مقالاتمقالات مختارة

أين ذهب منهج سَدِّدوا وقارِبوا؟ عودٌ على مشكلة مزمنة

أين ذهب منهج سَدِّدوا وقارِبوا؟ عودٌ على مشكلة مزمنة

بقلم أحمد التلاوي

لا نزال مع نتائج الاستطلاع الكبير الذي أجرته مؤسسة الباروميتر العربي، بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية بين العام 2018م ومطلع 2019م.

ومن بين النتائج اللافتة –وقد تناولنا بعض جوانبها في موضع سابق من الحديث- ارتفاع نسبة التفلُّت من التديُّن في السنوات الماضية، بشكل وصل إلى مستوى نصف العينة المأخوذة.

وهو أمرٌ ناقشنا بعضَ أسبابه، والتي بعضها تعودُ إلى سلوكيات الأنظمة والحكومات العربية في إطار أزمتها مع جماعات ما يُعرَف بـ “الإسلام السياسي”، وبعضها يعود إلى الجماعات والمؤسسات التي تتحرك في فضاءات العمل الإسلامي المختلفة.

ونقف هذه المرَّة مع واحدة من أبرز الظواهر متعددة الأبعاد التي تسببت في هجران عدد كبير من الشباب لساحات العمل الإسلامي، سواء من خلال الجماعات والمؤسسات، أو على المستوى الفردي، وهي ظاهرة التشديد في الاشتراطات والنتائج.

ونعني بهذه الظاهرة، وَضْع القيِّمين على العمل الإسلامي للكثير من التصورات وآليات التقويم المتعلقة بمفهوم “العمل الناجح” ومفهوم “الفشل”، فقد تجاوزت هذه التصورات والآليات الكثير من الضوابط الشرعية للعمل، أيًّا كانت نوعيته أو مجاله.

ومن بين أهم الضوابط التي تجاوزتها: قوانين مثل الملاءمة والاستطاعة -والتي وردت في القرآن الكريم بشكل لا لبس فيه- فيكون اتباعها قاعدة شرعية، وليس مجَّرد اعتبارات الرشادة التي تكون نسبية من مجال لآخر، زمني أو مجتمعي، يقول تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَاۚ} [البقرة: 286].

ومن بين هذه المشكلات وهذا عن تجارب قريبة للغاية من داخل أوساط جماعة الإخوان المسلمين في مصر، في مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م:

عندما تفاقمت الأعباء واتسعت الجبهات بشكل فاق في متطلباته المواردَ البشرية المتاحة، أسندت الوحدات الإدارية المحلية التابعة للجماعة أنشطةً وأعمالاً غير ملائمة لأي اعتبار -سواء التخصص أو القدرات- على مستوى القطاعات والأحياء والقرى داخل المحافظات.

وذلك كأنْ تسند مهمة الدروس في المسجد إلى محاسب أو طبيب لا يعلم شيئا عن قواعد الخطابة العامة.

المشكلة الأخرى في عملية التقويم في خطاب التوجيه للعناصر الأقل تشبُّعًا بالمنهج، وهذه مشكلة شائعة في الجماعات والحركات الإسلامية، فتحت وطأة الحماسة والرغبة في السرعة في الإنجاز وإتمام المهام، كانوا يلجؤون إلى خطاب شديد الوطأة على نفوس العاملين في الحقول الميدانية المختلفة، يشمل اللوم والتقريع الشديدَيْن مع بعض الاتهامات بالتقصير في الأمور بنفس درجة الاتهام بالتقصير في العبادة أو وجود خلل في العقيدة.

المشكلة الأخرى في عملية التقويم في خطاب التوجيه للعناصر الأقل تشبُّعًا بالمنهج، حيث فتحت وطأة الحماسة والرغبة في السرعة في الإنجاز وإتمام المهام، وكانوا يلجؤوا إلى خطاب شديد الوطأة على نفوس العاملين في الحقول الميدانية المختلفة، يشمل اللوم والتقريع الشديدَيْن مع بعض الاتهامات بالتقصير في الأمور بنفس درجة الاتهام بالتقصير في العبادة أو وجود خلل في العقيدة

وهذه الطريقة تخالف – على أبسط تقدير – مبدأً نبوياً ورد في الحديث الشريف، وأكدته السُّنَّة النبوية، وهو مبدأ “سدِّدوا وقاربوا”، فعن أبي هُرَيرة -رضيَ اللهُ عنه- قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “لن ينجي أحدًا منكم عملُه”، قالوا: “ولا أنت يا رسول الله؟” قال: “ولا أنا، إلا أنْ يتغمدني الله برحمة، سدِّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدُّلْجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا” [متَّفقٌ عليه].

وبدلاً من ذلك نجد تعظيم الخطأ بما لا يتناسب مع طبيعته، بعض المسؤولين الإداريين عن مجموعات الشباب، كان يصف ترك أحدهم لمكانه في نشاط بسيط، مثل توزيع مطبوعات على عوام الناس، بأنه يدخل في نطاق الفرار من الجهاد بالنَّصِّ الذي ورد في القرآن الكريم: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًاۚ} [النور: 63].

ووصلت درجة التطرف في تطبيق التعليمات والمهام، بدون النظر إلى نوعيتها أو إلى نوعية المشاركين فيها، أن وضعت بعض المواقف في إطار قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15].

وهو أمرٌ جدُّ خطير، ويسفِّه من عظائم الأمور، وينزل بالنص القرآني في مواضع لا يعنيها ولا يقصدها، وهذه كلها مخالفات شرعية عظيمة وخطيرة.

وهو بالفعل سلوكٌ قاد إلى حالة من الاستهتار والسخرية من جانب بعض الشباب الطارئ على الحالة الإسلامية بكل ما فيها من عظيم أمورٍ وجدية، إلى أن قال بعضهم: هل هذا هو الجهاد في الإسلام، توزيع المطبوعات أو السير في مسيرة؟

ولو سلمنا بمنطق هؤلاء -المغلوط- من القيِّمين على هذا النشاط أو ذاك، فأين هو قول الله تعالى في تتمة معنى الآية السابقة في الآية التالية: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16].

ثم أين معارفهم الدينية -التي يجب تأهيل أي مسؤول حركي وفقها- من موقف الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلّم- من جماعة من أصحابه، عندما انسحب خالد بن الوليد ومعه جماعة من الجند من معركة “مؤتة”، واتهمهم المسلمون عند عودتهم إلى المدينة المنوَّرة بأنهم فرُّوا من الميدان، ووصفوهم بـ”الفُرَّار”، هنا قال الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- متداركًا فتنة عظيمة: “ليسوا بالفُرَّار ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله” [أخرجه البيهقي وآخرون].

هذا في أعاظم الأمور، فكيف بنا بمهام تكتيكية!

ويزيد من أهمية هذا المنهج، المرحلة التي كانت تمر بها الحركة الإسلامية بعد أن حققت شيئاً من التمكين في بعض الدول وقت ثورات ما يُعرَف بـ “الربيع العربي”، ويزداد إلحاحه في وقت الأزمة الحالية على صعيد مساحات واسعة من العمل الإسلامي الآن.

فنحن أمام أجيال لم تتشبع بروح الإسلام، وعظيم مهامهم كمسلمين وفق التصور الإسلامي للحياة كعقيدة وجهاد  – كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي – بل إنهم لم يتلقوا أبسط المعارف الدينية البسيطة في المدارس.

فكان التعامل معهم بهذه الصورة التي شقَّت عليهم الأمور، ولم يسبقها التأهيل الملائم، سببًا كبيرًا في النتائج المخيفة التي أثبتها استطلاع “الباروميتر” العربي.

إن كل ذلك يجب أن يدفع جميع الكيانات والمؤسسات الإسلامية في زمننا المعاصر إلى دراسة دقيقة للغاية لهذا الاستطلاع والنتائج التي توصل إليها، والبحث عن أسبابها، في مناهجها وأطرها التنظيمية… وغير ذلك، والبدء في منظومة عمل تربوي وشرعي وفكري شاملة يرافقها تغيير كامل في مفاتيح العمل التنظيمي

إن كل ذلك يجب أن يدفع جميع الكيانات والمؤسسات الإسلامية في زمننا المعاصر إلى دراسة دقيقة للغاية لهذا الاستطلاع والنتائج التي توصل إليها، والبحث عن أسبابها، في مناهجها وأطرها التنظيمية… وغير ذلك، والبدء في منظومة عمل تربوي وشرعي وفكري شاملة يرافقها تغيير كامل في مفاتيح العمل التنظيمي.

ومن دون ذلك، فإن “الباروميتر” القادم سوف نجد فيه نِسَبًا أكبر وأفدح لهذه الظواهر!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى