مقالات

إثبات التعاقد الإلكتروني .. ورقة شرعية تعالج ظاهرة ابرام العقود على الانترنت

إثبات التعاقد الإلكتروني .. ورقة شرعية تعالج ظاهرة ابرام العقود على الانترنت

ورقات شرعية – د. محمد جبر الألفي

من خصائص العقد الإلكتروني أنه يتم عن بُعدٍ، فيكون كل من طرفي التعاقد في مكان مُغايرٍ – غالبًا – وقد تكون السلعةُ في مكان ثالث، وقد يتمُّ دفعُ الثمن أو تسليم السلعة في مكان رابع، وهكذا، هذه المسائل تثير تساؤلاً عن القانون الواجب التطبيق عند وقوع تنازع بين طرفي العقد، سنحاول الإجابة عنه في فرع أول.

وعند عرضِ النِّزاع أمام المحكمة المختصة، ينبغي على الطرف المدَّعي أن يُثبِتَ صحَّةَ دعواه بأدلة يمكن للقاضي أن يقتَنِعَ بها، وأن يطمئنَّ إليها، وهذا بدوره يُثيرُ التساؤلَ عن مدى حجيَّةِ ما يتم تدوينه على الوسائط الإلكترونية من شروط التعاقد، ومدى قبولِ التوقيع الإلكتروني، واعتباره منتجًا لأثره في إثبات صحة ما ورد بالمحرر، ونسبته إلى صاحب التوقيع، وهو ما سنحاول الإجابة عنه في الفرع الثاني.

الفرع الأول: القانون الواجب التطبيق على التعاقد الإلكتروني

نقطة البداية في هذا الموضوع تتمثَّل في الطبيعة العالمية للإنترنت؛ إذ لا يمكن حصرُه في إقليم دولة معينة، أو في منطقة جغرافية محددة، إنه يتجاوز الحدود المعترف بها، ليجعل من الدول قرية واحدة بفضل ثورة المعلوماتية (information) بالتعاون مع ثورة الاتصالات؛ مما أدَّى إلى إيجاد رابطة بين العقود الإلكترونية التي تُبرَمُ في ظلِّ نُظُمٍ قانونية مختلفة؛ ولهذا ارتفع عاليًا صوتُ المنادِين بضرورة صياغةِ قانون لتنظيم التجارة الإلكترونية، مستقلٍّ عن القوانين المحلية أو الإقليمية، يتضمَّنُ القواعدَ الواجب اتباعُها لحلِّ المنازعات التي تنشأ عن تفسير وتطبيق مضمون العقد الإلكتروني وشروطه.

وقد قامت بعضُ المؤسسات والشركات التي تقدم عروضها عن السلع أو الخدمات على شبكة الإنترنت، بتحديد القانون الواجب التطبيق على ما ينشأ من نزاع بمناسبة هذا التعاقد، كشرط من شروط العقد، فإذا قَبِلَه الطرف الآخر يكون تحديدُ القانون الواجب التطبيق متروكًا لحرية أطراف التعاقد، وهذه الطريقة هي المفضَّلة في قوانين التجارة الدولية.

ولقد حاولَتْ بعضُ الجهات المهتمة بتطور التجارة الدولية صياغةَ قواعدَ نموذجيةٍ لضبط وتنظيم حركة التجارة عبر الإنترنت، يهمُّنا منها في هذا الصَّدَدِ ما أُطلِقَ عليه (التحكيم الإلكتروني)، الذي لا يَستلْزِمُ انتقال أطراف النزاع من محل إقامتهم، وإنما تتمُّ المرافعات من خلال الهاتف، أو الأقمار الصناعية، وتُقدَّمُ المستندات المطلوبة من خلال البريد الإلكتروني، ويكون الاتصال بالخبراء على عنوانهم الإلكتروني، أو بالحديث المباشر معهم من خلال شبكة الويب، فيكون الحكمُ أسرعَ.

وقد أنشأت بعض المؤسسات محاكمَ تحكيمٍ إلكترونية، منها على سبيل المثال: جامعة مونتريال بكندا، والمنظمة العالمية للمِلْكية الفكرية.

الفرع الثاني: وسائل إثبات التعاقد الإلكتروني

أدَّى تطورُ وسائل الاتصال الحديثة – حتى الآن – إلى ربط الحاسوب بالفاكس وبالهاتف، وبإضافة كاميرا وميكروفون؛ مما جعل التعاقد الإلكتروني – عن بُعْدٍ – كأنه واقعٌ حقيقة بين حاضرين، وقلَّ أن يدخله الخطأ أو الالتباس، ومع ذلك قد يقع تنازعٌ بين المتعاقدين إلكترونيًّا على تفسير شرط، أو مغزى عبارةٍ، أو مدلولِ رمزٍ، فيكون بحاجة إلى تقديم مستندات تُثبِتُ ما يدَّعيه.

والغالبُ أن تكون وسيلةُ إثبات التعاقد الإلكتروني هي الكتابةَ، إلا أن الكتابة المألوفة في الفقه وفي القانون هي العبارات المؤلفة من مجموعة الحروف والأرقام وغيرها، بشرط أن تكون ثابتةً مستديمة، أو كما يقول فقهاؤنا: “أن تكون مستبينة؛ حتى لا يُعتَد بالكتابة على الهواء أو الماء ونحوهما؛ حيث لا يبقى للكتابة أثرٌ بعد الفراغ منها”، والوثيقة الإلكترونية التي تتمُّ عبرَ الإنترنت تختلِفُ عن ذلك اختلافًا جوهريًّا، إنها وسيلة اتصال تسمَحُ بحفظ المعلومات المتبادلة، والإبقاء على مكوناتها، بحيثُ يمكن استرجاع هذه المعلومات والاحتكام إليها عند اختلاف أطراف التعاقد، أما التوقيع على هذه الوثيقة الإلكترونية، فإنه يتم عن طريق: رمز، أو رقم، أو ما شابه ذلك، بشرط أن يكون معروفًا لدى المتعاقدين.

إن العَقبةَ التي تعتَرِضُ طريقَ الاعتراف بالوثيقةِ الإلكترونية كوسيلة إثبات – تتمثَّلُ في أمرين:

1- إمكانية الدخول على الوسيط المادي، وتعديل الوثائق التي يتم التوقيع عليها إلكترونيًّا، بحيث يثورُ الشك في مدى الارتباط بين التوقيع وبين الوثيقة التي يتم استخراجها من الحاسوب.

2- الطعن المقدَّم من صاحب التوقيع الإلكتروني في صحة هذا التوقيع، الذي لم يكتب بخط اليد، وكذا الطعن المقدم منه أو من الطرف الآخر في صحة بعض محتويات الوثيقة الإلكترونية، وادعاء أنها عُدِّلتْ بزيادة أو نقصان.

وقد بُذِلتْ محاولاتٌ جادة لتَذْليلِ هذه الصعوبات، ساعَدَ على إنجاحها تطورٌ غير مسبوق وعلى درجة عالية من التقدم في وسائط الاتصالات، منها التوصُّلُ إلى برامج حاسوب تسمَحُ بتحويل النص القابل للتعديل إلى صورة ثابتة لا يمكن تعديلُها إلا بإتلافها، ومنها: حفظ المحررات الإلكترونية في صيغتِها النهائيَّة، وبشكل لا يقبل التعديلَ في صناديق إلكترونية لا يمكن فتحُها إلا بمِفتاحٍ خاص، تُهيمِنُ عليه جهات معتمدة.

أما التوقيع الإلكتروني، فقد أمكن توثيقُه وضبطُه عن طريق نقلِ التوقيع المحرَّرِ بخطِّ اليد إلى الوثيقة الإلكترونية بعد تصويره بالماسح الضوئي (سكانر)، أو عن طريق استخدام البطاقات المُمَغْنَطةِ والرقم السري، أو عن طريق الضغط على زر معين في لوحة الحاسوب يفيد الموافقة على التعاقد، أو اعتماد التوقيع بالخواص الذاتية (بيومتري) مثل بصمة الإصبع، أو بصمة شبكية العين، أو البصمة الصوتية، أو بصمة الشفه، ونحو ذلك، وأخيرًا تم التوصُّلُ إلى ما يسمى بالتوقيع الرقمي، الذي يمكن إعداده من خلال معادلات رياضية، لا يمكن لأحد أن يعيدها إلى الصيغة المقروءة إلا من لديه (المفتاح).

من أجل ذلك: نص القانون النموذجي الخاص بالتجارة الإلكترونية، والذي أصدرتْه اللجنة التابعة للأمم المتحدة، على أن التصرفات المبرمة عبر شبكة الإنترنت لا يمكن الطعن في صحتِها لمجرد أنها تمت عبر الإنترنت؛ إذ إن الوثيقة الإلكترونية كالورقة المكتوبة العادية في مجال إبرام العقود الإلكترونية، بشرط أن يكون من السهل الوصول إلى هذه الوثيقة الإلكترونية فيما بعدُ.

وفي فرنسا صدر قانون يسوِّي بين المحررات المكتوبة – أيًّا كان الوسيط الذي يتم التدوين عليه، وأيًّا كانت طريقة الكتابةِ أو رموزها – حيث نصَّ على أن: (تتمتع المحررات الإلكترونية بذات الحُجية التي تتقرر للمحررات العرفية في إثبات ما يَرِدُ بها من حقوق والتزامات، طالما تم التوقيع عليها)، و (يشترط في التوقيع الذي يكتمل به الوجود القانوني للمحررات العرفية أن يكون محدِّدًا لشخصية صاحبِه، ومعبِّرًا عن قَبولِه بالالتزامات التي يتضمنها المحرر، فإذا كان التوقيع إلكترونيًّا وجَبَ أن يتم باستخدام إجراءاتٍ موثوقٍ بها في الدلالة على اتصاله بالمحرر الذي يرتبط به.

وتُعدُّ الثقةُ في الإجراء المتخذ لإتمام التوقيع مفترضةً إلى أن يَثْبُتَ العكس، طالما كان التوقيع ظاهرًا، ودالاًّ على شخص صاحبه، ومرتبطًا بمحرر لا تدعو أي شواهد ظاهرة إلى عدم الثقة بصحة ما ورد فيه).

بهذه الضوابط يمكن الاطمئنانُ إلى قَبولِ المُحرَّرات الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني كوسيلة إثبات شرعيَّة تندرِجُ تحتَ قواعدِ الإثبات بالكتابة.

خاتمة:

عالجتْ هذه الورقة – بإيجاز – ظاهرةَ التوسُّعِ في استخدام شبكة الإنترنت لإبرام العقود، ومدى قبول المحررات الإلكترونية في مجال الإثبات.

وقد اتَّضَحَ من استعراض أركان العقدِ في الفقه الإسلامي أنها تنسجِمُ مع ما يجري عليه العملُ في التعاقد الإلكتروني، وأن إتمامَ هذا التعاقد عن بُعْدٍ لا يُخِلُّ بضرورة وجود مجلس العقد – الذي انفرد الفقه الإسلامي بتأسيسه وتأصيله عن سائر النظم القانونية – إذ إن التطور التِّقَنيَّ جعَل التعاقد الإلكتروني كأنه تم بين حاضرين في الزمان والمكان، ولا نجد ما يَمنَعُ – شرعًا – من إدراج الشروط الواضحة في العقد الإلكتروني ما دام الطرفان قد قَبِلا بهذه الشروط.

أما القانون الواجب التطبيق على التعاقد الإلكتروني، فإنه من المسائل التنظيمية التي تخضع لإرادة الطرفين، وغالبًا ما يتم الاتِّفاقُ على اللجوءِ إلى التحكيم الإلكتروني، وهو لا يتعارض مع مبادئ وأحكام الفقه الإسلامي.

وغالبًا ما تكون الكتابة الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني من أبرز وسائل إثبات التعاقد الإلكتروني، فظهر في التطبيق العملي ما يؤدي إلى الاعتراف بحجية الوثائق الإلكترونية، وصحة التوقيع الإلكتروني، وهذا لا يُخالِفُ أحكام الفقه الإسلامي.

ومجملُ القول: أن التعاقد التجاري الإلكتروني بضوابطه الشرعية يعتبر صحيحًا في ميزان الشرع الإسلامي، وهذا ما توصَّلَتْ إليه قراراتُ وتوصيَّاتُ الندوات والمؤتمرات التي انعقدت في جامعة الأزهر، وجامعة الكويت، وجامعة الإمارات العربية المتحدة، وندوة البركة التاسعة عشرة للاقتصاد الإسلامي.

المصدر: موقع الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى