إلى علمائنا في المهجر! | بقلم أبو بكر خالد سعد الله
عرفت الجزائر منذ الاستقلال نخبة علمية تزايد عددها تدريجيا. وفي بداية الأمر، كانت تلك النخبة متفائلة فمالت إلى خدمة الوطن من الداخل. ولذا كان الكثير منهم يعود إلى البلاد بعد انقضاء المشوار الدراسي. وهكذا أسهم علماؤنا آنذاك في إقلاع الجامعة الجزائرية ومؤسسات كثيرة أخرى. ثم حدث ما حدث في مطلع التسعينيات فكانت موجة الهجرة الجماعية نحو الغرب بقارّتيْه الأوروبية والأميركية، ثم تلتها موجة ثانية نحو بلدان إفريقية وآسيوية، لاسيما دول الخليج العربي.
وفي مجموعة هؤلاء النازحين نجد فئات شتى: فئة الفارين من المتابعات القمعية بعد أن عرفوا السجون، وفئة تبحث عن الثراء، وفئة هاجرت لظروفٍ أسرية واجتماعية قاهرة، وفئة تبحث عن حياة أفضل، وفئة تأكدت أنها لن تتأقلم مع الأجواء والتقاليد الجديدة للمجتمع… ورغم هذا التنوع في أسباب الهجرة بالمئات، بل بالآلاف، فإننا نلاحظ عاملا مشتركا لدى جلّ هؤلاء، وهو الحنين إلى خدمة الوطن عن بُعد و/أو عن قرب.
وفي مطلق الأحوال، ليس لأيّ كان أن يحشر أنفه في خيار الفرد فيما يتعلق بتسيير حياته الشخصية. لكن هذا لا يمنعنا من التأكيد على أن ثمة مسؤولية فردية وجماعية ثقيلة تقع على عاتق من اختاروا الهجرة، وهم يشعرون بانتمائهم إلى بلدهم الأصلي. وتتمثل هذه المسؤولية في كوْن هجرتهم كرّست الرداءة التي تعاني منها جامعتُنا اليوم. والأمر لا يحتاج إلى بيان، ففي رحاب هذه الجامعة، كان يتعايش الغث والسمين، وحين غادرها جزءٌ معتبر من “السمين” اتّسع المكانُ بشكل طبيعي لـ”الغث”!
وتوالت السنين، وتعاون الكثير من علمائنا في المهجر مع جامعاتنا بكيفيات مختلفة وبدرجات متفاوتة. لكننا لم نعرف -ربما لجهلنا- أن أحدهم اختار سبيل تعاون بعيد الأفق لخدمة بلده مثلما فعل الشاب النيجيري اللامع قادر كانيي Kader Kaneye!
قادر كانيي… قُدوتنا!
اليوم، لم يتجاوز قادر كانيي 35 سنة من العمر، وقد تحصل هذا الشاب على شهادته عام 2017 من جامعة هارفارد Harvard الأمريكية الراقية، وكذا من باريس في التقنيات الاقتصادية والمحاسبة؛ كما فاز في الصيف الماضي بـ”جائزة القائد العالمي الصاعد” من جامعة هارفارد، وذلك لـ”إسهامه الاستثنائي في الخدمة العمومية في العالم”. لماذا؟! لأنه أسّس عام 2017 في نيامي، عاصمة بلده النيجر، جامعة غير ربحية سمّاها “جامعة التنمية الإفريقية”. هذه الجامعة مستوحاة من نموذج جامعة هارفارد بالذات، وهدفها تكوين جيل جديد من النُخب الإفريقية.
والفكرة التي راودت الأستاذ قادر منذ صغره هي توفير تكوين متميّز للشباب النيجيري خاصةً والإفريقي عامةً، ليتمكنوا من تنمية القارة الإفريقية. وهكذا، أمضى قادر إثر تخرّجه في ماي 2017 ثلاثة أشهر (جويلية-سبتمبر) في البحث عن مبني بمدينة نيامي يأوي جامعته غير الربحية، فعثر على مبنى قديم كان يحتاج إلى إصلاحات ضخمة، وهو بدون زاد مادي.
وقد لبَّى نداءه لترميم المبنى مجموعةٌ من المتطوعين والخيّرين داخل النيجر وخارجها. وفي نفس الفترة التقى برجال الأعمال وبمئات الأولياء والطلاب، وكذا بزعماء القبائل ورجال الدين، وبرؤساء مختلف الجمعيات وبالعديد من السفراء المعتمدين في النيجر، وبكبار المسؤولين في الدولة، بمن فيهم رئيس البلاد… وهذا سعيا للحصول على الدعم المادي والسياسي. فنال كل ما أراد!
جامعة التنمية الإفريقية… تفتخر!
والمدهش أن صاحب هذه المبادرة لا ينحدر من أسرة ثرية من أعيان النيجر، بل كانت عائلته تعيش في قرية بائسة منزلها من طين ومن دون مياه جارية ولا كهرباء. وهكذا افتتح قادر جامعته غير الربحية في خريف 2017، علمًا أن طموحه هو تحويل نظام التعليم العالي في النيجر إلى هذا المنوال. والآن يقوم هذا الرائد بتشييد مرافق جديدة لهذه الجامعة الفتية التي توفر إمكانية الحصول على شهادات متخصصة مختلفة بمستوى الماستر.
لقد أثمر هذا المشروع بشكل واضح بفضل حنكة ومثابرة الأستاذ قادر إذ وضع جامعة التنمية الإفريقية على قدميها بهدف تعليم الشباب، بصرف النظر عن إمكاناتهم المالية… والمحكّ الوحيد هو أن يكون الطالب ملتزما بالتميّز الأكاديمي، ومستعدًّا للعمل بجد، واضعًا نصب عينيْه خدمة مجتمعه مستقبلا. ولهذا فإن الكثير من المسجلين في هذه الجامعة جاؤوا من المناطق الريفية في النيجر ومن البلدان المحيطة بها.
في هذه السنة الجامعية، بلغت نسبة الطلبة الحاصلين على مساعدات مالية من الجامعة 90%، منهم 20% فازوا بمنحة دراسية كاملة، وهو ما يمثل كلفة مادية ثقيلة على عاتق الجامعة. وحسب الأستاذ قادر، ستحتاج الجامعة إلى 10 ملايين دولار أمريكي للتكفل ماديا بألف طالب خلال السنوات العشر القادمة. وقد ارتبطت الجامعة بمؤسسة أمريكية مستقلة كُلفت بتعبئة وإشراك الأفراد والمنظمات في جميع أنحاء العالم لدعم هذه المؤسسة الرائدة بكل الوسائل المتاحة.
تفتخر جامعة التنمية الإفريقية بأنها أول جامعة غير ربحية في النيجر، وتفتخر أيضا بكونها أول جامعة في منطقة الساحل الإفريقي تقدِّم تعليمًا عالميّ المستوى. نشير إلى أنه عندما فتحت الجامعة أبوابها عام 2017، كان عدد طلابها لا يتجاوز 35 طالبًا، ثم ارتفع إلى 184 طالبًا في العام الماضي. وهذا العام، يبلغ عدد طلابها 524 طالبا. وتشير التوقعات إلى أن هذا العدد سيصل 1020 طالبًا خلال العام القادم، ثم 1560 طالبًا عام 2021.
وفضلا عن الدروس المخصَّصة للطلبة، تنظم الجامعة دوراتٍ للكبار الذين يسعون إلى تحسين مهاراتهم في اللغة الإنكليزية من أجل العمل أو السفر أو الدراسة. وهناك أيضا دوراتٌ قصيرة لكبار الموظفين الإداريين بهدف تمكينهم من مهارات العمل وفن التفاوض والخطابة وأساليب صنع القرار الإستراتيجي. وتنوي الجامعة فتح كلية للطب قريبا، وأخرى متعددة التقنيات للمهندسين عندما يكتمل بناء الحرم الجامعي. وللتغلب على النقص في عدد الأساتذة الجيِّدين، يستفيد الطلبة من التعليم الإلكتروني المتوفر في الإنترنت ومن المحاضرات والدروس التي يلقيها كبار الأساتذة في أرقى جامعات العالم، وعلى رأسها جامعة هارفارد.
تلك هي مبادرة أستاذٍ شاب من العالم الثالث يسعى من ورائها إلى خدمة بلده والقارة الإفريقية بكاملها. فمتى ستلتفت نُخبنا في الخارج إلى مثل هذه المشاريع الرائدة؟!
(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)