مقالاتمقالات مختارة

إدلب.. الموجة المرتدة

بقلم عبد الغني مزوز

تزامن وصول آخر حافلة تَقِلُّ مهجَّرين من ريف حِمْص إلى الشمال السوري المحرر مع وضع آخر نقطة مراقبة للجيش التركي، فبدأت بذلك مرحلة جديدة قد تكون أخطر مراحل الثورة السوريّة على الإطلاق. من المهم في البداية أن نؤكد أن صراع الشعب السوري منذ بداية ثورته في 2011 لم يكن ضد نظام بشار الأسد بل مع النظام الدولي بكل قواه ومؤسساته، والذي يحاول إبقاء الصراع بما يحفظ مصالحه ويضمن استقرار واستمرار تفاهمات ومكاسب ما بعد الحرب الباردة. وعندما نعاين حصيلة المنجز الثوري في سوريَة فعلينا أن نفعل ذلك وفي بالنا حجم التحدي المرفوع في وجه الشعب السوري وقد قُدِّر له أن يُنازل منظومة دولية ذكية وغاشمة.

خطة تهجير أهالي المدن الثائرة من مختلف المناطق السوريَّة إلى الشمال السوري المحرر ليست من أفكار النظام السوري قطعا، وإنما هي من توجِيهات النظام الدولي، وقد اعترف “رياض نعسان آغا” أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “جون كيري” قال له جوابا عن سؤال حول مصير إدلب طرحه عليه: “إدلب تنتظر الإبادة وهناك اتفاق دولي على تجميع الثوار في المدينة” . والمسألة لا تحتاج إلى تسريبات أو اعترافات ما دامت الشواهد قائمة لا تقبل الشك أو الجدل، فكل عمليات التهجير تمت تحت رعاية الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية النافدة وتحت إشراف مبعوثِيها ومراقبِيها. ولأن معركة الأمة مع النظام الدولي ومؤسساته معركة متشعبة وممتدة بحيث تشمل فضاء الاستعارات والتراكيب اللغوية (وقد نتطرق يوما إلى الحديث عن الاستعارات التي يقتلوننا بها)، ولأن المعركة بهذا التشعب والتركيب فإن الأمم المتحدة لا تُسمي ما تُشرف على إنجازه من تهجير قسري نَصَّ نظامُ روما الأساسي على اعتداده جريمةً ضد الإنسانية، لا تسمي ذلك تهجيرا قسريا وإنما تسميه “تأمين ممرات آمنة للمدنيين” و”ضمان سلامة المدنيين العالقين في ساحة الحرب” و”ضرورة الحفاظ على أرواح المدنيين بنقلهم إلى مناطق أكثر أمنا”.. هذه الصيغ اللغوية الخادعة تعني في جوهرها المشاركة والإشراف المباشر على إنفاذ أقذر عمليات التطهير العرقي في التاريخ المعاصر، والمساهمة الفعالة في القضاء على الوجود السني في الشام.

نقطة أخرى ينبغي التنويه إليها وهي أن الثورة الشعبية في الشام تواجه آخر ما صاغه وابتكره العقل الجبري من أفكار ونظريات تتعلق بمكافحة واحتواء التمرد، وبالتالي فليتوقع الثوار أساليب واستراتيجيات غير معهودة في سياق ما مر من تجارب الحروب والمقاومات الشعبية. لا شك أن ملامح توافقات الكبار تُظهر رهانا دوليا على إعادة تأهيل نظام بشار الأسد موازاةً مع ضرب وتفكيك جيوب الثورة المنتشرة في جنوب ووسط سوريَة، تأهيلٌ يتم جزء منه بواسطة ما يسمى بالهدن والمصالحات وهي التي تُؤمِّن للنظام مزيدا من المقاتلين ممن سُوِّيت أوضاعُهم وأُعيد دمجُهم في الجيش والميلشيات التابعة له، كما تعيد هذه المصالحات المزعومة لملمة شرعية النظام الطائفي من خلال التوقيع على وثائق تعترف بسيادة مؤسسات النظام ودعمها في مهمة القضاء على الإرهابيين، ومن يرفض التوقيع على هذه “المصالحات” يُشرَّد ويُهجَّر من أرضه برعاية الأمم المتحدة أو “تأمين ممر آمن له ولعائلته” وفق تعبير المنظمة.

تضاربت السناريوهات حول مصير مدينة إدلب بعد اكتمال مخطط تهجير الثوار والمدنيين إليها انطلاقا من باقي مدن الثورة المنكوبة (حلب، مضايا، الزبداني، عرسال، الغوطة الشرقية، داريّا، ريف حِمص الشمالي..)، وتضاربت أيضا الآراء التي تحاول تفسير دواعي التهجير وخلفياته ولماذا الشمال تحديدا وليس درعا مثلا أو أي منطقة أخرى. قلنا سابقا أن التهجير مخطط دولي بامتياز جرى التمهيد له من قِبَل المبعوثين الأمميين الذين تعاقبوا على سوريَة منذ بداية الثورة، ففكرة إقرار “مناطق خفض التصعيد” التي تم بموجبها فرز مناطق الثورة وقضمها بشكل مُركَّز واحدةً بعد الأخرى لم تكن وليدة توافقات “أستانة” بل طرحها أولا المبعوث الأممي “ستيفان ديمستورا” باقتراحه خطة تقضي بتجميد القتال في بعض المناطق سنة 2014، وتم البناء على الفكرة لتؤول إلى ما آلت إليه. وإذا كانت درعا في الجنوب قد حُسِمَ أمرُها منذ مدة ليست بالقصيرة بسبب موقعها الجغرافي الحساس وخضعت لتفاهم إقليمي ودولي خرجت على إثره مبكرا من معادلة الثورة، فإن الشمال السوري المحرر يسير نحو مصيره، مصير سنحاول تجلية بعض ملامحه وطرح ملاحظات وتوصيات بشأنه.

أولا من الخطأ وسوء التقدير الاعتقاد أن النظامَ السوري وحلفاءه لن يقوموا بحملة عسكرية تستهدف إدلب، وقد قرأت لبعض وجهاء الثورة قوله أن نقاط المراقبة التركية ستعصم إدلب من أي اجتياح قد يقوم به النظام وروسيا مستقبلا، وهذه قراءة خاطئة وتقدير في غير محله، فإذا كان النظام وروسيا قد قاما بتدمير مدن واجتياحها رغم أن من يتحصن بها صُنِّفوا في خانة من يُسمُّون بالمعارضة المعتدلة، فكيف بمدينة إدلب التي تضم من أجمع النظام الدولي ومكوناته على اعتدادهم إرهابيين يجب القضاء عليهم. إن العقيدة القتالية للنظام الدولي وقواه الفاعلة تتعارض تماما مع وجود ملاذ آمن في أي بقعة من العالم يأوي من تعتدُّهم إرهابيين. قد يتأخر الخيار العسكري أو قد يُناط تنفيذه بجهات أخرى، وبتكتيكات جديدة لكن لن يُستبعد من حسابات الحل، خصوصا إذا لم تُسفر الخيارات الأخرى عن نتائج مُرضيَة. وبالتالي فمهما بدا الحل العسكري بعيدا أو غير ممكن فينبغي الاستعداد له وحشد كل القدرات من أجل التعامل معه، ولا تقع القيادة الثورية في الخطأ الذي وقعت فيه القيادة العراقية عشية الغزو الأمريكي للعراق، فقد تحدث الفريق الركن رعد الحمداني -قائد الفيلق الثاني في الحرس الجمهوري- في كتابه “قبل أن يغادرَنا التاريخ” أن القيادة العراقية قبل أيام قليلة من الغزو كانت لا تزال تتداول حول جدية إقدام أمريكا على الغزو من عدمه، في الوقت الذي ينتظر الغزاة على الحدود ساعة الصفر!

المرحلة القادمة ستكون مرحلة إدلب بامتياز. فبعد القضاء على معظم بؤر الثورة في الخريطة السوريّة، سيكون لديهم الوقت الكافي للتركيز على المدينة وقد يُعلَن عن مسارٍ تفاوضيٍّ جديد بديلا عن جنيف وأستانة الذَين انتهيا واقعيا ولم يعد هناك داعٍ لمخرجاتهما. في المرحلة القادمة سيتمحور الحديث عن فرز الثوار داخل إدلب، وسيجري تقسيم المدينة إلى عدة مناطق حتى يسهل التعامل مع كل منطقة على حدة، تماما مثلما حصل في الغوطة الشرقية حيث حُوّلت إلى جزر شبه منفصلة مكّنت النظام وروسيا من تصفية الثورة فيها واحدة بعد الأخرى. من المتوقع أن تُحدَّدَ منطقةٌ معينة داخل إدلب لتكون مساحة آمنة يلجأ إليها المدنيون والفصائل التي تريد أن تنأى بنفسها عن “المتشددين”، وسيتقدَّم الغزاةُ للسيطرة على مناطق المتشددين، فإن تم لهم ذلك فلن يبقى هناك خيارٌ أمام المناطق الأخرى سوى التوقيع على تسوية معينة، ومهما كانت بنودها فستعني نهاية الثورة والدخول في مسارات الحل السياسي العبثية. وستكون الأمة على موعد مع نكبة جديدة يتوارثها الأجيال، جيلٌ إثرَ جيل.

إذا كان الخيار العسكري مأساويا فإن الحلول السياسية المزعومة لا تقل عنه مأساوية، تضيع التضحيات ويغشى الوهن والركود أصحاب القضية، مفاوضات، ومؤتمرات، وحديث هزلي عن “عودة اللاجئين” و “المصالحة الوطنية” و”حكومة الوحدة الوطنية” و”الدُّستور التوافقي” و”كبير المفاوضين”.. إلى غيرها من العبارات والشعارات التي بدأنا نسمعها عن قضية الثورة السوريّة بعدما كنا نسمعها عن قضية فلسطين، نكبة الأمة الأولى. وقد تتحوَّل ملحمة الشعب السوري التي قَدَّم فيها مئات الآلاف من الشهداء إلى ذكريات وأُمسيات فلكلورية تتخللها عروض الدبكة وما علق بالذاكرة من “أهازيج” الثورة وأيام الكفاح.

إدلب كالذرة، تكمن فيها طاقة ثورية وجهادية مدمرة إذا أحسن قادة الثورة تحريرها على الوجه الصحيح، في المدينة عشرات الآلاف من الثوار والمقاتلين العقائديين الغاضبين الذين هُجِّر أكثرُهم من أراضيهم، وفي صدر كل واحد منهم ثأر عند بشار ومن ظاهره على عدوانه. ومخزون من الأسلحة يكفي لتحويل سوريَة إلى كُرَةِ لهيب حارقة. موجات النزوح التي استقرت في المدينة يجب أن ترتد عائدة كطوفان يقتلع كل ما وجده في طريقه من مشاريع الاحتلال والطغيان.

أولا: على الفصائل الثورية في إدلب استيعاب كل المقاتلين والعناصر النازحة إلى المدينة، وإعادة ترتيب الصفوف وفق نظام عسكري يعتمد المجموعة الصغيرة استعدادا لحرب عصابات قد تُفرض على الثوار في أية لحظة، وتخزين الأسلحة في أماكن مختلفة، وتجنُّب أخطاء الفصائل في المناطق الأخرى حين كدَّست أطنانا من السلاح في المستودعات، فوقعت المستودعات في يد النظام وذهبت بذلك سنوات من الجهد وملايين من الدولارات هباء.

ثانيا: على الثوار في الشام أن يكُفُّوا عن الاعتقاد أنه يمكنهم في يوم ما الاندماج في كيان موحد، تحت قيادة واحدة، ومرجعية واحدة. الصحابة رضوان الله عليهم لم تحصل تلك “المعجزة ” في زمانهم، إنها فكرة مثالية لا حظ لها في عالم الواقع والحركة، ولا يزال الاختلاف وتعدد وجهات النظر ونزوع النفس إلى التفرد وحب السلطة من سمات الإنسان والمجتمعات والحركات السياسية وأشد ما يكون ذلك ظهورا في حضارتنا العظيمة. وعِوَضُ الجري خلف اندماج لن يأتي فلتبادر قوى الثورة “الأصيلة” إلى الاتفاق على آليات لإدارة تنافسها وتدبير خلافاتها، وتنسيق مواقفها وجهودها.

ثالثا: قرأت كثيرا من الملاحظات على مواقع التواصل الاجتماعي كما جادل كثير من الثوار ممن لهم دراية واطلاع على تفاصيل الشأن الداخلي للثورة، أن نظام المنح والكفالات لم يعد مجديا وفعالا، بل إن بعضهم أرجع ما حل بالثورة من تدهور وتراجع إلى ذلك النظام. ورأوا أن اعتماد نظام توزيع الغنائم على الثوار كفيل ليس فقط بخلق موجة ثورية ترتد من إدلب إلى كل مناطق سوريا بل بعودة معظم المهاجرين من أوروبا ممن فرُّوا إلى هناك يلتمسون بسطة في الرزق والمال. وسيؤدي ذلك أيضا إلى انشقاقات في صفوف جيش النظام، وسيعود إلى الثورة من تركها خصوصا ممن تعذر عليه التوفيق بين العمل الثوري وسعيه لتأمين الطعام ولقمة العيش لأهله وأطفاله.

المعركة معركة وعي وذكاء وإرادة، فليكن إذن العقل الثوري الجهادي في الشام في مستوى التحدي، وليدرك اللحظة الفارقة، ولا يدع الشام تؤول إلى أعداء الأمة من المحتلين والصفويين.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى