بقلم د. عبد الجبار سعيد – مدونات الجزيرة.
فاجأني كثيراً أحد الأصدقاء وهو يعرض لي مظاهر تفشي الإلحاد بين الشباب في عالمنا العربي والإسلامي عموما، وفي دول الخليج وبين المهجرين من سوريا مصر والعراق في كل من تركيا وأوروبا، وكنت أظنه يبالغ عندما حدثني عن مدى ذهوله مما أصاب بعض الشباب من ردة فعل على الظلم، وصلت حد الإحباط واليأس، نجم عنه أصناف من الشباب الملحدين، ما بين ملحد إلحادا شاملاً، فينكر وجود الله وآثار ذلك الوجود بالكلية، أو ملحد إلحاداً جزئياً فينكر بعضاً من آثار وجود الله، كإنكار كلامه، أو نصرته للمظلوم، أو معاقبته للظالم، أو نحو ذلك.
وجه المفاجأة عندي أن أكتشف تفشي الظاهرة في المجتمعات المرفهة، والتي لا تعاني ظلماً فادحاً -إذ لا يوجد برأيي مجتمع عربي أو إسلامي لا يعاني من الظلم اليوم وإن بتفاوت- ومن ذلك مجتمعات الخليج، بل إن مؤسسة غالوب للأبحاث والدراسات أوصلت نسبة الملحدين في السعودية إلى خمسة في المائة (5%)، وهذا يستدعي منا وقفة حول سر انتشار هذه الظاهرة وأسبابها:
1- ولعل أهم هذه الأسباب وأولها: ما يعانيه الشباب من ردة فعل وإحباط بسبب انتصار الثورات المضادة كما في مصر وغيرها، أو نجاح الأنظمة المستبدة في مواجهة الثورات فيما عرف بالربيع العربي، كما هو الحال في سوريا وغيرها، وما يجري في العراق واليمن وليبيا مما أصبح يشكل عبأً تنوء تحته كواهل الشباب.
2- فشل المشروع الإسلامي الذي كان يمثل بارقة أمل لهؤلاء الشباب في تحقيق ما كانوا يصبون إليه من عدالة الدولة الإسلامية وحرية الناس ومحاسبة الظالمين، ونحو ذلك، وهذا الفشل عائد لعوامل داخلية، وأخرى خارجية ليس هذا مجالها، ولكن نتيجته وصول الشباب إلى قناعة بعدم صلاحية الحل المنتظر، عبر طرح الإسلاميين بكل أطيافهم لإنقاذ الأمة والناس وإخراج الأمة من وهدتها إلى نهضتها.
هذا ومن ضعف المشروع الإسلامي بلا شك: ضعف العلماء والمفكرين الذين يمثلونه، وضعف قدرتهم على التواصل مع الشباب، وفهم حاجاتهم، أو عدم قيامهم بهذا التواصل رغبة عنه أو قصوراً.
3- إشكالية الخطاب الديني في الواقع الراهن وتفاوته: ما بين خطاب مثالي بعيد عن الواقع، إلى خطاب صوفي عرفاني خوارقي بعيد عن الأسباب، إلى خطاب رسمي يبرر للمجرمين إجرامهم، بل ويدعوهم للقتل والإجرام ومعاقبة الثوار. وفي حالات قليلة جدا خطاب عقلاني متوازن يراعي حاجات الشباب وتطلعاتهم، ويحاول أن يرأب كثيرا من الصدوع فلا يكاد ينتهي، صوته خافت ضعيف أمام موجات العلمانية والظالمين، وأمام علماء الكراسي والسلطان، وأمام ضعف النصير وخذلان القريب وجبروت العدو.
يضاف إلى كل ذلك أسباب اخرى يصعب استعراضها في هذه العجالة، وأتجاوزها لمحاولة البحث عن حلول:
1- لا بد -في تقديري- من تجديد الخطاب الديني والفكري بما يتلاءم مع واقع الشباب، ويلبي أحلامهم وطموحاتهم، ومحاولة وضعهم على السكة الصحيحة فكريا، من خلال فهم الأسباب والمسببات، ومنظومة السنن الإلهية الكونية والحضارية والتاريخية والاجتماعية التي تحكم هذا الوجود وما فيه، وتنظمه. بالإضافة إلى بيان الوجه الحضاري والإنساني للإسلام، وقدرة الإسلام على منافسة الفكر الغربي والثقافة الغربية، في الميدان الحضاري والفكري والإنساني، وقدرة الإسلام على استيعاب القيم المشتركة الإنسانية، والتعايش مع الآخرين، والبعد عن الغلو والتشدد والتطرف، وغير ذلك من معالم الخطاب الإسلامي المنشودة مما يقصر المقام عن ذكره وحصره.
2- مراجعة المشروع الإسلامي، والوقوف على ما فيه من إخفاقات، وأسباب الفشل الذي مني به حتى اللحظة والعمل على تلافيها، والعمل على التغيير والنهوض من جديد، والبناء على ما فات من الجهود مع التصحيح والتصويب والتسديد والمقاربة، والأهم: مصارحة الشباب بالفشل، وأسبابه، وإشراكهم في المراجعة، وإطلاعهم على الحلول ومشاركتهم في التطوير. وبيان حاجة الأمة للشباب، وإعطائهم الدور الحقيقي في النهوض بالأمة والبناء الحضاري لها. لا تجاوزهم وتهميشهم والتسلق على أكتافهم، ليكونوا وقودا للمعركة فحسب. وإثبات قدرة الإسلام على معايشة الجميع، واستيعابهم مسلمين وغير مسلمين في المجتمع الإسلامي، وغير ذلك من المعالم التي لا بد من مراجعتها في المشروع النهضوي الإسلامي.
3- نقد الظاهرة الإسلامية بكل ما فيها، وكشف وتعرية الخطاب العلمائي الرسمي، أو العلمائي المحابي للظالمين، وفضح مواقف علماء السلطان، وتحديد الموقف العلمي والفكري والإنساني منهم ومما يطرحون وأنهم لا يمثلون الإسلام، وكذا أصحاب الخطاب المتصوف الجامد، الساعي لحصر الإسلام في الزوايا والتكايا بعيداً عن الواقع والحياة والشباب.
4- مبادرة العلماء والمفكرين والمثقفين إلى التواصل مع الشباب، ومعايشة همومهم، والإجابة على شبهاتهم وإشكالاتهم، والسعي لمشاركتهم معاناتهم والعمل على حل المستطاع منها. والبعد عن التقليل من شأن ما يطرحون، وتقدير وجهات نظرهم، وإن بدت لبعضنا خاطئة، والعمل على تصويبها، بهدوء وتدرج وعلمية. وكل ما أخذ هذا الجهد طابع المؤسسية في العمل، والاستناد إلى الدراسات والعلوم، والبعد عن العشوائية والارتجال، كلما كان أدعى لتحقيق أهدافه، والوصول إليها.
وبعد، فهذه محاولة في التعامل مع الظاهرة والأمر جلل يحتاج لأكثر من هذا ولا شك. وأنا هنا أدعو الشباب أنفسهم للحديث عن هذه الظاهرة ومتعلقاتها، ليبصروا الأمة بمشكلاتهم ويساعدوا أهل الفكر والثقافة في الاقتراب من الحل.