مقالاتمقالات مختارة

إفلاس “المدخلية”

بقلم أبو محمد حبيب – مدونات الجزيرة (بتصرف)
في الجزائر وبعد عقدين من سطوة “الإصلاحيين” الذين غلبوا على المساجد والأندية والجامعات، وأوشكوا أخيرا أن ينالوا الوزارات والمكاتب الفخمة التي كان يتمترس خلفها خليط من المحافظين التقليديين الذين تحول أغلبهم إلى آلة بيروقراطية متعفنة، واللائكيين المتعطشين لكل ثورة تبدأ من سيقان النساء، وتنتهي إلى علمنة شاملة.. عندما أوشكت “معركة” الصناديق أن تحسم النتائج أطلت فتنة الدماء بقرنها، وحصدت جميع الحصائل، وأحالت أحلام “الحركيين” إلى سراب.
في تلك الساعة لمع فجأة صوت جديد بدأ الناس يتلمسون مفرداته، ويسمعون حسيسه، وتكشف مع الأيام أنه تيار تغذيه أقبية سرية، وتنفخ فيه أجهزة مديدة اليد، وتدر عليه النفقات آبار لا تغور، وبدأ ذلك الهمس يكبر ويعلو، وانتفش ريشه لسببين: أحدهما تلك الدماء التي سالت غزيرة، وصار قليل من الأمن هو مهوى أفئدة الجميع، والثاني كان لافتة الطاعة العمياء التي غلفت بحزمة دينية كثيفة، وربطت البيعة في عنق كل سفاح، وأفاقت النظم المهترئة التي تتوسل الشرعية على فتح لم يكن في الحسبان، وتحالفت أعتى الشموليات السياسية مع أسوأ “بدعة” دينية ظهرت بعد سقوط الخلافة الإسلامية.

كان الناس على موعد مع ما سمي بـ”الربيع العربي” وهو الحدث الذي أوشك أن يغير وجه المنطقة العربية بأسرها لولا التحالف المدنس بين المدخلية في “ثوبها الجديد” ودول ما يسمى بـ”الاعتدال” العربي

بدعة “المدخلية” التي صارت العراب الوحيد لأنظمة حكم بالية، وغارقة إلى القاع في جرائم ضد “الإنسان”، من الملكيات المحنطة ذات الصبغة “اللاهوتية” في الخليج العربي، إلى جمهوريات القمع والفساد في المشرق والمغرب، وتخففت هذه الأنظمة من وطأة التعارك مع التيارات الإصلاحية لأنها صنعت على عينها “وكيلا” دينيا مسرفا في التنكيل بالخصوم، بيده سوط رهيب قوامه التبديع والتفسيق والتكفير، والتصنيف والهجر، مستعينا بكل تراث التقاطع والتدابر والتباغض الذي كتب على هامش المعارك المذهبية والكلامية، ونسجت المدخلية شبكة غريبة تتداخل فيها العقيدة “الحدية” التي تدرس بكل مفردات الضلال والشرك والولاء والبراء في حق الخصوم الألداء من الجماعات الدينية ذات المشرب السياسي خاصة، والسمع والطاعة والتزكية والدعاء بالصلاح وتفخيم البيعة، وتحريم الانكار العلني وعده من الكبائر في حق “الولاة” والحكام وأعوانهم.

وتمددت المدخلية تحت خلطة “دينية-سياسية” عجيبة أعطبت أغلب الأفكار الثورية التي نشأت في أرحام الشعوب، وتحولت في أيدي أنظمة القمع إلى “مبيد” سحري يفتك بجميع المعارضين، فهي تخرج ورقة “التكفير” في وجه اليساريين وأشباههم، وتحد شفرة “التبديع” في وجه ما يسمى بـ”الإسلام السياسي”، وخير شاهد على ذلك حدثان كبيران، أولهما “تكفير” صدام حسين وما أتبعه من صدور فتوى جواز الاستعانة بـ”الكفار” في حرب الخليج الأولى، وتبارى يومئذ طيف المدخلية بواجهتيه “العلمية” و”الأمنية” وهو في أقوى مظاهر تماسكه وانسجامه في حشد الأدلة دعما لعاصفة الصحراء، وانتهت حرب “تحرير” الكويت باحتلال “شبه جزيرة العرب” من قبل أمريكا وعملائها، ووقفت المدخلية خانعة أمام القواعد العسكرية الأمريكية التي أحاطت بـ”مكة” و”المدينة” في مشهد لم يحدث منذ تهاوي الجاهلية الأولى.

بعد عشرين سنة كان الناس على موعد مع ما سمي بـ”الربيع العربي” وهو الحدث الثاني الذي أوشك أن يغير وجه المنطقة العربية بأسرها لولا ذلك التحالف المدنس بين المدخلية في “ثوبها الجديد” ودول ما يسمى بـ”الاعتدال” العربي وأخرجت المدخلية جميع خبثها وشررها، حتى قال أحد عوراتها وأكبر “سبَّابة” أنجبته مدرسة اللعن والفحش المدخلي: “الإخوان المسلمون أنجس خلق الله”، وفتحت الدول الغنية خزائنها وأرصدتها لمرتزقة “العسكر” ليخوضوا ثورات مضادة، وفتح حليفها “المدخلي” ألسنته وأقنيته وجميع ما بين يديه من عدة وعتاد لتشويه “الحركيين والإصلاحيين” بمختلف ألوانهم وتنظيماتهم، وبارك منتشيا مزهوا “مذبحة رابعة” التي نقلت مشاهدها في بث حي تتساقط فيه جثث الأطفال والنساء. وهو العار الذي سيبقى إلى الأبد على جبين المدخلية.

في نهاية المطاف تحول الأمر إلى خليط يجمع كل أصناف التنافر، وصار الحليف “الديني” الذي قدم خدمات كبيرة لأكثر الأنظمة شمولية وتخلفا ورجعية وقهرا يبدو بمظهر “العائق” أمام رياح “العلمنة”، ويتخذون من “السلفية” بمختلف أسمائها عدوا لدودا، وخصما لابد من الحاق الهزيمة به حتى ولو كان في صورة “الخنوع” والذلة التي آل إليها التيار المدخلي، ويستعين في ذلك ببعض الوجوه التي اتخذت الميدان الديني سوقا للبيع والشراء، فهي ألوان تالفة من بقايا الطرقية والأشعرية والحداثية يمثلها بعض طلاب الرزق قريبا من آبار النفط.

صحيح أن تيار العلمنة الجارف يستهدف ما هو أكبر من “المدخلية”، وهو “الإسلام” بشعبه وقطعياته وثوابته وأركانه، وهو شيء لا يخفى على بقية الأطياف الإسلامية

التيار المدخلي الذي بذل الفتاوى بسخاء في كسر عظام خصومه، يبدو أنه وقع بين فكي قوة أخرى لا ترحم الجميع، وكما قتل جميع الحركات بآلته الرهيبة التي تسمى “الجرح والتجريح” فهو الآن تحت آلة أشد رهبة ينتظر الناس إفلاسه وتوزيع تركته على ورثة آخرين ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى