إليك أسرار الاتهام الأرعن بمذبحة الأرمن
بقلم د. محمد الجوادي
أبدأ بالقول بأن خسارة الأرمن ودولة أرمينيا من الاستدعاء للأخير للحديث عن مذبحة يفوق بمراحل حجم الإيذاء الموجه إلى تركيا، ومن المفهوم بالطبع أن العرقلة المخططة والمتكررة للصعود التركي الواثق هو الهدف الغربي الأول من الاستدعاء المفتعل الراهن لقصة مذبحة الأرمن، ومن الحرص على تكرار فتح هذا الملف بهذه الطريقة المكشوفة في التناول والمقاربة، بدون نفي لمضمون القراءة التي أدركها الجميع بسهولة أرى أن الهدف لا يقتصر على تركيا ولكنه يمتد ليشمل دولة أرمينيا نفسها (أقل من 3 ملايين نسمة ) التي بدأت تتأذى وستتأذى من هذا الموضوع أكثر من تركيا لعدة أسباب :
– السبب الأول أن أرمينيا ستواجه دون رغبة ولا تخطيط تأجيجا في عداوة أفراد شعب كبير العدد واسع الانتشار كالشعب التركي (80 مليون) حين يستعيد ذكريات خيانة الأرمن وغدرهم بالوطن الكبير.
– السبب الثاني أنها قد تعاني من توهين مفاجئ في علاقتها الصاعدة بتركيا في عهد الرئيس أردوغان وهي العلاقة الطبيعية الأولى بالرعاية، فمَثل تركيا بالنسبة لأرمينيا كمَثل ألمانيا بالنسبة لسلوفينيا مهما كان تاريخ العلاقة والإحن والمحن، وحين تبلغ الشعوب والدول مرحلة النضج فإن تأثير استعادة التارات القديمة ينحو إلى الضعف لكنه مع الإلحاح يغدو بمثابة عامل استفزاز للأعصاب واستثارة للمشاعر.
– السبب الثالث أن الطريقة التي يعرض بها الموضوع الآن تستهدف تعميق النزاع القائم بالفعل بين أذربيجان وأرمينيا وهو موضوع طويل.
لا يقف الأمر عند حدود أرمينيا لكنه سيمتد إلى كل من ينخدع في الملف من العسكر والطغاة الحاقدين على تركيا الحالية أو على تركيا ذات الأفق الإسلامي في الماضي والمستقبل، وستكون النتيجة أن خيبتي الأمل العاجلة والآجلة ستصيبان كل من يرقص بلا روية في هذا الموضوع مندفعا من الظن بأنه سينال مصداقية أو سيحصل على التعاطف في مجال العلاقات الدولية وسيجد أن العكس هو الصحيح، فالملف نفسه جزء من مساومة وليس جزءا من حقيقة، كما أنه موقوت الهدف وليس دائب الطابع، وقد قيل فيما حول واشنطن في وقت من الأوقات: إن المهمة الاستخباراتية الأمريكية الأولى هي المحاربة الهادئة من أجل إحباط الأصوات الانتخابية المسلمة ممن توجهت له ومكنته من الفوز في الصناديق، وهو ما يعني أنه اذا تصادف أن رئيسا غربيا فاز بالرياسة وكان لأصوات المسلمين دور مؤثر في هذا الفوز فلابد من المسارعة إلى دفعه دفعا حثيثا وبطريقة غير مباشرة إلى تكرار القول بتصريحات معادية لحلفائه الطبيعيين من مواطنيه المسلمين تجعل هؤلاء المسلمين يندمون على وقوفهم معه، وتجعلهم يؤثرون العودة إلى السلبية والعدمية.
وننتقل إلى موضوع المذبحة نفسه الذي قتل بحثا فكانت نتيجته في غير صالح الأرمن وبخاصة مع تكرار الإلحاح الإعلامي عليه، وعلى سبيل المثال فإننا في مصر اضطررنا إلى إحياء الحقيقة القائلة بأن الأرمن كانوا هم الطائفة الوحيدة التي خانت المصريين في ثورة ١٩١٩ بينما كان الإنجليز المقيمون يلتزمون الحياد ولم يساعدوا عسكر الإنجليز المحتل، كذلك فقد ذكرنا في إحدى تدويناتنا أن ثأر الأرمن لهذه الأحداث قد اكتمل تم على نحو لم يشهد التاريخ له مثيلا، وحقق لهم بلغة الثأر كل ما يبتغون إذ استطاع الأرمن مبكرا ووفق خطة صارمة قتل كل القادة العسكريين الأتراك الذين أمروا بما يسمى مذابح الأرمن بلا استثناء.
وعلى سبيل المثال فقد قتلوا جمال باشا السفٌاح وزير الحربية في الانقلاب العسكري العثماني (1872 ـ 1922) الذي كان قد قتل العشرات من خيرة رجال المسلمين ومع هذا فإنه لم يعاقب إلا بيد الأرمن، حيث قتله أرمني معروف في 21 يوليو 1922 في تبليسي عاصمة جورجيا ضمن عمليات مُخطٌطة ومهندسة .كذلك نجح الأرمن في قتل الصدر الأعظم محمد طلعت باشا (1874 ـ 1921) والذي شغل منصب وزير الداخلية في الانقلاب العسكري (1913 ـ 1917) ثم أصبح الصدر الأعظم (1917 ـ 1918) وقد قتل في العاصمة الألمانية برلين على يد أرمني في 15 مارس 1921. ومن الجدير بالذكر أن الاستثمار الغربي للمذبحة لا يتوقف إلا عندما يكون لإسرائيل مصلحة عند تركيا وقد ظل هذا الملف على الدوام من الملفات التي تلتزم إسرائيل فيها باتفاقها مع تركيا.
قلنا من قبل إن التعريف الأمريكي لمذبحة الأرمن يشير في سطره الأول بطريقة حصرية مُحدٌدة إلى أن مذبحة الأرمن تُشير إلى “القتل المُتعمٌد والمنهجي للسكان الأرمن من قبل الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى..” وفي هذا التعريف قدر “مُطلق” من المُبالغة الخاطئة فنحن نعرف بكل وضوح أن الحرب العالمية الأولى انتهت بزوال الدولة العثمانية على يد الاتحاديين الانقلابين من داخلها وعلى يد الحلفاء من خارجها بل هكذا تُردٌدُ الأدبيات الغربية كلٌها، فكيف تكون الدولة العثمانية مسئولة بعد زوالها عما حدث؟ مع أن جمعية الاتحاد والترقي استولت على الحكم على خطوتين سريعتين 1908 / 1909 ومارست الحكم المطلق منذ ذلك الحين وقد كان الهمٌ الأكبر الذي شغل العسكر الأتراك الانقلابين بعد دخولهم الحرب العالمية الأولى هو مواجهة خيانة مواطنيهم الأرمن لهم حيث انضم بعض هؤلاء الأرمن بطريقة غادرة إلى الروس وقتلوا مواطنيهم المسلمين المدنيين في الأناضول الشرقية.
وهكذا رأى العسكر الانقلابين بحكم عقليتهم العسكرية الصرفة أن ينشغلوا بتأديب الأرمن واتقاء شرهم، وقلنا إن من الملفت للنظر أن مُصطلح الإبادة الجماعية نفسه قد اختُرع لوصف هذه الأحداث، بل نشأت جمعيات دولية باسم “الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية” ومن الجدير بالذكر أن هذه الجمعية وأمثالها لم تُعن على الإطلاق بما هو واجب أن تعنى به في ظل هذا الإلحاح الغربي الأخير الذي قد تضطره الظروف إلى مناقشة وإدانة ما حدث على يد العسكر الذين صنعهم الغرب ووجّههم في مذابح العشرية السوداء في الجزائر أو في مذابح الأسد في سوريا أو في مذبحة رابعة وأخواتها في مصر.
(المصدر: مدونات الجزيرة)