مقالاتمقالات مختارة

إغلاق المساجد بسبب كورونا وأزمة العقل الفقهي

إغلاق المساجد بسبب كورونا وأزمة العقل الفقهي

بقلم د. خالد حنفي

مع الزيادة المخيفة لعدد الإصابات والموتى بسبب فيروس كورونا اتجهت هيئات ودور الفتوى في العالم ومعها العلماء والمفتون المستقلون بإصدار الفتاوى والاجتهادات المجيبة عن أسئلة الساعة التي أوجدها انتشار الفيروس وسهولة الإصابة به، ومن أظهر وأبرز الفتاوى التي شغلت الرأي العام المسلم حول العالم فتوى إيقاف الجمع والجماعات وإغلاق المساجد حمايةً للناس من فيروس كورونا، والتي انقسم الناس حولها انقساماً كبيراً، فارتاح لها أغلبهم وعارضها بعضهم مستأنسين ببعض الفتاوى الرافضة لإغلاق المساجد والصادرة عن مشاهير من المفتين والدعاة. وقد لجأ البعض إلى صورٍ وتطبيقاتٍ مضحكة للتحايل على قرار المنع أو نشر العدوى، كالتفريق بين الناس في صلاة الجماعة بحيث يكون بين المصلي وأخيه مسافة متر، أو تعدد الجمعة في المسجد الواحد، أو عزل من يشك في إصابته في غرفة خاصة بالمصابين بالمسجد! كل هذه الصور وغيرها تعكس عدم استيعاب حقيقة الفيروس وكيفية انتقاله، كما تعكس غياب فقه وروح ومقصود الجمعة والجماعة. والذي أودُّ الوقوف معه في هذا المقال هو أن ما حدث يعكس بوضوح أزمة العقل الفقهي المعاصر والتي تتجلى فيما يلي:

أولاً: تبعية الفقهاء لقرار السلطة السياسية

يلاحَظ أن أغلب من أفتى بإيقاف الجمع والجماعات جاء موقفه تابعاً لقرار السلطة السياسية والصحية في بلده، ولهذا كان يقيّد تعطيل الجمع والجماعات بصدور قرار من ولي الأمر في بلده بمنع التجمعات أو تعطيل الدراسة، ولم تكن الفتوى مبادِرة موجِّهة للسلطة السياسية، محافظة على النفس الإنسانية، وهذا يعني أن دور الفقهاء قاصر على تبرير قرارات السلطات وإيجاد سندٍ شرعي لها، وتابع لهذه السلطة ومتأخر عنها. ولا أدعو بهذا إلى التصادم أو التضاد بين الفقيه والسلطة بالضرورة، إنما أدعو إلى تحرير الفقيه، وإيجاد صاحب الملكة الذي يسبق بتقدير المصلحة ورعايتها، فتتبعه السلطة أو يأتي قرارها متناغما مع اجتهاده ورؤاه لا العكس. كما عكست ردود فعل الجمهور الرافض أحيانا لغلق المساجد فشل الفقهاء والدعاة في صناعة خطاب وبيئة تقبل الاجتهادات الجديدة التى تجعل حفظ النفس محوراً رئيساً تتمركز حوله وتنطلق منه، ولا تتصور أن الشرع يعرض النفس الإنسانية للخطر للحفاظ على شعائر دينية لها بدائل.

ثانياً: غيابُ فقه الاستشراف والتوَقُّع

كان الإمام الفقيه الثقة الورع سفيان الثورى رحمه الله تعالى يقول: “إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالِم” فالفقيه هو الذي يتوقع ما سيحدث ويجتهد له اجتهادا منضبطا قبل وقوعه، ولا ينتظر مثل سائر الناس وقوع المصيبة ثم يجتهد لها، وقد كان الفقهاء في نازلة كورونا مثل الناس، ما أفتوا بتعليق الجمع والجماعات إلا بعد انتشار الفيروس واقتراب دخوله من الدائرة الخطرة، فصار دور الفتوى منحصراً في دائرة أصغر وأقل تأثيراً، مما لو استشرفوا وتوقعوا في ضوء القراءات الطبية والنظر في أحوال الدول التي سبقت بانتشارر الفيروس فيها. والفقهاء متأثرون بحال أمتهم التي ضعُف وتراجع فيها علم المستقبليات فصارت تعيش في الحاضر بثقافة الماضي وقلَّ أن تستشرف المستقبل.

ثالثاً: غياب فقه الواقع المتمثل في المعرفة بالحقائق الطبية المتعلقة بالفيروس

في نقاشي مع عدد من الفقهاء والمفتين كنت أشعر أن بعضهم لا يؤمن إلا بالمحسوس يريد أن يرى الفيروس رأى العين ليصدّق به، أو أن يحصد أرواح بعض المقربين منه ليؤمَن بخطره، فهو يراه مؤامرة وخديعة علينا أن لا نصدق بها، فضلاً عن أن نمنع الشعائر لأجلها، وأولئك الذين يريدون إقامة الجمعة بعدد يسير من الناس، أو الصور التى أشرت إليها في صدر المقال لم يقفوا على الحد الأدنى من الحقائق الطبية حول الفيروس، وكيف أن خطره الأعظم في سرعة انتشاره وانتقاله، وأن المصاب به قد لا تظهر عليه أية أعراض ولا يعرف أنه مصاب به، وأن امرأة واحدة أصيبت به نشرته في كوريا بسبب حضورها للقداس في الكنيسة، فضلا عن المعرفة بطيبعة جمهور المساجد من كبار السن والمرضى الذين هم أكثر الناس تضرراً وموتاً من فيروس كورونا، ومن عادات المسلمين في المساجد تكرار المصافحة والمعانقة والسجود في موضع سجد فيه غيرهم مما يسهل نقل العدوى ونشر الفيروس.

رابعاً: الحاجة إلى تغيير منظومة الدراسات الشرعية

لهذا أرى وبإلحاح ضرورة إعادة النظر في منظومة الدراسات الشرعية، بحيث تتجزأ التخصصات ويكون عندنا مثلا الفقيه الطبي، والفقيه الاقتصادي… الخ فيدرس الفقيه الطبي الطب ويمتلك أدوات البحث فيه، ويكون قادراً على تقييم المعلومة التى يطالعها، ولا يكون أسيراً للمعلومة التى تقدم له من الطبيب حسب هواه ومزاجه العلمي وكم من إشكالات فقهية طبية واقتصادية معاصرة نشأت من التكييف الخاطيء لها ومرجعه إلى المعلومات التي قدمت للفقيه من صاحب الاختصاص في النازلة المعروضة عليه. إن عصرنا هذا قضى على الفقيه الموسوعي الذي كان يعرف في كل فن، ويُفتي في أى مسألة، لأن العالَم تعقّد وتغيّر وتشابك، ويجب أن تتغير معه منظومة التفكير الفقهي.

خامساً: وقفة مع ترتيب المقاصد

الذين عارضوا فتوى إغلاق المساجد قالوا: إن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس وهو كلية الكليات وأصل الأصول وعلى ذلك إجماع الأمة، وهنا لابد من توضيح أمور ثلاثة: الأول: ليس صحيحاً أن الأصوليين أجمعوا على تقديم حفظ الدين على النفس، بل هناك اتجاه أصولي قوي يرى تقديم حفظ النفس على الدين وممن قالوا به من مشاهير الأصوليين: الرازي، والقرافي، والبيضاوي، وابن تيمية، والإسنوى، والزركشي؛ لأن حفظ الدين لا يقوم إلا بحفظ النفس، ولأن الله أباح للمسلم النطق بكلمة الكفر حفاظا على نفسه. الثاني: على فرض صحة تقديم حفظ الدين على النفس فإن إيقاف الجمع والجماعات ليس هدماً لكلية الدين؛ فإن حفظ الدين في مبدأ الصلاة وهى قائمة في البيوت، وصلاة الظهر قامت مقام الجمعة، فإغلاق المساجد ليس هدماً لكلية حفظ الدين. الثالث: على فرض تقديم حفظ الدين على النفس فإذا تعارض ضروري حفظ النفس المتمثل في خطر الموت عند الإصابة بالفيروس، مع تحسيني أو تكميلي حفظ الدين المتمثل في صلاة الجماعة، قُدِّم ضروري حفظ النفس على تكميلي حفظ الدين باتفاق أهل العلم والعقل، وهو ما غاب عن المعارضين ولم يظهر جلياً في خطاب المؤيدين.

سادساً: غلبة العاطفة على العقل

سمة الفقه غلبة العقل وغياب العاطفة فيه، والعجيب أن نازلة إغلاق المساجد بسبب فيروس كورونا أظهرت العكس؛ فدخل ناس إلى الفقه والاجتهاد من باب العاطفة لا الاستدلال الصحيح المنضبط بضوابطه الأصولية، فرأينا من يقول: كيف تغلقون المساجد وهي موطن الشفاء والدواء، ورأينا من يحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114]، وآخر يقول: الأوبئة سببها الذنوب والمعاصي والعلاج بالصلاة في المساجد لا إغلاقها، بل ربط بعضهم بين الصلاة في المسجد مع احتمال الإصابة بالفيروس وبين الإيمان بالقضاء والقدر، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ونحن إذا جاءنا الفيروس أغلقنا المساجد وتركنا الصلاة فيها! إلى غير ذلك من الاستدلالات المغالطة والمغلوطة التى تجعل الدين بكل أسف موضوع تشكيك وإتهام وإشكال في هذا العالم المفتوح.

سابعاً: عدم قبول الاجتهاد الإبداعي والسؤال الدائم عن فعل الصحابة والسلف في الوقائع المشابهة

السؤال الذي طُرح علىَّ كثيراً من المعارضين لتعليق الجُمع والجماعات هو: ألم يقع الطاعون من قبل في عهد عمر بن الخطاب وغيره فهل ثبت أنهم أغلقوا المساجد؟ ورغم أن المساجد أغلقت والجماعات عُطلت في الطاعونين إلا أنى أرى مجرد طرح السؤال هو إشكال، فهل بالضرورة أن كل مسالة جديدة تطرح علينا اليوم ونجتهد لها أن يكون لها سبق في تاريخ الصحابة والسلف، وهل ما نمتلكه اليوم من المعلومات والمعارف الطبية مثلما كانوا يمتلكون، وهل ما تفرضه المعرفة الطبية بالفيروس اليوم مثلما فرضته المعرفة في طاعون عمواس أو غيره؟

كنت في مؤتمر مع المفكر المغربي الأستاذ المقريء أبو زيد الإدريسي فقال لي: إن المجال الزمني للرأى الفقهي يجب أن لا يتجاوز المئة عام، بعدها علينا أن نجتهد اجتهاداً جديداً. قلت له لعلك حددت المدة انطلاقا من حديث المجدّد: يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها؟ قال: نعم. قلتُ: ولكن الواقع الفقهي يقول بأقل من ذلك؛ فقد كانت المسافة الزمنية بين أبي حنيفة وتلميذيه قرابة ثلاثين أو خمسة وثلاثين سنة، ومع ذلك خالفاه في ثلاثة أرباع المذهب، والسبب هو اختلاف الزمان والمكان لا الحجة والبرهان. إن الوقائع والنوازل الجديدة التي تنزل بالفقيه تفرض عليه الاجتهاد والنظر، وتدعوه إلى إبداع فقه ينطلق من كليات الشريعة ومقاصدها، ويتصل ولا ينقطع عن تراثنا الفقهي، ويواكب العصر ومستجداته، ويعكس الروح الحقة للدين، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى