مقالاتمقالات مختارة

أول إقطاع في الإسلام وقف الرسول صلى الله عليه وسلم لآل تميم الداري في فلسطين

أول إقطاع في الإسلام وقف الرسول صلى الله عليه وسلم لآل تميم الداري في فلسطين

بقلم د. تيسير التميمي

الحلقة الأولى : روايات الإنطاء النبوي الشريف : قال سبحانه وتعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 ، إن الكتابة عن أرض فلسطين المباركة وإبراز حق المسلمين الثابت فيها ونشره من أوجب الواجبات الدينية والوطنية ، فهي أرض وقف إسلامي لا يجوز التفريط أو التصرف فيها أو التنازل عنها لارتباطها بعقيدة الأمة ودينها وبالأخص مدينة القدس ، ومثلها مدينة الخليل التي هي جزء من عطية الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل سيدنا تميم بن أوس الداري وإخوانه رضي الله عنهم في السنة التاسعة من الهجرة النبوية ،

     ولتسليط الضوء على مكانة أرض فلسطين المباركة ، وحرصاً مني على تنبيه الأمة إلى خطورة هذه المرحلة عساها تنهض مجاهدة لتحرير فلسطين من نير الاحتلال ، فسأتناول في سلسلة من عدة حلقات هذا الإنطاء النبوي الشريف باعتباره أول إقطاع في الإسلام لا يحل لمسلم أن يسلبه من أصحابه فضلاً عن أعداء الله الظالمين ! وبوصفه نموذجاً لأرض فلسطين المقدسة التي أوقفها قادة الفتح الإسلامي وعلماء الأمة والصالحون تقرباً إلى ربهم سبحانه وتعالى واقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم .

     وأصل هذه الحلقات رسالة علمية أعددتها لنيل درجة الماجستير في الفقه والتشريع ، تتضمن الرسالة والحلقات عدة محاور من أبرزها : روايات الإنطاء النبوي الشريف وحكمه وموقف الحكومات المتعاقبة منه والمغتصبات الصهيونية التي أقيمت على أرضه ، التعريف بسيدنا تميم بن أوس الداري رضي الله عنه وإسلامه ومناقبه وجهاده ومرويّاته ، حقيقة الإقطاع وأنواعه وأحكامه وعلاقته بالوقف ، حقيقة الوقف وأحكام الولاية والنظارة والإدارة ودور القاضي الشرعي فيه ، التصرفات الشرعية والقانونية في الوقف ، تحديد أراضي وقف تميم في حبرون والمرطوم وبيت عينون ، المستحقون لوقف تميم (فروع عائلة التميمي)

     يُعَدُّ هذا الإقطاع من الخصائص النبوية ، فليس لأحد من الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع أحداً من الرعية شيئاً لم يدخل في ملك المسلمين ، وهو أيضاً من المعجزات النبوية وبشرى من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأرض المباركة ستؤول إلى المسلمين ، فما من ذرة من ترابها إلا أوقفت وقفاً إسلامياً صحيحاً من رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش (أَيْلَةَ) جنوباً . وتؤكد ذلك وثائق تسجيلها في المحاكم الشرعية في فلسطين وتشهد عليه .

     جاء إنطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لتميم بن أوس الداري وإخوانه وذريته الأرض الواردة في نص الإنطاء بروايات عديدة ، وورد بلفظ أنطى وأقطع وهما بمعنى واحد ، وهما من صور الوقف الصحيح ، وتواترت الأخبار في قصته وروى نصه عدد من المؤرخين والمحدثين ورواة السيرة النبوية ، وأثبته المؤلفون الأوائل في مصنفاتهم وعدد من مؤرخي القرون المتأخرة ممن جمعوا بين النقل والمشافهة والرحلة ، فاثبتوا نصه من مشاهداتهم حيث قصدوا مدينة الخليل والْتَقَوْا أعقاب تميم واطَّلعوا على ما في حوزتهم من الحُجج التي ثتبت حقوقهم فيه ،

     بلغتنا قصة الإنطاء النبوي الشريف بعدة روايات ذات قيمة علمية وتاريخية ، وتتقارب الروايات كلها في المضمون والشكل مع شيء من الاختلاف الذي لا يؤدي إلى التعارض ، وسأذكر نصوص بعضها حسب رواية أصحابها بغير ذكر أسانيدها تجنباً للإطالة على القراء الكرام ، ومن أراد التَّوَثُّقَ فيمكنه الرجوعُ إلى مصادرها :

1- رواية كتاب الخراج ص 132 : قال مؤلفه قاضي القضاة أبو يوسف رحمه الله { … فقام تميم بن أوس الداري فقال يا رسول الله إن لي جيرة من الروم بفلسطين لهم قرية يقال لها حبرون وأخرى يقال لها عينون ، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي ، فقال هما لك ، قال فاكتب لي بذلك كتاباً ، فكتب له : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري أن له قرية حبرون وبيت عينون قريتهما كلها وسهلها وجبلها وماءها وحرثها وأنباطها وبقرها ولعقبه من بعده ولا يُحاقُّه فيها أحد ولا يَلِجُها عليهم أحد بظلم ، فمن ظلم واحداً منهم شيئاً فأن عليه لعنة الله } فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه كتب لهم كتاباً نسخته [ بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من أبي بكر أمين رسول الله الذي استخلف في الأرض بعده ، كتب للداريين أن لا يفسد عليهم سندهم ولبدهم من قرية حبرون وعينون ، فمن كان يسمع ويطيع الله فلا يفسد منهما شيئاً، وليقم عمرو بن العاص عليهما وليمنعها من المفسدين ] .

2- رواية كتاب المواهب اللّدنّية : روى مؤلفه شهاب الدين القسطلاني عن أبي هند الداري قال { قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر ، فأسلمنا وسألنا رسول الله أن يقطعنا أرضاً من أرض الشام فقال : سلوا حيث شئتم ، فكتب لنا كتاباً نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أنطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه : أني أنطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطية بتٍّ ونفذتُ وسلمتُ ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم إلى أبد الأبد ، فمن آذاهم فيه آذاه الله . شهد أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان ، وكتبه علي وشهد } .

3- رواية كتاب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل : قال مؤلفه مجير الدين الحنبلي [ حكى المؤرخون لفظ الإقطاع على وجوه مختلفة ، رأيتُ عند التكلم عن الإقطاع المشار إليه في قطعة الأديم التي يقال أنها من خف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد صارت رثة وفيها بعض آثار الكتابة ، ورأيت ورقة مكتوبةً في الصندوق الذي فيه قطعة الأديم وقد نسب خط هذه الورقة إلى أمير المؤمنين المستنجد بالله العباسي كتب فيها نسخة الإقطاع ، وصورة ما كتبه المستنجد بخطه : الحمد لله ، هذه نسخة كتاب رسول الله الذي كتبه لتميم الداري وإخوته في سنة تسع من الهجرة بعد منصرفه من غزوة تبوك في قطعة أديم من خف أمير المؤمنين علي وبخطه رضي الله عنه وعن جميع الصحابة نسخته كهيئته { بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أنطى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم الداري وإخوته ، حبرون والمرطوم وبيت عينون وبيت إبراهيم وما فيهن نطية بتٍّ بينهم ، ونفذتُ وسلمتُ ذلك لهم ولأعقابهم ، فمن آذاهم آذاه الله ، فمن آذاهم لعنه الله . شهد عتيق بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ، وكتب علي بن أبي طالب وشهد }

4- رواية كتاب الأموال : نقل المؤلف أبو عبيد في لفظ هذه القصة بأن تميماً قال { يا رسول الله إن الله مظهرك على الأرض كلها ، فهب لي قريتي من بيت لحم ، فقال صلى الله عليه وسلم : هي لك ، وكتب له بها } فلما استخلف عمر فظهر على الشام جاءه تميم بالكتاب فقال عمر : أنا شاهد ذلك فأعطاه إياها وقال : ليس لك أن تبيع ، قال فهي في أيدي أهل بيته إلى اليوم .

5- رواية الطبقات الكبرى : في سياق روايته حضور الداريين أورد ابن سعد كلام تميم للرسول صلى الله عليه وسلم { لنا جيرة من الروم لهم قريتان يقال لإحداهما حبرى والأخرى بيت عينون ، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي قال : فهما لك } ثم ذكر ابن سعد أن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لتميم بن أوس الداري { هذا كتاب من محمد النبي لتميم بن أوس الداري أن عينوناً قريتها كلها سهلها وجبلها وماؤها وحرثها وكرومها وانباطها وثمرها له ولعقبه من بعده ، لا يحاقُّه فيها أحد ولا يدخله عليهم بظلم ، فمن أراد ظلمهم أو أَخذَه فإنه عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وكتب علي } .

6- رواية كتاب تهذيب التهذيب : أوردها الحافظ ابن حجر العسقلاني قصة الإقطاع في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة وفي كتابه تهذيب التهذيب وعلى الصفحة السابعة من رسالته البناء الجليل بحكم مدينة الخليل حيث خرَّج فيها رواية الإقطاع والدعاء الذي في آخره { فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } .

7- التراتيب الإدارية :  قال مؤلف الكتاب محمد عبد الحي الكتاني تعقيباً على كتب ورسائل الرسول صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الآفاق [ آخر مكتوب نبوي حفظ التأريخ عينه لنا من كتبه (عليه السلام) لأهل الإسلام وتحافظهم عليه . . . الكتاب الذي أقطع به تميم الداري أرضاً بالشام ، وهو مكتوب مشهور معروف في العصور السابقة ؛ تكلم عليه أهل الحديث والتأريخ والفقه وغيرهم ]

     وروى عدد كبير من الرواة هذا الإنطاء وقصته ، منهم على سبيل المثال :

* ورد في فتوى الشيخ بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية عن سماعة { أن تميماً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطعه قريات بالشام بيت عينون وفلانة والموضع الذي فيه قبر إبراهيم  واسحق ويعقوب ، قال وكان بها ركحة (أي ناحية) طيبة ، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إذا صليتُ فسلني ذلك ففعل ، فأقطعهن إياه بما فيهن } فلما كان زمن عمر وفتح الله الشام أمضى ذلك لهم ، فقال أهل المدينة ما الذي اشتراه الداريون ؟ فقال بجميع أركاحها أي بجميع نواحيها .

* وعن حميد بن زنجوة عن راشد بن سعد وذكر فيه { هذا كتاب محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري أن له حبرى وبيت عينون قريتها كلها ، سهلها وجبلها وماؤها وحرثها وأنباطها وثمرها ولعقبه من بعده لا يحاقّقّهم فيها أحد ولا يَلِجُها عليهم أحد بظلم ، فمن ظلمهم أو أخذ منهم شيئاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . وكتب علي }

* وأورد أبو الحسن الماوردي حكاية الإقطاع على سبيل الاختصار في كتابه الأحكام السلطانية ص 169 .

* وورد في كتاب صبح الأعشى بعد تعريف الإقطاعات [ وأما أصلها في الشرع فما رواه الحافظ بن عساكر في تاريخ دمشق يسنده إلى ابن سيرين عن تميم الداري أنه قال { استقطعتُ رسول الله فأقطعني أرضاً من كذا إلى كذا … ]  .

* وروى العمري في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار أنه رأى كتاب الإقطاع النبوي الشريف رؤيةً مزيلةً للشك ، ووصفه بأنه في قطعة سوداء من مَلْحَمِ قطنٍ وحريرٍ من كُمِّ المستضيء بالله أمير المؤمنين ، وبطانتها من كتَّان أبيض على تقدير كل إصبع منه ميلان أسودان مشقوقان بميل أبيض ، جُعِلَ ضمن أكياس يضمها صندوق من أبنوس ملفوف بقطعة من حرير ، أما الكتاب الشريف ذاته فهو من خف من أدمٍ أظنها من ظهر القدم ، وموَّهَ سواد الجلد على الخط لكن لم يذهبه ولم يُخْفِ كتابته ومعه ورقة كتبها الخليفة المستضيء بالله [ نسخة كتاب رسول الله الذي كتبه لتميم الداري وإخوته سنة تسع للهجرة بعد منصرفه من غزوة تبوك في قطعة من خف أمير المؤمنين عليّ وبخطه ] .

     تتقارب روايات الإنطاء في المضمون ، والاختلاف بينها بسيط ، فجميعها تثبت قدراً مشتركاً هو حصول الإنطاء النبوي لتميم ، قال صاحب الأنس الجليل لما ذكر نص النسخة التي نقلها المستنجد بالله عن نسخة الرسول صلى الله عليه وسلم ( ولعل هذا أصح ما قيل فيه ) لأنه رأى بأم عينه موافقة هذه النسخة لما في يد الداريين في بلد الخليل ، فاعتبره أقوى مستند لأنه يثبت أن التعامل جرى على ذلك منذ عهد الفتح إلى اليوم الذي رأى فيه الوثيقة ، وظل مطابقاً لما في الوثيقة على مدى الأجيال التي مرت حتى سنة تسعمائة للهجرة .

     وبذلك يتضح ما أجمع عليه المسلمون على مر العصور من ثبوت الإقطاع للداريين بالتواتر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده وسائر الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والحكام ، وجرى على ذلك التعامل الواقعي والقانوني مع هذا الإقطاع واختصاص الداريين به إلى يومنا هذا ، واستقر عند المسلمين أنه من خصائص النبوة ومن المعجزات التي أوتيها صلى الله عليه وسلم فتحققت ، فقد أفتى ابن حجر العسقلاني بأن [ على المسلم أن يعتقد جازماً لا يعتريه شك بالإنطاء النبوي للداريين ] ، تماماً كما آمن الصحابة بوعده سراقة بن مالك بسوارَيْ كسرى وهو في طريقه إلى المدينة المنورة مهاجراً ، فنفّذوا هذا الوعد النبوي وألبسوه إياهما لما فتح الله عليهم بلاد فارس في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه .

     وفي حلقة الأسبوع القادم بإذن الله سأتناول حياة سيدنا تميم الداري رضي الله عنه ونسبه وإسلامه ومناقبه

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى