأسيسها إلى العام 2018م وقد رأيت في الفترة التي شرفت بحضور دورات المجلس بمشاركته ورئاسته بين عامي 2008-2018م – تعذر عليه بعدها المشاركة لمرضه- كم كان حريصا على الحضور في كل دورة رغم تقدم سنه، وكثرة مرضه وعظيم همومه ومشاغله، وتحمله عناء السفر. وحضوره الجلسات بتركيز عجيب ومشاركة فاعلة سواء عند عرض البحوث ومناقشتها أو عند مناقشة الفتاوى، ولا تكاد تخلو دورة من بحث واحد له على الأقل. ورغم أنه كان فوق الثمانين في هذه الفترة إلا أنه كان بهمةٍ وجلدٍ وعزمٍ يفوق الشباب.
كل هذا مع ذاكرة حية، وقدرةٍ على استحضار الأدلة والآثار وأقوال العلماء والمراجع العلمية عجيبة عجيبة!

يستاءل المرء كيف تهيأ له كل ذلك وكيف استطاع الجمع بين كل ذلك الانتاج العلمي الفريد مع كل تلك المسؤوليات والمهام والهموم التي تنوء بها المؤسسات فهو لم يكن متفرغاً للتأليف والتدريس فقط كما عليه حال كثير من أئمة المسلمين؟
وكم بارك الله عمره حتى جمع كل هذه الأعمال، ومعها قراءاته الواسعة ومطالعاته الغزيرة في شتى المجالات!؟

وما ذاك إلا أني أرجو الله أن يكون ممن ينطبق عليهم حديث الولي الشهير في البخاري رقم 6502 والذي ورد فيه (…فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ).

إنها بركة الأعمار يهبها الله من يشاء من أوليائه حيث ينجزون منفردين ما لا تنجزه مراكز دراسات، بل ما لا تنجزه جامعات بأسرها، وحيث يتجاوز أثرهم الشخصي آثار عشرات المراكز والجامعات مجتمعة.
وقد قيل عن الإمام الفذِّ النووي رحمه الله، الذي عاش أقل من 46 سنة بأنه لو قُسمت مؤلفاته على سنيّ حياته لكان نصيب كل يوم كراستين، ولقد حُكي عنه أنه كان يكتب حتى تكل يده فتعجزه، فيضع القلم ثم ينشد:
لَئِن كان هذا الدَّمع يجْري صَبابةً … على غير سُعْدَى فهو دمع مضيَّع
ثم يعود للكتابة

وقال القزويني صاحب آثار البلاد وأخبار العباد عن حجة الإسلام الغزالي: «إن تصانيفه وزِّعت على أيام عمره فأصاب كل يوم كراساً».
ذكر ابن الطيب الفاسي في “شرحه على اقتراح السيوطي” أن الكراسة عند العرب اسم لعدد محدد من الصفحات، عشر صفحات.

لقد عاصر القرضاوي مراحل مختلفة من تاريخ الأمة والعالم، ومحطات وتحولات كبرى في شتى مجالات الحياة، وكان مواكباً لها، متفاعلاً معها، مؤثراً من موقعه فيها، ولم يعزل نفسه عن حدث أو قضية أو منعطف، ظلَّ متابعاً لقضايا العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، مشغولاً ومهموماً بها، بما في ذلك قضايا الأقليات المسلمة التي كان الدور الأبرز في تأسيس مداميك فقهها الذي عُرِف بـ(فقه الأقليات).

مثّل ظاهرة ومدرسة فقهية علمية اشتهرت بمدرسة “الوسطية” تركت أثرها على مخالفيه قبل محبيه وكم يجد الباحث من نقولات في مقالات وبحوث ومؤلفات مأخوذة من كتبه، منهم من يعزوها إليه، وكثيرون لا يعزونها خشية حسابات ضيقة وعصبيات بغيضة. وقد وصل الكثير من مخالفيه إلى ما سبق إليه منذ عقود مما كانوا كانوا يشنعون عليه به ويعدونه تساهلاً وتمييعاً للدين بينما كان عين الوسطية التي تميز بها رحمه الله.

الإمام القرضاوي جمع ما تفرق في غيره من فقهاء الإصلاح والتجديد في القرنين الأخيرين: (محمد عبده، ورشيد رضا، والمراغي، وشلتوت، ودراز، وخلاّف، وأبو زهرة، والغزالي) وغيرهم كثير، بل استفاد ممن سبقهم من المجتهدين المتحررين كالشوكاني، وأضاف إلى كل ذلك بصمته الخاصة. فقدَّم الفقهَ بلغة عصرية بسيطة مفهومة، بعيدة عن التعقيد، جامعة بين حجة الفقيه ولغة الأديب وفكر الفيلسوف.
ومما يدلل على عظيم أثره رحمه الله عشرات الجوائز العالمية والمحلية، و100 رسالة علمية (ماجسيتر ودكتوراه) – كما ذكر أحد القريبين منه – وعشرات الأبحاث في حياته حول شخصيته ومنهجه في جوانب ومواضيع مختلفة وهذا ما لم يجتمع – تقريباً – لشخص في حياته لا من المتقدمين ولا من المتأخرين.

هكذا كان الإمام المبارك المجاهد، وهو بلا شك ليس بمعصوم فكلٌّ يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وقد آن له أن يرتاح بعد هذه الرحلة الطويلة الشاقة مع كل ما رافقها من عناء، وظلم، وسجون وحملات تشويه وافتراءات ممنهجة ومنظمة، حرمته حتى حق التعزية من البعض، أو صلاة الغائب، كل ذلك لأنه لم يَسِرْ على هوى الطغاة، وفي ركاب السلاطين رحمه الله، وهذا هو جرمه الأكبر لا جرم سواه، وإلا فقد كان رمز الوسطية والاعتدال المرحب به في كثير من المحافل الرسمية. وهو من أوائل من تصدى لظواهر التطرف والعنف والتكفير تنظيراً وتأصيلاً، واليوم يوسم بها ظلماً وعدواناً!

مات القرضاوي كما مات الطبري والغزالي وابن عبد السلام وابن تيمية رحمهم الله جميعاً، مات وبقيت علومه ومواقفه شاهدة عليه تتناقلها الأجيال كمن سبقوه. وسيموت شانؤوه كما مات شانؤوهم.

وأخيراً.. أختم بما ذكره الإمام ذكر الذهبي في السِّيَرِ 12/159 قال: قال إسحاق بن أحمد بن خلف: كنا عند محمد بن إسماعيل البخاري ، فورد عليه كتاب فيه نعي عبد الله بن عبد الرحمن (الدارمي)، فنَكَّسَ رأسه، ثم رفع واسترجع، وجعل تسيل دموعه على خديه ، ثم أنشأ يقول :
إنْ تبْقَ تُفجع بالأحبة كلهم ،،، وفناءُ نفسِك لا أبا لك أفْجَعُ.

اللهم بلغه منازل الصديقين، وأَعْلِ درجته في عليين، واكتب له في الآخرين، يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى