مقالاتمقالات مختارة

إثبات وجود الخالق.. أدلة دامغة وحقائق راسخة (1)

إثبات وجود الخالق.. أدلة دامغة وحقائق راسخة (1)

بقلم د. علي الصلابي

رغم أنّه لا توجَدُ في القرآن الكريم مناقشةٌ صريحةٌ لمنكري الخالق إلاّ أنَّ الإيمانَ بوجودِ خالقٍ لهـذا الكونِ قضيةٌ ضروريةٌ لا مساغَ للعقلِ في إنكارِها، فهي ليستْ قضيةً نظريةً تحتاجُ إلى دليلٍ وبُرهانٍ، ذلك لأنَّ دلالةَ الأثرِ على المؤثِّرِ يدرِكُها العقلُ بداهةً، والعقلُ لا يمكنُ أن يتصوّر أثراً من غيرِ مؤثِّرٍ، أيَّ أثرٍ، ولو كانَ أثراً تافهاً، فكيف بهـذا الكون العظيم؟! ولذلك لم يناقشِ القرآن الكريم هـذه القضية حتى حينما أوردَ إنكارَ فرعونَ لربِّ العالمين، يوم أن قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ *} [الشعراء: 23] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [القصص: 36 ـ 37] فكان موسى عليه السلام لا يعيرُ اهتماماً لهـذه الإنكارات، وتعاملَ مع فرعونَ على أساسِ أنَّه مؤمنٌ بوجودِ الخالقِ، فتراه يقولُ له مثلاً: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأََظُنُّك يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا *} [الإسراء: 102].

وقد عزا القرآن الكريم هـذا الإنكارَ والتكبُّرَ والعِنادَ، فقال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ *إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ *فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ *} [المؤمنون: 45 ـ 47]. وأوضحَ ذلك أكثرفقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. إنّ البيئةَ التي أُنزل فيها القرآن الكريمُ كانت وثنيةً في الغالب، وكتابيةً في بعض القرى، أو بعض الأشخاص، والكتابيون لا ينكرون الخالق، وأمّا الوثنيون فمع عبادتهم للأوثان إلاّ أنّهم كانوا يؤمنون بالخالق سبحانه، وسجَّل القرآن هـذا لهم في أكثر من موضع، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] ولهـذا لم يَحْتَج القرآن الكريم أن يفتحَ الموضوع مع هؤلاء الناس.

بل حتّى خارج هـذه البيئة لم يُعْرَفْ هناك منكِرٌ للخالق، يقول الشهرستاني: أمّا تعطيلُ العالم عن الصانعِ العليمِ القادرِ الحكيم فلستُ أراها مقالةً لأحدٍ، ولا أعرفُ عليها صاحبَ مقالةٍ، إلا ما نُقِلَ عن شرذمة قليلةٍ من الدهريّةِ، ولستُ أرى صاحبَ هـذه المقالة ممّن ينكِرُ الصانع، بل هو معترِفٌ بالصانع، فما عُدَّتْ هـذه المسألةُ من النظريات التي قام عليها دليل. ومع خلوِّ القرآن الكريم من مناقشةٍ صريحةٍ لمنكري الخالق، إلا أنّه تضمّن أدلةً كثيرةً لإثبات وجوده، غير أنها جاءت في الغالبِ لإثبات مسائلَ أخرى: كالوحدانية، والنبوة، والبعث. ومن هـذه الأدلة التي ذكرت في القرآن الكريم:

أولاً ـ دليل الخلق:

وخلاصةُ هـذا الدليل: أنَّ هـذا الخلقَ بكلِّ ما فيه شاهدٌ على وجودِ خالقه العليِّ القدير سبحانه، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ *} [الطور: 35 ـ 36] يقول لهم: أنتم موجودون، هـذه حقيقةٌ لا تنكرونها، وكذلك السماواتُ والأرضُ موجودتان، وقد تقرّر في بداهةِ العقول أنَّ الموجودَ لا بدَّ من سببٍ لوجودِهِ. وهـذا يدركُه راعي الإبل، فيقول: البعرةُ تدلُّ على البعيرِ، والأثرُ يدلُّ على المسير، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ فِجاجٍ، أفلا يدلُّ ذلك على العليمِ الخبيرِ.

ويدركه كبارُ العلماء الباحثين في الحياة والأحياء، يقول أحدهم: إنَّ الله الأزلي الكبير، العالم بكل شيء، والمقتدر على كل شيء، قد تجلّى لي ببدائع صنعه، حتى صرتُ دَهشاً متحيراً، فأيُّ قدرةٍ، وأيُّ حكمةٍ، وأيُّ إبداعٍ أودعه مصنوعاتِ يده صغيرِها وكبيرِها؟! وهـذا الذي أشارتْ إليه الآية هو الذي يُعْرَفُ عندَ العلماء باسم: قانون السببية، هـذا القانونُ يقول: إنَّ شيئاً من «الممكنات» لا يحدُثُ بنفسِه من غيرِ شيءٍ، لأنّه لا يحمِلُ في طبيعته السببَ الكافي لوجودِه، ولا يستقلُّ بإحداثِ شيءٍ، لأنَّه لا يستطيعُ أن يمنحَ غيرَه شيئاً لا يملكه هو. وبهـذا الدليل كان علماءُ الإسلام ولا يزالون يواجِهون الجاحدين.

فهـذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله يعرِضُ له بعضُ الزنادقة المنكرين للخالق، فيقول لهم: ما تقولون في رجلٍ يقولُ لكم: رأيتُ سفينةً مشحونةً بالأحمالِ، مملوءةً من الأنفال، قد احتوشتها في لُجَّةِ البحرِ أمواجٌ متلاطمة، ورياحٌ مختلفة، وهي مِنْ بينها تجري مستويةً، ليس لها ملاّحٌ يجريها، ولا متعهِّدٌ يدفعُها، هل يجوزُ ذلك في العقل؟ قالوا: هـذا شيءٌ لا يقبلُه العقلُ. فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله! إذا لم يجزْ في العقلِ سفينةٌ تجري في البحرِ مستويةً من غيرِ متعهِّدٍ ولا مُجْرٍ، فكيف يجوزُ قيامُ هـذه الدنيا على اختلافِ أحوالها، وتغيُّرِ أعمالها، وسَعَةِ أطرافها، وتباين أكنافها، من غير صانعٍ ولا حافظٍ؟! فبكوا جميعاً، وقالوا: صدقتَ وتابوا. هـذا القانون الذي سلّمت به العقول، وانقادت له، هو الذي تشير إليه الاية الكريمة: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *} وهو دليلٌ يرغمُ العقلاءَ على التسليم بأنَّ هناك خالقاً معبوداً، إلاّ أنَّ الايةَ صاغته صياغةً بليغةً مؤثّرةً، فلا تكادُ الآية تمسُّ السمعَ حتى تزلزلَ النفسَ وتهزَّها. قال أبو العتاهية (من المتقارب):

فواعجباً كيفَ يُعْصَى الإلـ            ـهُ أَمْ كيفَ يَجْحَدُهُ الجَاحِدُ

وفي كلِّ شيءٍ لَهُ ايةٌ                      تدلُّ على أنَّهُ وَاحِدُ

لقد تناولَ القرآن الكريمُ قضيةَ الخَلْقِ والتدبير تناولاً فريداً، وعُني بتوجيه العقولِ إلى النظرِ في افاقِ الكونِ وآيات اللهِ الكثيرة، وأهابَ بالعقلِ أنْ يستيقظَ من سُباته، ليتفكَّرَ في ملكوتِ السماواتِ والأرضِ، وما أودعَ فيها من الآيات. ويكرِّرُ القرآن الكريم ذلك في أساليب متنوّعة، ليرى هـذا الإنسانُ ويسمعَ في افاقِ الكونِ ما يقودُهُ إلى الإيمانِ بخالقه سبحانه وتعالى، ويعلمَ أنَّ هـذا الكونَ هو مِنْ صُنعِ اللهِ الخالق المدبر، المستحقّ للعبادة وحدَه لا شريكَ له.

ثانياً ـ دليل الفطرة والعهد:

إنّ معرفةَ الخالق، والإقرارَ بوجودِه تبارك وتعالى وربوبيته أمرٌ بدهي مغروسٌ في نفوس الناس وفطرهم، إذ لو تُرِكَ الإنسانُ في مكانٍ خالٍ لا يوجدُ فيه أحدٌ، بعيداً عن كل المؤثّرات الخارجية، وعن كلِّ الشوائب العقدية، لاستطاعَ بفطرته أن يعرفَ أنَّ لهـذا الكونِ خالقاً مدبِّراً ومتصرِّفاً، ثم بفطرته يتوجَّه لمحبةِ خالقِهِ. ومن هنا نعلمُ أنَّ مَنْ أنكرَ وجودَ الخالقَ جلَّ جلاله من الملحدين، إنّما أُتوا من انحرافِ فطرهم، ومن تأثيرِ الشياطين عليهم، وتلاعبهم بهم. ودليلُ الفطرة هـذا دلَّ عليه القرآن الكريمُ والسنةُ النبويّةُ المطهرة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الروم :30]. فالمقصود بالفطرة هنا الإسلام، فالله جل جلاله فطر الناسَ على دين الإسلامِ والتوحيد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ مولودٍ إلا يولدُ على الفِطْرَةِ، فأبواه يهوّدانِهِ، أو ينصّرانِهِ أو يمجِّسانِهِ، كما تُنْتِجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تحسّون فيها مِنْ جَدْعاء»؟، وفي الحديث القدسي: «يقول تبارك وتعالى: إنِّي خَلَقْتُ عبادِي حنفاء كلَّهم، وإنّهم أتتهم الشياطينُ فاجْتالَتْهُم عن دينهم». ومعنى (حنفاء) أي: مائلينَ عن الأديانِ كلِّهم إلى دين الإسلام. ومعنى (اجتالتهم) استخفتهم، فجالوا معهم في الضلال.

ومن أجل أهميّةِ الفطرةِ في دلالةِ الناسِ على ربّهم، وتعريفهم به، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبحَ أو أمسى يقرِّرُ أنه يُصْبِحُ ويُمْسِي على هـذه الفطرةِ فطرةِ الإسلامِ، وأنّها لم تتأثَّرْ بالمؤثِّرات والعوارض الخارجية، من نزعات الشياطينِ ووساوسهم، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقولُ إذا أصبحَ وإذا أمسى: «أصبحنا (أو أمسينا) على فطرةِ الإسلامِ، وعلى كلمةِ الإخلاصِ، وعلى دينِ نبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى ملّةِ أبينا إبراهيم، حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين». فقد أكّد على سلامة الفطرة من الانحراف بقوله: «وعلى كلمَةِ الإخلاص» وهي شهادة أن لا إله إلا الله. وبقوله: «وعلى دينِ نبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» وهو الدين الإسلامي، وبقوله: «وعلى مِلّةِ أبينا إبراهيمَ حنيفاً مسلماً» أي مائلاً عن كلِّ ما يخالِفُ هـذه الفطرة من الأديان والعقائد الفاسدة، التي تنكِرُ الربَّ سبحانه وتعالى، أو تزعمُ أنَّ معه شريكاً في مُلْكِهِ أو عبوديتِهِ إلى الإسلام الخالص، فإذا حقَّقَ توحيدَ الألوهية (توحيد العبادة) كان توحيدُ الربوبية محقّقاً، لأنَّ توحيدَ الألوهية (توحيد العبادة) يتضمَّنُ توحيدَ الربوبية، وبذلك تكونُ الفطرةُ قد دلّت على توحيدِ الربوبية.

وهذه الفطرةُ التي فطرَ الله عليها عبادَه لها صلةٌ وارتباطٌ وثيقُ بالعهدِ الذي أخذه سبحانه وتعالى على بني آدم، وهم في عالم الذَّرِّ، كما أشار الله بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ *} [الاعراف :172 ـ 173]. فهـذا العهدُ والميثاقُ الذي أخذه الله جل جلاله على الناس، مضمونُه الاعترافُ والإقرارُ بربوبيته، وأشهدَهم على أنفسِهم فشهدوا. فمنَ الناس مَنْ حافظ على ذلك العهد، وقام بمقتضاه ولازِمه، من عبادة ربه وحده لا شريك له، وتوحيده. وصَدّقَ رسلَ اللهِ، وآمن بهم، وبما جاؤوا به. ومن الناس من تغيَّرتْ فطرتُه وانحرفت، واجتالته الشياطين -والعياذ بالله ـ فنسيَ ما شهدَ عليه، وما جُبِلَ عليه، من الإقرار بربوبية الله عز وجل، فوقع في الكفر والإلحاد، مع أنَّ الله سبحانه لم يتركْ عبادَه سدًى، بل أرسل لهم الرسلَ، وأنزل معهم الكتبَ، ليذكّروا الناس بهـذا الإشهاد. وهـذا العهد والميثاق.

ولكي يبقى المسلمُ متذكِّراً هـذا العهد الذي أخذه الله عليه في عالم الذَّرِ، فقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ذِكْراً يقولونه في الصباحِ والمساءِ، ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «سيّدُ الاستغفارِ أنْ يقولَ العبدُ: اللهمَّ أنتَ ربي لا إلهَ إلاَّ أنتَ، خلقتَني وأنا عبدُكَ، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بكَ مِنْ شَرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِكَ عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، إنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ». فقوله: «وأنا على عهدِكَ»: أي ما عاهدتُكَ عليه من الإيمان بِكَ، والإقرارِ بوحدانيَّتِكَ، لا أزولُ عنه، قال ابن حجر: وقال ابن بطال: قوله: «وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ» يريدُ العهدَ الذي أخذَه الله على عبادِه حيثُ أخرجَهم أمثالَ الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسِهم: ألستُ بربِّكُم؟ فأقرّوا له بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانية، و(بالوعدِ) ما قاله على لسان نبيه، فهـذا الذكرُ العظيمُ مَنْ داومَ عليه يومياً ولازمَه؛ حفِظَ نفسه ـ بإذن الله ـ من انحرافِ فطرتِهِ، وتغيّرها، ووفّى بعهدِهِ الذي بينه وبين ربه.

ثالثاً ـ دليل الآفاق:

قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [فصلت :53]. فقوله: {سَنُرِيهِمْ آياتنَا فِي الآفَاقِ} أي: علامات وحدانيتنا وقدرتنا، وقوله (في الآفاق) يعني أقطار السماوات والأرض: من الشمس، والقمر، والنجوم، والليل، والنهار، والرياح، والأمطار، والرعد، والبرق، والصواعق، والنبات، وغير ذلك مما فيها من عجائب خلق الله. وفي حديثِ العلماء عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ما يدلُّ على آيات الله في الافاق، والتي منها:

1 ـ نقص الأوكسجين في الارتفاعات:

قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [الانعام :125] تنصُّ هـذه الاية الكريمة على الإنسان عندما يصّعّد في السماء ـ أي يرتفع في أعالي الجو ـ يضيقُ صدرُهُ، ويشعر بالاختناق، وهـذه حقيقةٌ علميةٌ سببها أنَّ نسبة الأوكسجين تقلُّ كلَّما ارتفعنا إلى أعلى، كما يقلُّ الضغطُ الجويُّ، وهـذان السببان يجعلانِ الإنسانَ يشعر بضيق النفس.

2 ـ حركة النجوم والكواكب في مداراتها:

كان الناسُ يرونَ أنَّ الأرضَ مركزُ الكون، ويدور حولها الشمسُ والقمرُ والنجومُ السيّارة، ويرونَ نجوماً ثابتة طوال السنة، فيصفونها بالثبات، ثم حدث في عصر (غاليلو) رأيٌ يعتِبرُ أنَّ الأرض هي التي تدورُ حولَ الشمس، وأنَّ الشمسَ هي مركزُ الكونِ. أمّا القرآن الكريمُ فقد رفضَ قبلَ ذلك جميعَ الاراءِ التي تزعمُ أنَّ للكونِ مركزاً ثابتاً، قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ *} [يس :40] وكانَ ذلكَ في عصره سَبْقٌ علميٌّ. وقال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *} [الواقعة :75 ـ 76]. فقد وجدَ العلماءُ أنَّ مواقعَ النجومِ ومساراتها ليست اعتباطيةً، فالكوكبُ وُضعَ في مسارٍ بحيثُ لا تؤدّي قوى التجاذبِ الكونيّةِ الكثيرةِ والقوى النابذةِ الناشئةِ عن الدوران إلى اضطرابٍ كوني، ولقد اختِيْرَ له المسارُ الذي يحقّق له التوازنَ بين تلك القوى الكثيرة. ووجد العلماء أيضاً أنَّ أبعادَ المجموعة الشمسية تتبعُ سلسلةً حسابيةً، وأنّى للعربيِّ الجاهلي الذي كان يرى النجومَ مبعثرةً في صفحةِ السماءِ أن يعرفَ من تِلقاءِ نفسه أنَّ لمواقعِها شأنٌ عظيمٌ.

3 ـ دوران الأرض والجبال:

قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل :88] لقد كان الناس قديماً يرون أنّ الأرضَ وجبالَها ثابتةٌ، بل يضربون المثلَ بثباتها، فجاء القرآن الكريم ليخالفَ ما ألفه الناسُ، واستقرّ في أذهانهم، وتحدَّثَ عن ظاهرةٍ كونية، فقال عن الجبال: إنّها تمرُّ مرَّ السحاب، أي إنَّ الجبال كالسحاب، فكما أنَّ السحابَ لا يتحرّكُ ذاتياً إلا إذا كان هناك شيءٌ يدفعه إلى التحرك، والذي يحرِّكُ السحابَ ويدفعُه هي الرياح، فكذلك الجبالُ لا تتحرَّكُ بنفسِها، لأنها أوتادُ الأرضِ، ولكن تتحرك، وحركتُها تابعةٌ لحركة الأرض، فالأرضُ تتحرّكُ وتدورُ، وإلا فكيفَ تتحرَّكُ الجبالُ، وتمرُّ مرَّ السحاب، وهـذا من صنع الله الذي أتقن كل شيء، حينئذٍ يكون هناك يقينٌ ثابتٌ.

4 ـ حاجز بين بحرين مالحين:

قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَان فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ َالْمَرْجَانُ*} [الرحمن :19 ـ 22]. تتحدّثُ الآيات الكريمةُ عن بحرين يتلاقيان، وفي مكان تلاقيهما يوجدُ حاجزٌ، والظاهر أنها تتحدّث عن بحرين حقيقيين مالحين، وليس عن بحرٍ ونهرٍ، لأنّه قال: والمرجان {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *} وهو الخرز الأحمر ـ لا يخرجُ إلا من المياه المالحة، فالاية الكريمةُ إذاً تتحدَّثُ عن حاجزٍ حقيقي بين بحرين مالحين في مكان تلاقيهما، والبحرانِ يتلاقيانِ في المضايق، لأنه، إن لم يكن هناك مضيقٌ، فليس من مسوِّغٍ لاعتبارهما بحرين، بل يكونان بحراً واحداً، إنَّ هـذا الذي أثبتته الاية الكريمةُ مستغربٌ جداً في عرف الناس، إذ الانطباع السائد أنَّ المياه المتلاقية لا حواجز بينها، وما كان أحد يعرف هـذه الحقيقة، ولا تخطرُ له على بالٍ، إلى أن اكتُشِفَتْ عام 1962 م، وثبت أنّ ما قاله القرآن الكريم حقيقةٌ مدهشَةٌ.

5 ـ اهتزاز الأرض وزيادتها بالمطر:

قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *} [الحج :5] إن العلمَ يؤكّد أنَّ الأرضَ تهتزُّ فعلاً بنزول الغيثِ عليها، فالحبوبُ والبُصَيلاتُ والدّرناتُ والحُوَيصلاتُ والبكترية والجراثيمُ كلُّها تبدأُ بالحركة والانقسامات الخلوية، وامتصاص الماء، وتحليل الغذاء المعقّد إلى وحدات أقل ارتباطاً، وأكثر عدداً، وأكبر حجماً، وبامتلاء مسامِّ الأرضِ بالماء تتحرّك جُزيئات الطينِ، وتبدأُ عمليةُ تأيُّنٍ عجيبةٍ في جُزَيئات التربةِ، وتنشطُ الديدانُ الأرضيّةُ في شَقِّ الأنفاقِ الأرضيةِ، وابتلاع كمياتٍ كبيرةٍ من التربة المتلاصقة، وإخراجها بعدَ ذلك مفككةً، كلُّ هـذه النشاطات تؤدي إلى زيادةِ حجم التربة، ويمكنُنا رؤية صورةٍ مصغّرةٍ لهـذه العمليات بتخمير العجين، وزيادة حجمه، نتيجة نشاط خلايا الخمائر، وفي التربة تحدثُ ضروبٌ كثيرةٌ لمثل هـذا النشاط، مِنْ كلّ ما سبق نجدُ التوافقَ بين ما عرفه العلم وما وصفه القرآن الكريم.

6 ـ أوهن البيوت:

قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [العنكبوت :41] إنَّ قوله سبحانه: وقوله بعد ذلك: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ *} [العنكبوت :43] يشيرانِ إلى أنَّ وَهْنَ بيت العنكبوتِ المتحدَّث عنه وَهْنٌ غيرُ ظاهرٍ ولا معروف لدى عامة الناس، وقد ضُرِبَ هـذا الوهنُ مثلاً لموالاة الكافرين بعضهم لبعض، فماذا وجد العلماءُ عند دراسة العنكبوت؟ وجدوا أنَّ الروابطَ بين أفراد العنكبوت في غاية التفكّك، فالأُنثى كثيراً ما تأكل الذكرَ بعد الإلقاح، وقد تأكلُ أبناءها، والأبناءُ يأكُل بعضُهم بعضاً، فهو بيتٌ متفكّكٌ متداعٍ، وذلك مثلُ موالاةِ الكافرين بعضهم بعضاً.

————————————————————————————————————————–

مراجع المقال:

1. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، الإيمان بالله جلّ جلاله، دار المعرفة، بيروت. لبنان، ط 1، 1432هـ – 2011م، ص (41-50).

2. محمد عياش الكبيسي، المحكم في العقيدة، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 2012م، ص (65-66).

3. أبو الفتح محمد الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، تحقيق، أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1425هـ، 2004م ص، (123 ـ 124).

4. علي بن عبد الحفيظ الكيلاني، المباحث العقدية المتعلقة بالأذكار، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1428هـ، 2007م، ص، (1/368).

5. عمر سليمان، عبد الله الأشقر، صادق شائف نعمان، العقيدة في الله (العقيدة في ضوء الكتاب والسنة)، دار النفائس للنشر والتوزيع، بيروت، 2004، ص 236.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى