مقالاتمقالات مختارة

إسرائيل.. من العلوِّ الكبير إلى السقوط المدوي

إسرائيل.. من العلوِّ الكبير إلى السقوط المدوي

بقلم محمد بوالروايح

إن التطبيع مع “إسرائيل” مهما اتسع نطاقه وكثر زبائنُه لن يجعل من إسرائيل كيانا طبيعيا ولن يقلل من شأن النبوءات الدينية والسياسية التي تتحدث عن زوالها، لكن هذا الزوال لن يحدث–كما قال شيخي محمد الغزالي رحمه الله- إلا بعد زوال أنظمة عربية كثيرة، أيقنت بعد أمة أنها لا تملك من الخيارات إلا خيارين اثنين لا ثالث لهما، إما أن تنضم إلى التحالف الصهيوأمريكي لضمان بقائها أو أن تواجه قدرها المتمثل في الشعوب العربية الرافضة للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

إن التطبيع هو بداية نهاية إسرائيل، ولكن قبل حدوث هذه النهاية، ستحقق “إسرائيل” ما لم تحققه في السنوات الخالية وستتحول إلى أمر واقع في الذهنية العربية المهزومة. إن الزمن الآتي سيشهد علوا كبيرا لبني إسرائيل، يعقبه سقوطٌ مجلجل ومزلزل لا تقوم لهم بعده قائمة، يقول الله سبحانه وتعالى: “وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأمر مرتين ولتعلون علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا”.

يتهمنا خصومنا بالهروع إلى القرآن الكريم لتغطية العجز ومظاهر الخضوع الكامنة في نفوسنا في صراعنا مع إسرائيل، وهو اتهامٌ فارغ لا ينطلي علينا لأنَّ القرآن الكريم الذي نهرع إليه ليس كلام منجم يهرف بما لا يعرف، إنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالحقائق التي ذكرها القرآنُ الكريم بشأن بني إسرائيل تؤيدها الوقائع التاريخية، فقد بعث الله على بني إسرائيل ملك النبط الذي كان أساورته من أهل فارس وهم أولوا بأس شديد فجاسوا خلال الديار، ثم جعل الله لبني إسرائيل الكرة عليهم فتجهزوا وغزوا النبط فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم، وقد ازداد بنو إسرائيل بهذا النصر عنادا واستكبارا فتوعدهم الله سبحانه وتعالى بتتبير لا يُبقي لهم أثرا، وهذا ما شهد به المؤرخ الإسرائيلي “بيني موريس” في حوار أجرته معه صحيفة “هآرتس”، وموريس-بحسب ما كتبه عبد المنعم هيكل في موقع شبكة الجزيرة- هو أحد أشهر وجوه حركة “المؤرخين الجدد” الذين يناقضون الرواية الإسرائيلية بشأن الصراع العربي الإسرائيلي، ويرون أن نهاية إسرائيل محتومة وأن بقاءها كدولة يهودية هو ضرب من الخيال.

يرى بيني موريس بأن المنطقة التي يراهن عليها العسكريون والسياسيون الإسرائيليون لاحتوائها وضمها، وهي المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط والأردن، لن تكون بيقين منطقة يهودية لأن الوجود العربي فيها أكبر بكثير من الوجود الإسرائيلي، ستنشأ في هذه المنطقة دولة ذات أغلبية عربية، وهذا يعني في التحليل الجيوسياسي أن “إسرائيل” ستتحوَّل إلى جزء صغير داخل كيان عربي كبير، ولهذا التفوُّق العددي –حسب موريس- أثرٌ في تبخر حلم الدولة اليهودية، يقول في هذا الصدد: “اليوم يوجد من العرب أكثر من اليهود بين البحر المتوسط والأردن. هذه الأرض بأكملها ستصير حتما دولة واحدة ذات أغلبية عربية.. إن إسرائيل لا تزال تدعو نفسها دولة يهودية لكن حكمنا لشعب محتل بلا حقوق ليس وضعا يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين في العالم الحديث، وما إن تصبح لهم حقوقٌ لن تبقى الدولة يهودية”.

إن الغاية من التطبيع في المنظور الأمريكوإسرائيلي ضمن نظرية الشرق الأوسط الجديد هي إقامة دولة شرق أوسطية، ولكن بيني موريس يتنبأ بفشلها بسبب الصراع المنتظر بين المكونات المختلفة داخل هذه الدولة، وهو صراع –في نظري- لا يخدم إسرائيل ولا يحقق أحلامها وأهدافها التي تسعى لتحقيقها من خلال مخطط التطبيع مع الدول العربية. يقول موريس: “هذا المكان سيتردى كدولةٍ شرق أوسطية ذات أغلبية عربية. العنف بين المكونات المختلفة داخل الدولة سيزيد. العرب سيطالبون بعودة اللاجئين واليهود سيظلون أقلية صغيرة في خضم بحر عربي كبير من الفلسطينيين.. أقلية مضطَهدة أو مذبوحة، كما كان حالهم حين كانوا يعيشون في البلدان العربية، وكل من يستطيع من اليهود سيهرب إلى أمريكا والغرب”.

يعزو بيني موريس فشل نظام الدولة الشرق الأوسطية –كما سماها- إلى ما أسماه “العنف” الفلسطيني المنتظر ضد الأقلية اليهودية مما يضطر اليهود إلى الهجرة كما فعل أسلافُهم، وهذا الكلام مؤسَّس على فرضية خاطئة وهي إمكانية التعايش الإسرائيلي الفلسطيني، فالفلسطينيون متمسِّكون بدولتهم الفلسطينية المستقلة ورافضون لفكرة الاندماج في دولة شرق أوسطية، فكيف يرضون أن يكونوا جزءا منها؟.

ستشهد المنطقة العربية هرولة محمومة نحو التطبيع، ولكن هذا التطبيع لن يغير من واقع الصراع العربي الإسرائيلي شيئا، بل على العكس سيزيد من إصرار الفلسطينيين على إنهاء الاحتلال، وعندها ستجد إسرائيل نفسها أمام غضب فلسطيني وعربي وإسلامي عارم، يقضُّ مضجعها ويُفسد عليها مخططها ويقذف في الوقت المعلوم بأحلامها في البحر.

وقع بعض الحكام العرب في فخ التطبيع على موعدة وعدها إياهم دونالد ترامب، فطبَّع بعضُهم على موعدة ترامبية بحذف اسم دولته من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وطبَّع آخرون على موعدة ترامبية بضم أرض تقرُّ قوانين الأمم المتحدة بحق شعبها في التحرر من الاحتلال وبناء دولته المستقلة. إن المد التطبيعي سيبلغ مداه قبل انقضاء الأربعين يوما المتبقية من ولاية ترامب التي ستحمل أخبارا غير سارة ومفاجآت غير منتظرة ستصب كلها في صالح “إسرائيل”. ولكن هذا لا يمنعنا من القول إن ورقة التطبيع هي شكلٌ من أشكال الترقيع لكيان إسرائيلي مصطَنع ومتهالك لن يعمر حسب بيني موريس أكثر من خمسين سنة، إذ يقول: “إن الفلسطينيين ينظرون إلى كل شيء من زاوية واسعة وطويلة الأمد، ويرون أن هناك خمسة أو ستة أو سبعة ملايين يهودي هذا في هذه اللحظة، يحيط بهم مئات الملايين من العرب، ليس ثمة ما يدعوهم للاستسلام لأن الدولة اليهودية لا يمكن أن تدوم .الانتصار سيكون حليفهم حتما، في غضون ثلاثين إلى خمسين سنة سينتصرون علينا”.

في كتاب “سقوط إسرائيل The Fall of Israël” لباري شميش ما يؤكد أن التطبيع ليس إلا شكلا من أشكال الترقيع لكيان إسرائيلي متهالك، في هذا السياق، كتبت صحيفة “The Jewish Chronicle” تعليقا على ما جاء في الكتاب: “يعيش معظم الإسرائيليين حياتهم البائسة وهو يشعرون بالامتنان للسياسيين الذين يحكمونهم. إن حكاية كون إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، مهزلة، ولأول مرة يظهر كتابٌ يخاطب غير المتحدثين بالعبرية ليفضح الفساد المالي والسياسي الذي تحياه الدولة اليهودية.. ومع اختلافنا مع دوافع المؤلف فإننا نتفق معه في أن إسرائيل، الدولة اليهودية آيلة للسقوط ولكن إرهاصات سقوطها شيء آخر غير ما يعرضه المؤلف”.

بقول باري شميش إن إسرائيل كانت معرَّضة لاحتمال الفناء التام في الأيام الأولى لحرب أكتوبر 1973 بسبب تغطرس حكومة غولدا مائير وليس غبائها، لأنها لم تحسن قراءة وتحليل التقارير الاستخباراتية بصورة صحيحة، وكانت مستعدة في أيِّ لحظة لإعلان الاستسلام أمام القوات السورية والمصرية، ولكنها استعادت زمام المبادرة وحققت نصرا لافتا للنظر على التحالف العربي. ولا يستبعد شميش تعرض إسرائيل مرة أخرى لاحتمال السقوط، ليس بسبب الفشل الاستخباراتي ولكن بسبب الفساد الكبير الذي استشرى داخل منظومة الحكم ومنظومة الأحزاب السياسية والدينية، وهو ما يجعل سقوط إسرائيل هذه المرة سقوطا مدويا لن تقوم لها بعده قائمة.

وينفي عبد الوهاب المسيري رحمه الله فرضية الانهيار الداخلي لإسرائيل في كتابه: “انهيار إسرائيل من الداخل” وذلك رغم تسليمه بحجم الفساد المالي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي في إسرائيل، ويؤسس عبد الوهاب المسيري بطلان فرضية انهيار إسرائيل من الداخل على مجموعة من المعطيات منها، الشفافية التي يتسم بها المجتمع الإسرائيلي الكفيلة بدراسة كل الظواهر السلبية والتصدي لها والتكيف معها، ومنها وجود مؤسسات ديمقراطية وعلمية في إسرائيل بإمكانها إيجاد الحلول لكل الأزمات المستعصية، ويدعو المسيري العرب والفلسطينيين إلى توظيف ظاهرة تآكل المجتمع الإسرائيلي والتجمع الصهيوني لصالحهم لأنها كما أضاف “تبين لنا حدود عدونا وأنه ليس قوة ضخمة لا تُقهر، لكنها في حدِّ ذاتها لا يمكنها أن تودي به أو تؤدي إلى انهياره”.

(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى