مقالاتمقالات مختارة

إعجاز القرآن البلاغي.. جوهر الإعجاز القرآني الخالد

إعجاز القرآن البلاغي.. جوهر الإعجاز القرآني الخالد

 

بقلم حازم مشاقبة

 

أخيراً أشعر بإعجاز القرآن الكريم البلاغي فتسري في جسدي نشوة وإحساس عميق يكاد يقطع النفس، أخيراً وصلت نهاية كهف سؤالي الذي أضناني وأرقني التفكير بإجابته منذ الصغر وأعيش نور إجابته الآن بل أتذوقها وأكاد أطير بها والحمد لله رب العالمين؛ فكم سألتها كيف انعقدت ألسنة العرب وانبهرت عقولهم بهذا الكلام الذي نزل فشدهت له أرواحهم وسكنت له نفوسهم ورغمت له عقولهم فأروى صحراء تعطّشهم وشغفهم بالكلمة المنظومة الكاملة فغيرتهم وبعثتهم من سباتهم الطويل. كم سألتها لماذا لا أستشعر إعجاز القرآن البلاغي ونحن عرب نتحدث ذات اللغة وذات الكلام؟

أتعرف قوة وخلود تلك الكلمات التي ترحل بك إلى ألف وأربع مئة وأربعين عاما من عالم تغير بالكامل وبلغة دخل عليها ما دخل خلال تفاعلها الطويل في هذه الفترة الشاسعة مع حضارات وثقافات ولغات مختلفة وتستشعر كإنسان ليس متخصصا باللغة العربية وعلومها بإعجاز القرآن الكريم البلاغي وتقف مذهولا أمامه.

لكن كيف تشعر بإعجازه؟ تشعر به عندما تحاول أن تكتب أو تقول شيئا مختصرا مليئا بالمعاني والمشاعر وتحتار وتضيع في مخزونك اللغوي البسيط وأنت تبحث عن كلمة يمكنك أن تحمِّلها معانيك ومشاعرك الكبيرة فتذكر القرآن الذي تم اختيار كلماته من بين اثني عشر مليون كلمة بكل إتقان. فتشعر بالضعف والنقص والعجز ويخالط قلبك حلاوةُ القرآن وتعلقك بهذا الكمال المستحيل بشريا.

تشعر به عندما تكتب أو تتحدث في موضوع وتواجه عجزك يقينا عن تغطية كل جوانبه لأنك بحاجة لأن تتشعب في كل ناحية وعلمك محدود في إطارك الشخصي ووقتك محدود في إطارك الزمني ولكنك ترى القرآن الكريم يغطي آلاف الأفكار من كل الجوانب تاريخيا وحاضرا ومستقبلا وعقليا ومنطقيا ونفسيا وعلى أعلى المستويات ومن كل الجوانب بلا إسهاب مُضيع ولا تضييق مُخل. وأبرع ما قد تقوله وقاله العرب حين نزول القرآن وإلى الآن هو وصوف لما كان في إطار شخصي ثقافي ضيق ومحدود. فسبحان الحكيم الخبير.

تشعر به عندما تحاول جاهدا أن تكتب أو تقول موضوعا متماسكا ويشتت انسياب أفكارك عارض فتتيه وتتلعثم فتعاني من ضياع الكلمات وضياع الأفكار وتشعر بالعجز عن إتمام ما أنت بصدده على الوجه الذي تصورته في البداية وتتذكر القرآن الذي تشكل متفرقا على مدار ثلاث وعشرين عاما متفاعلا مع الأحداث الآنية التي تجري في هذا الزمن الطويل فتنزل آية تكون في سورة لم تكن معلومة ثم تتنزل أخرى توضع قبلها في ذات السورة في تناسق متناهي الدقة ولا يُمكن إلا أن يكون مقصودا ابتداء في عمل بلاغي بياني يُعجز أبرع العباقرة عن تأليفه فما من أحد يمتلك ذاك التركيز ويعلم الغيب ليجعل كلماته متوافقة مع الواقع دون أي تعارض فاضح أو تكرار غير مبرر أو حشو مُشتت ودون أي تغيير جوهري.

تشعر به عندما تفكر بمستوى كلامك وكتاباتك ومحدوديتها وعجزها عن التعبير عن كل ما بداخلك، تشعر به عندما تفكر بتناول ذات الموضوع الذي تكتب أو تتحدث فيه بطريقة أخرى وترى حاجتك لتغيير كل ما جاهدت لكتابته أو قوله وتتيه في أسلوب الخطاب والتعبير الذي يمكن أن توصل به الفكرة على أكمل وجه ليفهمها أكبر عدد ممكن من المتلقين بأنواعهم المختلفة. وترى أن في القرآن لكل كلمة رسالة ولكل كلمة عمق ولكل أسلوب هدف. ولكل سياقٍ إتقانٌ محكمٌ بديع يفهمه الجميع مجردا بلا استثناء بغض النظر عن هوياتهم وحضارتهم وعلمهم.

ليس هناك من مجتمع بشري دون لغة تُمكنه من التعرف على اللغة العربية وتذوقها والتسليم بتفوقها على لغته ابتداء وتفوق القرآن الكريم على سائر الكلام انتهاء دون الحاجة لكثير من العلم والتقدم التقني وفي أبسط أشكال المجتمعات البشرية وأكثرها تواضعا لما تحمله كلمة القرآن ببلاغتها السامية من مبادئ العدالة والمساواة والقيم الرفيعة بين كل البشر ومع خالقهم سبحانه وتعالى. وهكذا ينبغي أن تكون الرسالة الخاتمة الشاملة لكافة البشر قابلة للوعي وقادرة على الوصول وإعجاز الجميع.

بينما يمثل الإعجاز العلمي بالقرآن الكريم بمحدوديته مظهرا وامتدادا لإعجاز القرآن البلاغي؛ حيث يكمن إعجازه بلاغيا في ورود المكتشفات العلمية الحديثة موصوفة في آيات محددة بدقة متناهية في وقت لم يكن بالإمكان أن تكون تلك الحقائق محسوسة بشكل من الأشكال؛ نجد الإعجاز البلاغي الذي يتمثل في كل كلمة من كلمات القرآن الكريم يؤكد على إعجازه كاملا حد التسليم بكل تلك المعارف الغيبية التي قد لا يعرفها الكثير من الناس.

إنه من الضروري جدا حصر الإعجاز العلمي بالقرآن الكريم في المكتشفات العلمية القطعية الدلالة والثبوت وربطها بالآيات التي أشارت لها مباشرة دون حاجة لتأويل مُتكلّف. حتى لا تتحول تلك التأويلات إلى مداخل للتشكيك بهذا الدين حال تفنيدها أو اكتشاف ما هو مؤكد منها، ومع أن الآيات العلمية تُظهر علم المُتكلم جل وعلا وإحاطته بكل شيء لكنها لا تعني إعجاز القرآن كاملا. فما الإعجاز العلمي الذي يحاولون فيه إثبات إعجاز القرآن الكريم إلا منظومة منطقيه أسس لها القرآن للتدليل على وحدانية الله ووجوده.

قد يُعذر أعاجم المسلمين عن التوجه للإعجاز العلمي وربطه مباشرة بالقرآن الكريم لبعدهم عن اللغة العربية والنظر إليها كلغة ثقافة وحضارة مختلفة وليس لغة دين وإعجاز بحد ذاتها رغم التأكيد على استخدامها في نطق الشهادة والتعبد والصلاة لتحميلها معجزة النبي الخالدة. ويُعاب على المسلمين الذين توجهوا ذات التوجه للتماهي مع حضارة العلم كما يدعون غافلين عن اللغة العربية وقدرتها على حمل الإعجاز القرآني، كما يُلام المسلمون العرب على التقصير في توصيل اللغة العربية لغة الدين لكافة البشر والمسلمين منهم خاصة.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى