مقالاتمقالات مختارة

إقصاء 1400 دكتور في العلوم الإسلامية من التوظيف.. لماذا؟!

إقصاء 1400 دكتور في العلوم الإسلامية من التوظيف.. لماذا؟!

بقلم أحمد محمود عيساوي

بمقدار ما أسعدني وأثلج قلبي تلك الإعلانات التي باتت تترى في الصحف الوطنية وغيرها من قنوات التواصل والاتصال والإعلام الداعية إلى توظيف حمَلة الدكتوراه في مختلف الجامعات والمعاهد والتخصصات على غير عادتها طيلة عقدين زمنيين بيروقراطيين فاسدين، وبعد انقطاع أثيم وظالم دام سنوات من الركود والموات في العهد البوتفليقي البطيء.. إذ كانت كنوز وأموال الأمة الجزائرية في تلك الحقبة الظالمة تُنهب وتُسرق وتُحوَّلُ وتُبدَّد من قبل حُماتها ورعاتها وخزنتها الأمناء..

وفي الوقت الأثيم والظالم نفسه كان الآلاف من حملةِ الدكتوراه يتسكعون في بحار الألم والقهر والموت البطيء.. ويموتون كل يوم ألف مرة في طمي الفراغ والعذاب المبير.. ويلعقون في كل صباح ومساء الآهات المكظومة، ويتنفَّسون أبد دهرهم الضيق والضياع والتيه.. فيما كان يتمتع غيرُهم من الفَسَدةِ وأبناؤهم وأحفادهم وعصاباتهم وشللهم وخدمهم بإمكانات الأمة الجزائرية المسكينة.. ويبدّدونها في الرذائل والموبقات واقتناء الأملاك والعقارات وتحويلها نحو البنوك الخارجية.. وتفكيك وتهديم آخر ما تبقى من عالم القيم الفاضلة والحشمة والحياء والأدب والأخلاق..

وبمقدار بهجتي ونشوتي اللتين لا توصفان، وبحجم سعادتي وسروري المنقطعين بتوظيف تلك الكفاءات الشَّبابية الجزائرية المُعطلة من حملةِ الدكتوراه في كافة التخصُّصات والميادين البحثية.. وانتشالها من بحر التلاشي والقهر والموت.. زادت تعاستي وشقائي زيادة طوفانية غير موصوفة، واكفهرت الدنيا في وجهي عندما رأيتُ أكثر من ألف وأربعمائة (1400) إطار دكتور يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية بمختلف تخصّصاتها غير معني البتة بعملية التوظيف تلك، وأنها لا تعنيهم ولا تمسّهم من قريب أو من بعيد.. وبتُّ أشعر بخيبة أمل جارفة تجتاح كياني.. وأتألم عندما أصل إلى نتيجة مفادها: أن الجزائر ليست بخير، عندما تهمّش خريجي العلوم الإسلامية، وتحذفهم من خارطة ومخططات مشاريعها لحل أزمة البطالة المستفحلة والمزمنة، مع أنهم من خيرة أبنائها وبناتها من الأطهار من حفظةِ كتاب الله تعالى، والحافظين والعاملين بشريعة الله، والممتثلين فهما وتطبيقا وعملا ودعوة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خَدَمَةِ الوطن والهوية والثقافة الجزائرية ومرجعيتها الدينية الثابتة الحقيقيين والفعليين.. وأتبين –دونما شك أو عناء أو تردد- للقول والحكم بأن القائمين على التعليم والتربية والتكوين والتأطير والدعوة والبناء والجامعة والاقتصاد والتنمية والخير للأمة ليسوا على وفاق مع الإسلام وخرّيجيه وإطاراته وكفاءاته العلمية والدعوية والإصلاحية والخيرية العليا، بمقدار احتفائهم وسرورهم وترحيبهم واهتمامهم بالراسبين في شهادة الباكلورية والموجّهين نحو معاهد تكوين الأئمة..
وهذا في حد ذاته مؤشرٌ سلبي –في عالم القياس والروز العلمي- ومُثبط تنمويا واقتصاديا ونهضويا وثقافيا وحضاريا، بل هو مقياس مزعج ومشوَّش بنتائجه غير النزيهة ومنطلقاته الإقصائية الظالمة.. ومعيار مُوَتِّرٍ لطبيعة العلاقة مع مشروع التنمية الشامل الذي تقتضيه مرحلة بناء الجزائر الجديدة، التي يجب أن لا يُظلَم ولا يُقصى فيها أحدٌ أو شريحة.. والذي يجب أن لا تُستثني فيها أيُّ قوةٍ أو مجموعة أو اتجاه.. فما بالك وأنَّ الشريحة الملغاة والمستثناة هي عماد هوية الأمة، وقيمها ومُثلها ومبادئها ووجودها.. وسجلّ ماضيها وواقع حاضرها وأمل غدها ونور وإشراق مستقبلها الصَّاعد بين الأمم.. لأننا إذا اعتقدنا وآمنا –وأرجو من الله أن يكون ظني في غير صوابه- أننا سنُعزُّ ونرتفع ونرتقي بين الأمم والشعوب وعوالم الناس بغير الإسلام وشريعته السمحاء.. فقد جهلنا للأسف الشديد جوهر الرسالة الإسلامية التحريرية والتكريمية والنهضوية الشاملة.

فضلا عن كون هذا المؤشر بات يشكل خطرا على وحدة وتماسك الأمة، الذي قضى جورا وظلما وتعدّيا بتقسيمها وتمزيقها إلى فئات قددا، إذ يتخندق المتربصون بالمشروع الإسلامي الجزائري، والطاعنون في صدقية ونجاعة ودور حملة شهادات الدكتوراه في العلوم الإسلامية.. للانقضاض على أي مشروع أو مخطط أو حتى رؤية مستقبلية تضمُّهم ولو بِنسبٍ قليلة أو ضئيلة ولا تستعبدهم من أبجدياتها التنموية والتأطيرية.. فإقصاؤهم القبْلي والمبكّر والمقصود هو انعكاسٌ لرغبة النافذين من بقايا حقبة التهميش والتفكيك والتقسيم والاستعداء الجاهلي والأرعن للإسلام وخرّيجيه الفضلاء والأطهار النزيهين، هو مكرٌ مقصود وعلني لاستبعاد هذه الفئة الوطنية المخلصة من أي مشروع للتوظيف في مناصب التكوين الجامعي العالي، بهدف الرفع من نسب التخصصات الأخرى على حساب خريجي العلوم الإسلامية..

وربما لو روعيَتْ في تلك الخطط والمشاريع نسبة مشاركة مقبولة لخرّيجي العلوم الإسلامية لبقت المسألة تراوح مكان عالم الأرقام والإحصاءات والخطط وعدد المناصب المالية المتوفرة ونحوها.. أما أنها مسحت من جدولها اسم خريجي العلوم الإسلامية من عالم التوظيف بداءة، فهذا يعني أن المسألة انطلقت برُمّتها ومن أساسها من عطاءات مرحلة الاصطفافات والفساد الفئوية وخلايا التوجّس والتجسّس الإيديولوجية المقيتة.. وباعتقادي أن المسألة إذا لم تراعِ توظيف نسبة مقبولة من حملة دكتوراه العلوم الإسلامية ستأخذ بُعدها السياسي والإيديولوجي والفئوي والحزبي ونحوه.. وهو الذي قد لا يقدِّر أولو الأمر عواقبه لو ظلوا مستسلمين لتلك القوى المعادية للإسلام ولخريجيه.

إن المتمعّن في عملية تحديد مناصب التوظيف المطلوبة في الجامعات سيكتشف أنها لم تراعِ المقاييس العلمية والإحصائية ونسبة الاحتياجات المستقبلية والحاجات الضرورية والمطلوبة للرقيّ بالقطاع، بل راعت هوى بعض رؤساء الجامعات أو من وراءهم من أصحاب القرار والنفوذ والاتجاهات الإيديولوجية المعادية للإسلام وخرّيجيه.. وإلّا فكيف نفسِّر أن تفتح إحدى جامعات الشرق التوظيف في كلية علم الاجتماع ذات الإقبال الضعيف في عدد الراغبين الدراسة فيها، فضلا عن أن جملة أساتذة تلك الكلية –حسب موقع كليتهم العلمي ومنشوراتهم في صفحتهم المكشوفة للعلن- لا تكاد تساوي إنتاج أستاذ أو على أكثر تقدير أستاذين في كلية العلوم الإسلامية.. فجلُّ أساتذة تلك الكلية -للأسف الشديد- عُطْلٌ من التأليف، وخُلُوٌّ من التصنيف، وسُلُوٌّ عن عالم الكتابة والتدوين، عدا التصنيف والترتيب واسترجاع واستنساخ وتقيؤ ما كتبت مدرسة المناهج الغربية أو العربية على علاتها ومساوئها وسطوة قيودها، التي باتوا من أسراها ومغلوليها بل ضحاياها أيضا في العطالة عن الكتابة والبطالة من التأليف.. فالمؤلف البارع منهم لا يزيد ما كتبه سوى عن كتاب واحد في المناهج المستنسَخة، وكله هرفٌ وغرْفٌ ونقلٌ من الآخر..
يحدث هذا الظلمُ والتجنِّي كله في الوقت الذي تحتاج فيه إحدى كليات تلك الجامعة إلى خمسة أساتذة على أقلِّ تقدير للتدريس في السنة الأولى الجذع المشترك.. وإلى خمسة أساتذة في السنة الثانية الجذع المشترك.. ولاسيما بعد تقليص أعداد الطلاب في الأفواج..

ولا يعني هذا البتة كله، أننا: نريد إثارة مشكلة جديدة في وجه السلطة الجديدة بتحريك وفتح هذا الملف الشائك الموروث عن مرحلة الفساد والمفسدين البوتفليقية، أو نزيد الأمور تعقيدا عن مشكلة أو أزمة ليست هي المسؤولة عنها، وهذا هو عينُ الصواب بالفعل، ولكن نريد أن ننبّه السلطة إلى عواقب تفضيل فئةٍ على أخرى، وترك غلاة التعصُّب الإيديولوجيّ من بقايا اليسار والعلمانيين والملحدين والفاسدين والمفسدين الذين يؤثّرون في مسار مؤسسات الدولة.
وما دامت الجزائر اليوم تخوض معركة التنمية والنهضة والهوية، فنحبّ أن نعلِمها أنه لا تنمية ولا نهضة ولا هوية بغير دين أو رجل متدين، وكل معالجة وحلّ للأزمة لا يراعي دور الجانب الروحي والديني محكومٌ عليه بالفشل مسبقا حسب التجارب الستينية الأليمة الماضية، فقد راهن الرؤساء السابقون عبر مخططات ومشاريع مستورَدة وفشلوا لاستبعادهم الدين والرجل والمواطن المتديِّن.. ونخبركم سلفا بحكم تجربتنا وقراءاتنا بأنكم ستفشلون أيضا اليوم باستبعاد خرّيجي العلوم الإسلامية في معركة التنمية والنهضة والهوية أيضا.. وحلها في استحداث مادة (الثقافة والحضارة الإسلامية) وجعلها مادة تدريسية في كافة التخصصات الأخرى، وهكذا نكسب الكثير من الأوراق الرابحة، فنوظف خريجي العلوم الإسلامية، ونعلّم ونكوّن طلبة الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا والطب والهندسة والبيولوجية والرياضة والفلسفة وعلم النفس والاجتماع والإعلام.. في الدين، ونحصِّنهم روحيا، وتدفع السلطة عن نفسها تهمة تمزيق أو تشتيت أو تحييد فئات من الجزائريين، وتضع حدا لفساد ومكر تلك الخلايا الإيديولوجية التغريبية.

وفي السياق الإشكالي نفسه أتساءل في خاتمة هذا المقال الحزين بكل ألم وحسرة واستبراء.. بل أتعجب كل العجب عن أموال الأمة التي تُصرف على معاهد ومراكز بحثية لا علاقة لها بالأمة الجزائرية البتة، بل هي حسب معرفتي العلمية والفكرية والفلسفية والمنهجية أنها: مجرد أذرع وخلايا خفيّة أو مراكز بحثية متقدمة للقوى الاستعمارية التقليدية، بل حتى للقوى التدميرية الناعمة الجديدة كمعهد (الدراسات الانثربولوجية- الكراسك)، الذي اطّلعت على كل منتوجه العلمي والمنهجي، وأضعت أثمن أوقاتي العلمية والدعوية الصافية لأقف على حقيقته البحثية.. فلم أجد لمنتوجه العلمي رائحة للجزائر، ولا لتاريخها الجهادي العريق، ولا لماضيها الغابر التليد، ولا لحاضرها الكئيب الأليم، وتبيَّنتُ من خلال اطلاعي على منتوجه العلماني.. أن مثل هذا المعهد لا يمكنه البتة أن يبني للجزائر إلاّ مستقبلا مكفهرًّا، فضلا عن أن يبني لها مستقبلا سعيدا وزاهرا.. فمنطلقاتُه وأدواته وتصوراته وأفكاره وقيمه ومرجعياته ومناهجه وباحثوه علمانيون، وكل قراءاتهم وتحليلاتهم تنطلق من محضن مغاير ومخالف لمحضن وانتماء الفرد والأمة الجزائرية.. وبالتالي فتحليلاتهم وقراءاتهم ودراساتهم ونتائجهم كلها بعيدة كل البُعد عن الجزائر.. وأتساءل هنا: لماذا تصرف الدولة الجزائرية وتسهر على خدمة أهداف ومعارف وتحليلات الاستعمار.. وتدفع الأموال من أجل تطوير لغة الاستعمار، تحت ستار وشعار الدراسات الانثربولوجية الجوفاء..؟ لماذا تنفقون الأموال على هذه المراكز المتقدمة لثقافة ولغة وأهداف الغير؟ أعتقد أنكم لستم على الطريق الصحيح.. أللهم اشهد بأني بلغت.

المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى