مقالاتمقالات مختارة

إضاءات في منهج التعامل مع الإساءة للمقدسات

إضاءات في منهج التعامل مع الإساءة للمقدسات

بقلم د. ادريس أوهنا

واقعة قتل التلميذ الشيشاني المسلم للمعلم الفرنسي، وقبلها واقعة شارلي إيبدو، وما شابه، تجعلنا نتساءل عن الكيفية المشروعة في التعامل مع من أساء لمقدساتنا. هل هي العنف والقتل؟ أم غير ذلك من الطرق التي لا تخرج عن إطار السلمية مهما بلغت درجة الاستفزاز لمشاعرنا بصفتنا مسلمين غيورين على ديننا ومقدساتنا طبعا؟

والتأصيل للمنهج الشرعي السليم في التعامل مع تلك الحالات، ينبغي أن ينطلق أولا وقبل كل شيء من نصوص القرآن والسنة ووقائع السيرة النبوية، ثم النظر بعد ذلك فيما ورد في تراثنا الفقهي في ضوء ذلك، مع استحضار المقاصد وفقه واقعنا الحالي، وهو ما سأعمل على مراعاته والتقيد به، بعيدا عن لغة الصحافة ومهاترات وسائط التواصل الاجتماعي، وبالاختصار غير المخل، في البيان العلمي الآتي:

أولا: نصوص من القرآن الكريم

قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَسَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10]، وقالتعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} [الحجر 95]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 52 ـ 55] ، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97 ـ 99] …

لا نجد في هذه الآيات المحكمات وغيرها ما يدعو إلى قتل من أساء إلى المقدس، مستهزئا ومستقبحا، بقدر ما نجد فيها دعوة صريحة لتحمل الإساءة والصبر عليها وتجاهلها، والاستمرار في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، مع الإعراض عن الجاهلين، وأن الله تعالى سيتولى عقاب المستهزئين.

ثانيا: من السنة النبوية

من ذلك حديث سلمة بن الأكوع الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه قال رضي الله عنه “فلما اصطلَحْنا نحنُ وأهلُ مكةَ، واختلط بعضُنا ببعضٍ، أتيتُ شجرةً فكسحتُ شوكَها فاضطجعتُ في أصلِها، قال: فأتاني أربعةُ من المشركين من أهلِ مكةَ فجعلوا يقعون في رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأبغضتُهم، فتحوَّلتُ إلى شجرةٍ أُخرى، وعلَّقوا سلاحَهم، واضطجَعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مُنادي من أسفلِ الوادي: يا لَلمهاجرين! قُتِلَ ابنُ زُنَيمٍ، قال: فاخترطتُ سَيفي ثم شددتُ على أولئِك الأربعةِ وهم رقودٌ، فأخذتُ سلاحَهم فجعلتُه ضِغثًا في يدي. قال: ثم قلتُ: والذي كرَّم وجهَ محمدٍ! لا يرفعُ أحدٌ منكم رأسَه إلا ضربتُ الذي فيه عيناه. قال: ثم جئتُ بهم أسوقُهم إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. قال: وجاء عمي عامرٌ برجلٌ من العبلاتِ يقالُ له مكرزٍ يقودُه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على فرسٍ مُجفَّفٍ في سبعينِ من المشركين، فنظر إليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: (دَعوهم يكن لهم بدءُ الفجورِ وثناه) فعفا عنهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم.

لو كان قتل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، لمجرد السب، هو المطلوب شرعا ما تردد سلمة بن الأكوع في امتثال الواجب الشرعي، والحال أنه لم يفعل كما هو مقرر في الحديث. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما تمكن منهم عفا عنهم ولم يقتلهم.

فما قصة المرويات التي يفهم منها شرعية قتل من تجرأ على سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وما في حكمه من الإساءة للمقدسات والسخرية منها؟

إن من حقق النظر في المرويات التي ورد فيها قتل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم سيجدها على ضربين:

الأول: روايات موضوعة أو ضعيفة تتعارض مع ما صريح القرآن، وما صح من سنة المصطفى العدنان، ومنها حديث عصماء بنت مروان التي روي أنها هجت الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر بقتلها، والخبر موضوع؛ راويه محمد بن الحجاج، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: كذاب خبيث، وقال الدارقطني: كذاب، وقال – مرة: ليس بثقة. (ميزان الاعتدال، الجزء 3، ص 509). ومنها قصة الأعمى الذي قتل جاريته أم ولده لأنها كانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضعفه بعض العلماء بالانقطاع، وعلى فرض صحته فهو معارض بأدلة أقوى.

الثاني: كون علة القتل في المرويات الأخرى ليست السب مجردا بل الخيانة والمحاربة والقتل العدوان، قال الإمام بدر الدين العيني في “عمدة القاري”:

فإن قلتقتل النبي كعب بن الأشرف فإنه قال: من لكعب بن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله؟ ووجه إليه من قتله غيلة، وقتل أبا رافع قال البزاركان يؤذي رسول الله ويعين عليهوفي حديث آخرأن رجلا كان يسبه فقال: من يكفيني عدوي؟ فقال خالدأنا فبعثه إليه فقتلهقال ابن حزموهو حديث صحيح مسند رواه عن النبي رجل من بلقين وقال ابن المديني وهو اسمه وبه يعرف: وذكر عبد الرزاق أنه سبه رجل فقال: من يكفيني عدوي؟ فقال الزبيرأنا، فقتلهقلتالجواب في هذا كله أنه لم يقتلهم بمجرد سبهم وإنما كانوا عونا عليه ويجمعون من يحاربونه.” (عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني، الجزء 24، ص 82).
فعلة القتل إذن ليست السب مجردا وإنما الخيانة والمحاربة المشفوعة بالسب، كما في قصة عبد الله بن خَطَل الذي كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “اقتلوه ولو تعلق بأستار الكعبة” وقد علل الفقهاءقتله بالمحاربة والخيانة وإقدامه على قتل مسلم عمدا عدوانا، وفي ذلك يقول ابن عبد البر: “وزعم أصحابنا أن هذا أصل في قتل الذمي إذا سب النبي عليه السلام وهذا غلط؛ لأن بن خطل كان حربيا في دار الحرب لم يدخله رسول الله في أمان أهل مكة بل استثناه من ذلك الأمان” (الاستذكار ج:4 ص:403 وقال القاضي أبو بكر بن العربي المعافري: “وإنما أمر رسول الله – صلىالله عليه وسلم – بقتله؛ لأنه بعثه مصدقا وكان مسلما،وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه وكانمسلما، فنزل ابن خطل منزلا، وأمر المولى أن يذبح له شاةويصنع له طعاما، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعداعليه فقتله، ثم ارتد مشركا، فهذا قوَدٌ من مسلم.” (المسالكفي شرح موطأ مالك، الجزء 4، ص 473)  والقَوَدُ هو القصاص-

ثالثا: من جهة المقاصد

لا بد قبل تبني أي فهم، أو إصدار أي حكم في أمر ما، من النظر في مآلات ذلك الأمر، وتقدير عواقبه وتداعياته وانعكاساته، ولا يخفى على عاقل أن الإقدام على قتل من أساء إلى المقدس، فضلا عن تهافته وضعفه، فلن يؤدي إلا إلى مفاسد كبيرة، وعواقب وخيمة، منها تمثيلا لا حصرا:

– الاعتداء على المسلمين في البلاد الأجنبية.
– تشويه صورة الإسلام والمسلمين.
– إغراء أعداء الإسلام بالمزيد من الإساءة لمقدساتنا لاستفزاز المسلمين ودفعهم للقيام بردود فعل عنيفة ومنفرة من دعوة الإسلام.
– صرف المسلمين عن تركيز جهودهم في الدعوة السلمية التي تفتح القلوب وترشد العقول لتوحيد بارئها واتباع خاتمة رسالاته.
– الاشتغال بغير المقصود، والإعراض عن المقصود متمثلا في اتباع شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتمثل الإسلام ذلك التمثل الصادق الذي يغري الخارجين عنه باعتناقه واتباعه.
– قطع طريق التوبة عن الساب، الذي لو ترك ودعي إلى الحق، لربما تاب وأناب، وقد حصل ذلك فعلا لا ادعاء…

إذا كان الأمر كذلك، قرآنا وسنة ومقاصد، فمن أين أتى ذلك الفهم المتبني لخيار العنف والقتل؟

بلا شك أتى من جهة أن بعض المتحمسين العاطفيين من بني جلدتنا ممن لا قدرة لهم على تقليب النظر في الآراء المختلفة، أخذوا بعض ما جاء في تراثنا الفقهي، أو بعض ما يسمعونه في القنوات الفضائية مسلما، وقد لا يكونمسلما ولا سليما، ومن ذلك وأشهره ما ورد في كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول للعلامة ابن تيمية رحمه الله، حيث حكى الإجماع على قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان كافرا، ثم عاد ونقض هذا الإجماع بحكاية الخلاف قائلا: “وحكي عن النعمان يعنى أبي حنيفة: لا يقتل يعني الذمي. ما هم عليه من الشرك أعظم.” (الصارم المسلول ص 13 فتأكد أن الإجماعباعتراف ابن تيمية نفسه لا يصح في المسألة، كما لم يصح نقل الإجماع في غيرها من المسائل التي ادعي فيها الإجماع ولا إجماع.

وحتى لو قال بقتل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أساء إلى المقدس عموما من قال به، فإن العبرة بصحة القول وقوة الدليل لا بالقائل ولا بعدد القائلين، وحتى لو سلمنا بذلك القول جدلا، وإلا فهو غير مسلمولا سليم كما قلنا، لما حق لكل فرد أو لمجموعة من الأفراد أن ينفذوه بما شاؤوا وكيف شاؤوا، بعيدا عن المؤسسات والسلطات المسؤولة، في ظل واقع الدولة القطرية حاليا،وإلا عمت الفوضى وكثر الهرج بلا ضابط ولا كابح

ختاما أقول إن أزمتنا أزمة علم وفهم، ولا سبيل لإصلاح التصرفات إلا بإصلاح التصورات، ولا أمل في تحقق ذلك بالشكل المطلوب إلا بتوجه إرادة هذه الأمة الصادقة لإصلاح التعليم وإصلاح الإعلام، ومحاربة الفساد والإفساد، وتحقيق نهضة شاملة في إطار رؤية حضارية واضحة المعالم، نعرف فيها: من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف؟

(المصدر: هوية بريس)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى