بقلم نور الدين درواش (عفا الله عنه بمنه وكرمه)
من الأمور التي قد تغيب عن كثير من المُنكرين على أهل العلم (سكوتَهُم)؛ أن العلماء الصادقين الحريصين على صلاح المجتمع واستقامة حُكَّامِه ومَحْكُوميه، حين يتكلمون؛ لا يكون قصدهم استجلاب عواطف الناس ولا الظهور بمظهر البطولي، والصادع بالحق الذي (لا يخاف في الله لومة لائم) وإنما يكون هدفهم الإسهام الحقيقي والفعلي في الإصلاح بأكبر قدر ممكن.
ولمَّا كان من دواعي قبولِ النصيحةِ من قبل المنصوحين عامة، والحكام على وجه الخصوص الإسرار بها، فإن الأصل أن العلماء يُسِرُّون بالنصيحة ولا يجاهرون بها.
“ومن المعلوم أنَّ أيَّ إنسانٍ إذا كان عنده نقصٌ؛ يُحِب أن يُنصحَ برِفقٍ ولينٍ، وأن يكون ذلك سرًّا، فعليه أن يُعامِلَ الناسَ بِمثلِ ما يُحبُّ أن يُعاملوه به.”
وهذا كما نتمناه في تعامل غيرنا معنا فعلينا أن نسلكه في تعاملنا مع الغير، عملا بحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ” [رواه مسلم:1844].
ولقد صحح كثير من العلماء منهم المحدث الألباني رحمه الله في ظلال الجنة (507) حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ، فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ، فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ” [رواه أحمد15333].
قال العلامة السِّندي: قوله: (من أراد أن ينصح لسلطان): “أي: نصيحة السلطان ينبغي أن تكونَ في السِّرِّ لا بين الخلق” [حاشيته مع المسند:24/50].
وقال الشوكاني:” ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يُناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد، بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة” [السيل الجرار: (3/758)].
وقد كان هذا من هدي السلف في نصحهم للسلاطين؛ عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: “أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ؟ وَاللهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ” [رواه البخاري:3267، ومسم:2989].
قال الحافظ: “قَوْلُهُ: (قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا)، أَيْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْمَصْلَحَةِ وَالْأَدَبِ فِي السِّرِّ بِغَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِي مَا يُثِيرُ فِتْنَةً أَوْ نَحْوَهَا” [الفتح، شرح الحديث:7098].ّ
وعن سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ مَحْجُوبُ الْبَصَرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ وَالِدُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَتَلَتْهُ الْأَزَارِقَةُ، قَالَ: لَعَنَ اللهُ الْأَزَارِقَةَ، لَعَنَ اللهُ الْأَزَارِقَةَ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” أَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ”، قَالَ: قُلْتُ: الْأَزَارِقَةُ وَحْدَهُمْ أَمِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا؟ قَالَ: ” بَلِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا “. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ، وَيَفْعَلُ بِهِمْ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً ، ثُمَّ قَالَ: “وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ، فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ، وَإِلَّا فَدَعْهُ، فَإِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْلَمَ مِنْهُ” [رواه أحمد: 19415، وصححه الألباني في ظلال الجنة:424].
قال ابن الجوزي: “من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء” [الآداب الشرعية:1/176].
وقال ابن القيم: “فمخاطبة الرؤساء بالقول اللَّين أمرٌ مطلوب شرعا وعقلا وعرفا، ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه” [بدائع الفوائد:3/133].
نعم؛ لقد ثبت الجهر بالنصح عن كثير من السلف بين يدي الأمير وبحضرته، والأمر في ذلك واسع بالقيد السابق مع عدم التشنيع وإثارة الفتنة، وبخاصة عند من لا يرى ثبوت الحديث.
فلا يُشَوِّشُ عليك “ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم فإنهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب…” [الآداب الشرعية:1/176].
وليس المقصود المنع المطلق من الجهر بالنصح، وإنما القصد أن لا يُعاب على من أسر بالنصيحة إسرارُه، ويُتَجَنَّى عليه فيُعَدَّ من الساكتين عن الحق لمجرد أن العائب لم يَطًّلع على صنيعه، فهذا لعمرو الله جناية كبيرة على العلم وأهله.
وحتى لا يكون كلامي نظريا بحتا أمثل بشيخين فاضلين صَرَّح كل منهما ببذل النُّصح للحكام في السِّر، أحدهما قد قضى نحبه، والباقي من البقية الصالحة أسأل الله أن يختم لنا وله بخير.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في سياق جواب بعض المشنعين على العلماء سكوتهم: “…ولكن النُّصحَ مبذولٌ، وليس من شرط النُّصحِ أن كل إنسان يتكلم مع أحد من الولاة، يقول للناس: تكلمتُ.
لو جاء يقول للناس تكلمتُ؛ لزم من هذا أمران عظيمان:
الأمر الأول: أنه يرائي.
والأمر الثاني: أن الولاة لو لم يطيعوه، صار حجة على الولاة عند العامة فثاروا، فحصل مفسدةٌ أكثر…” [من شريط:الرد على لجنة الحقوق الشرعية].
وهذا الشيخ الدكتور عبد الكريم الخضير حفظه الله يرد على سؤال عن سكوت العلماء فيقول:” ما سكتوا، والله ما سكتوا ومن سنين وهم يدافعون لكن الله غالب على أمره …يا إخوان المدافعة في كل ما يخطر على بالكم موجودة … فالنفي أو الجزم بالسكوت في مثل هذا الكلام، هم لا يظهرون ذلك، حتى بعض أهل العلم يخفى عليهم مثل هذه المدافعة ويلوم المشايخ حتى من ينتسب إلى العلم، لكن مع ذلك العلماء كلهم درجوا من عقود على مناصحة ولي الأمر سر[اً] ولا يخبرون أحد][اً] من باب أنه أَدْعَى إلى الإخلاص وأبعدُ عن الإثارة” [باختصار من فتوى صوتية للشيخ على النت].
فالعالم الراسخ الصادق الناصح وتبعا له طالب العالم المُتَبَصِّر والمُتَّزِن؛ يهمهما إصلاح الوضع وإزالة الشر والمنكر أو تخفيفه، دون إثارة زوابع أو تحريك عواطف، أو لفت انتباه العامة الذين لا يميزون بين المصلحة والمفسدة فضلا عن أن يرجحوا عند تزاحم مصلحتين أو مفسدتين.
ولهذا وجب علينا أن نتريث قبل أن نُصدر الأحكام الجائرة على العلماء متهمينهم بالباطل، جانين على أنفسنا وعليهم وعلى الدعوة. ولنعلم أن الحماسة لا تشفع لنا لرمي الأبرياء وتخوين الصلحاء وإساءة الظن بمن قضوا أضعاف أعمارنا معلمين للأمة دينها على منهج نبيها صلى الله عليه وسلم.
على أن كثيرا من العلماء قد تكلموا وصدعوا بالحق، وجاهروا به من أعلى المنابر الإعلامية، وأخص بالذكر منهم:
* الشيخ عبد المحسن العباد في أكثر من مناسبة ردا على أعلى الشخصيات في الدولة… ومقالاته مبثوثة في موقعه وفي غيره.
* الشيح صالح الحيدان عندما نسب ولي الأمر للعلماء في الهيئة المصادقة على إدخال المرأة لمجلس الشورى أنكر وبين ونصح كما في حلقة من الجواب الكافي على قناة المجد.
* الشيخ سعد الشتري عند تأسيس أول جامعة مختلطة بالرياض في البرنامج نفسه.
* الشيخ صالح الفوزان فيما يتعلق بالعيد الوطني لدرجة اضطر معها القائمون على القناة الأولى الرسمية لقطع البث.
* الشيخ عبد العزيز آل الشيخ وغيره في موضوع السماح فافتتاح دور السينما في بلاد الحرمين…
وغير هذه المواقف كثيرة جدا… بحيث لو تَتَبَّعها المنصف لما استطاع أن يطعن في حملة إرث النبوة لفرط اندفاع، أو سَكْرة حماسة، أو عاطفة غير منضبطة…
وقد اقتصرت في التمثيل على بلد واحد، لاشتداد الهجمة على علمائه لا لخصيصة أو ميزة أخرى.
على أنني في سلسلتي هذه لا أقصد بالدفاع والعذر بعض المحسوبين على العلم من غلاة التجريح أو علماء السوء في كل بلد الذين صار من منهجهم تسويغ كل باطل يصدر عن الحاكم وإضفاء الشرعية على كل منكر يرتكبه ، والدفاع عن اختياراته بالباطل والزور، فهؤلاء لا يستحقون منا إجلالا ولا احتراما ولا تقديرا ولا اعتذارا ولا كرامة..
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
(المصدر: هوية بريس)