الظاهرة الشحرورية في التاريخ والمنطلقات والمآلات
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
نادى مناد على رؤوس الناس يقول: أدركوا الناس، ستهلك الأمة، تلاعبوا بكتاب الله، وضاعت السنة، وأهانوا الشريعة…!!
فقيل له: على هونك، ما الخطب؟!
قال: ظهر لنا على رؤس الأشهاد وفي كل وسائل التواصل وفي التلفاز دكتور في هندسة التربة يدعى محمد شحرور…!
فقلنا: وماذا عساه أن يقول؟ فليقل في التربة وما جاورها ما شاء !!
فقال: ليس كلامه في التربة، في القرآن والدين والشريعة!!
يدَّعي أنه يفسر القرآن بطريقة حديثة وعصرية، ويعيد فهم الثوابت والأصول بآليات جديدة لا عهد للمسلين بها..
ويزعم أن الميراث في القرآن للذكر مثل الأنثى سواء بسواء..
وأن الصحابة ومن بعدهم حتى يومنا هذا لم يفهموا الآية بل الآيات على الوجه الصحيح!!
وأن الزكاة والصيام والجهاد غير متفق مع الفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية!!
فالشعائر الإسلامية مضادة للفطرة الإنسانية!!
وأنه لا يمكن أن نفهم أي نص لغوي إلا على نحو يقتضيه العقل فقط!!
وأن النساء التي أفردت لهنّ سورة في القرآن ليس المقصود بها المرأة والأنثى وإنما ما استجدَّ من الأشياء!!
وأن الفجر الوارد في سورة الفجر هو الانفجار الكوني!!
وأن الله تعالى لا يعلم تفاصيل الأشياء وخفاياها، وإنما علمه علمٌ عامٌّ كلّيٌّ شمولي!! أو رياضي بحت!! كما يحلو له أن يعبِّر.
وأن حد السرقة هو كفّ يده عن المجتمع بسجنه!!
وأن الإنسان تطوّر عبر مراحل كثيرة حتى وصل إلى قالبه الحالي!!
وأن العورة هو ما استتر خِلقة، أي: ما كان بين العورة!! فلا تحتاج المرأة للبس شيء حتى تستر نفسها فضلًا عن العباءة، فضلًا عن غطاء الرأس، فضلًا عن غطاء الوجه!!
ولا زال يقول ويقول من أمثال هذه الضلالات التي لا يحتاج العاقل معها إلا إلى وضع علامات التعجب فحسب.
قل لي بربك: ماذا لو ادعى أحد أن الجاذبية التي اكتشفها نيوتن يقصد بها الانجذاب العاطفي الذي يحصل بين الفتاة والفتى، لا ما يذكره الفيزيائيون المتخصصون!!
أو نحتاج في الردّ على هذه التفاهات إلى أكثر من وضع علامات التعجب؟!
الحقيقة أن تتبع ضلالات هذا الرجل ولا شك تُدخل الإنسان في دوامة لا مخرجَ منها، ووحل نتن الماء خبيث الطينة، وتُغرقه في خبائث تأويلاته الباطنية بما لا يستطيع الخلاص منه.
ولا ندري مَن هذا العاقل الذي يأخذ دينه ويعير عقله ويفهم لغة القرآن من رجل لا يُحسن التحدث باللغة القرآنية!! وكثيرًا ما يخطئ في قراءته للقرآن ويتعتع فيه!!
والحمد لله ونحن في القرن الخامس عشر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ما زال دين الله محفوظًا، فكتابه محفوظ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم محفوظة، وكلام العلماء فيهما منقول، سواء في الأحكام أو الأخبار، وسواء في المسائل أو الدلائل، وصدق الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
فإن قلت: ليس هذا موضوع حديثنا، فأقول لك: بل هو هو.
إن أول شيءٍ يرد بخاطر الإنسان السويّ حين يسمع هرطقات هذا الرجل هم قوم ابتليت بهم الأمة على مدى قرونها المنصرمة أطلق عليهم: الدجاجلة، فهذا النوع من تلاعب الجهلة بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم قد مر على تاريخ الأمة منه نماذج وصور، ولنا فيها مواعظ وعبر، ودعني أستعرض لك شيئا من ذلك التاريخ الشحروري؛ فإن الاعتبار بالمنطلقات والمآلات منهج قرآني نبويّ.
و هذه المقالة سنترك الحديث للتاريخ دون أن نستأثر بالكلام فيه، فلننظر إلى التاريخ المعاصر أو القريب، هل كان فيه من أوصى باستحداث أمثال شحرور من النماذج وتغذيتها وإحيائها؛ ليتجلَّى لنا الشقُّ الأول من البحث.
نعم، يعلم الباحثون أن هناك من أكَّد على ضرورة زعزعة ثوابت الإسلام وقواطع أدلَّته والشك في صحة فهم الصحابة وحجيته والتشكيك في موثوقية علماء الإسلام.
يقول المستشرق (جون تاكلي): “يجب أن يستخدم كتابهم -وهو أمضى سلاح في الإسلام- ضد الإسلام نفسه؛ لنقضي عليه تماما. يجب أن نري هؤلاء الناس أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا”([1]).
ويقول المبشر الأمريكي (جب): “إن الإسلام مبنيّ على الأحاديث أكثر مما هو مبني على القرآن الكريم، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة لم يبق من الإسلام شيء، وصار شبه صبيرة طومسون، وطومسون هذا رجل أمريكي، جاء إلى لبنان فقدمت له صبيرة فحاول أن ينقيها من البذر، فلما نقى منها كل بذرها لم يبق في يده منها شيء”([2]).
ويقول (بنروز): “إن المبشِّرين يمكن أن يكونوا قد خابوا في هدفهم المباشر، وهو تنصير المسلمين جماعات جماعات، إلا أنهم قد أحدثوا بينهم آثار نهضة” إلى أن قال: “ولقد برهن التعليم على أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجؤوا إليها في سعيهم لتنصير سورية ولبنان”([3]).
أظن أن عقلك قد ارتوى وقناعتك قد عرفت ما قصدت، ولكني سأزيدك بالذي دفع المستشرقين أنفسهم إلى تبنِّي أمثال هذه المشاريع.
لقد باء المشروع التبشيري التنصيري بالفشل، وتناثرت جهودهم أدراج الرياح، وهو ما يعترفون به رغمًا عن أنوفهم، فقد اعترفوا بأن التبشير الرسمي واكتساب المسلمين إلى صفوف النصرانية قد خاب.
ومن أجل ذلك قنع هؤلاء المبشرون أن يكون عملهم “الإنساني” قاصرًا على زعزعة عقيدة المسلمين والتشكيك في الثوابت والقواطع الشرعية([4])؛ ولذا اندفع المستشرقون إلى هذا المنحى، وكان أول مستشرق قام بمحاولة التشكيك في السنة ومسائلها هو اليهودي (جولد تسيهر) الذي يعده المستشرقون أستاذهم في السنة، يقول عنه (بفانموللر): “وبالأحرى كان (جولد تسيهر) يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني، فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول: عهد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام”([5]).
وبعدها توالت توصيات أعداء الإسلام على ضرورة إظهار هؤلاء على أنهم هم الإسلام الصحيح، وأهمية إتاحة المنابر لهم.
والعجب كل العجب أنَّ من يتزعَّم اللبراليَّة أو التنويرية والعقلنة اليوم لم يخرجوا عن هذا النصّ، وإنما كان شغلهم الشاغل شرحه، ثمّ تفصيله، ثم وضع الحواشي له، ثم اختصاره فحسب!! وإن شئت فاعتبر قولهم وقارنه بقول هؤلاء، فلا أدلَّ على استقائهم من لعاعة أفكارهم من أن أدعياء بني جلدتنا كثيرًا ما يباركون المشروع الاعتزالي، وهو ما أرضعهم إياه معلِّموهم، فقد بارك (جولد تسيهر) المشروع الاعتزالي كذلك، ولكن فيم كانت المباركة تلك؟!
إنه يرى أن وجهتهم في رد الأحاديث بالعقل هي الوجهة الصحيحة التي يجب أن تناصَر وتؤيَّد ضد المتشدّدين الحرفيّين الجامدين على النصوص([6]).
بالله عليك أيها القارئ الكريم، أليس هذا بنصه هو ما نسمعه من هؤلاء الأدعياء أمثال شحرور ومن معه؟! أبَعدَ هذا يحتاج العقل إلى بيان؟!
ولكن دعنا هنا نأخذ إطلالة على المعتزلة، وكيف كانوا مع الثوابت ومع النصوص القرآنية؛ ليظهر شيئًا مما يقصدون.
كان الإمام عبد العزيز الكناني في حوار مع بشر المريسي وهو من أوائل من تبنَّى الاعتزال والقول بخلق القرآن، فلما عرض عليه الكناني كلام الله وكلام رسوله وأقوال السلف في المسألة ذهب يقول: “يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، إنه يحب أن يخطب ويهذي بما لا أعقله، ولا أسمعه، ولا ألتفت إليه، ولا أتى بحجة، ولا أقبل من هذا شيئًا”.
فاستنكر عليه الإمام الكناني -رحمه الله تعالى- ادِّعاءه العلم مع عدم علمه بقول الله وقول رسوله وبفهم السَّلف والعلماء رضوان الله عليهم، فقال رحمه الله تعالى: “فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، من لا يعقل عن الله ما خاطب به نبيه صلى الله عليه وسلم، وما علمه لعباده المؤمنين في كتابه، ولا يعلم ما أراد الله بكلامه وقوله، يدَّعي العلم، ويحتج بالمقالات والمذاهب، ويدعو الناس إلى البدع والضلالات؟!”.
ولكن المبتدع تمادى في غيِّه، وادَّعى أنه يفهم النُّصوص كفهم الإمام الكناني رحمه الله تعالى فقال: “أنا وأنت في هذا سواء، أنت تنتزع بآيات من القرآن لا تعلم تفسيرها ولا تأويلها، وأنا أرد ذلك وأدفعه، حتى تأتي بشيء أفهمه وأعقله”.
فجلّى الإمام له الفرقان بين من فهم القرآن والسنة بفهم السلف وبين من لم يفهم، وقال: “يا أمير المؤمنين، قد سمعت كلام بشر وتسويته فيما بيني وبينه، ولقد فرق الله فيما بيني وبينه، وأخبر أنا على غير السواء.
قال [أمير المؤمنين]: وأين ذلك لك من كتاب الله عز وجل؟
قلت: قال الله عز وجل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد: 19]، فأنا والله -يا أمير المؤمنين- أعلم أن الذي أُنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأومن به، وبشرٌ يشهد على نفسه أنه لا يعلم ذلك ولا يعقله ولا يقبله، ولا هو مما يقوم لي به عليه حجة، فلم يقل كما قال الله عز وجل، ولا كما علَّم نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقوله، ولا كما قال موسى عليه السلام، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال المؤمنون، ولا كما قال أهل الكتاب، ولقد أخبر الله عز وجل عن جهله، وأزال عنه التذكرة، وأخرجه عن جملة أولى الألباب”([7]).
وجاء دورك هنا -أيها القارئ الفطن- لتنظر في حال هذا المبتدع وحال أدعياء التنوير والتحرّر اليوم، لتقارن وتقايس: هل اختلف الحال عن مراد أعداء الإسلام؟! فإن لم يختلف، فالمراد هو المراد، والمآل هو المآل.
ثم تفكَّر -أخي القارئ- في حال أولئك، مَن منهم نصره الله ورفع قدره؟! ومن منهم أذلَّه الله ودحض فكره؟! أوَكان المعرضون عن كتاب الله وسنة نبيِّه وفهم صحابته والسلف هم المنتصرون؟! تفكَّر في هذا واعتبر، واختر لنفسك ما تشاء.
واسأل نفسك: أين هم أولئك المتلاعبون المعرضون عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة والسلف؟! وأين فكرهم وأثرهم ودينهم الذي اخترعوه؟! لقد مرَّ على تاريخ الأمة الإسلامية زنادقة ودجاجلة من أمثال دجاجلة هذا العصر ممن يتقوَّل على الله بلا علم، ويطلق العنان لفكره ورأيه أن يتكلم في القرآن بما يهوى!!
فهذا مسيلمة الكذَّاب ادعى بأنه مرسل من عند الله تعالى، وزعم أنه يعرف الوحي وتصله ألفاظه ومعانيه، كما يوحى إلى النبي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
فماذا كانت النهاية؟! وماذا كان الدافع؟!
فأما الدافع فيظهر من طلبه هو وقومه أن يجعل الأمر لهم من بعده، فما هو إلا الحقد على دين الإسلام، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن رفض وقال له: “لو سألتني هذا القضيب -وكان بيده- ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت”([8]).
وما كانت له حيلة لدعواه تلك إلا دعوى فهم قول النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته، وتأويله تأويلًا يتفق وهواه، حيث قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس بشركم مكانًا يحفظ ضيعة أصحابه”، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: عرف أن الأمر إليَّ من بعده!! فلما عادوا إلى ديارهم ادَّعى النبوة([9]).
ولكن ماذا كانت النتيجة؟!
لقد عرفت العرب والعجم والعالم أجمع أنه مسيلمة (الكذاب)، فما يكاد يذكر اسمه إلا والكذب رديفه!! والخزي والعار أنيسه!! أليس في هذا عبرة لمعتبر؟!
بل وزاد الأمر سوءًا أنه أضحك البشرية بوحيه الذي أوحاه إليه شيطانه، وما زال الصغار والكبار يتضاحكون على قرآنه الذي افتراه، وحُق لنا أن نتفكَّه قليلًا ونضحك أيضًا بما يهذي، فمنه: “يا ضفدع بنت الضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطين”، ومنه: “يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر”.
ولقد سأل عمرَو بن العاص عن رأيه في وحيه هذا، فقال عمرو: (والله، إنك لتعلم أني أعلم إنك لتكذب)([10]).
قد تقول لك نفسك بأن هذا كافر معترف بكفره، ولكني أوردته لتشابه منطلقاته ومآلاته مع من نتحدث عنه.
إن مآلات الملاحدة وإخوانهم منذ العصر الأول وخيمة ونهاياتهم أليمة، فأحيانًا يهلكهم الله بعذاب من عنده، وأحيانًا يحجم شرَّهم بأيدي المؤمنين، وتارة يستدرجهم حتى يعذِّبهم العذاب الأليم.
لم تكد تجفّ مآقي الصحابة من دموع حزنهم على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى فزعت قلوبهم من بليَّة أمثال هؤلاء المنسلخين، فقوم ارتدُّوا صراحة عن دين الله، وقوم تبعوا مسيلمة الكذاب هذا، وقومٌ صوَّبوا سهام تأويلهم نحو ركن من أركان الإسلام، فامتنعوا عن أداء الزكاة، وتأوَّلوا نصوصها، واستدلوا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]؛ مدَّعين أن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم خاصَّة دون غيره بأخذ الزكاة! و”ردُّوا على الله قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وردُّوا على جميع الصحابة الذين شهدوا التنزيل وعرفوا التأويل في قوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]”([11]).
فدحض الله تعالى شرّ هؤلاء على يد أبي بكر رضي الله عنه، ولم يعد لهم ذكر في التاريخ إلا هذه الذكرى السيئة القبيحة.
ومثلهم حال من كان يتتبَّع المتشابهات من النصوص في زمن عمر، فجلده ونفاه رضي الله عنه، قال عمر رضي الله عنه: (سيكون أقوام يجادلونكم بمتشابه القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى)([12]).
وكذلك الزنديق عبد الله بن سبأ، فتن المسلمين بأفعاله وأقواله، وقامت معه الغوغاء، وألَّهوا عليًّا([13])، فماذا كانت النتيجة؟! وما حال أتباعه؟! أبادهم الله على يد عليِّ بن أبي طالب، وما زال الخزي والعار يلحقهم كلما قرأنا تاريخهم.
وذاك معبد الجهني وتلميذه الدمشقي غيلان، أعرضا عن فهم الصحابة، وادَّعيا الاستقلال بفهم النصوص، وعظَّما نصوص الثواب والجزاء دون النَّظر إلى النصوص المثبتة لشمول قدرة الله وعموم قضائه على كلّ أحد، ولما امتحن الإمام عمر بن عبد العزيز غيلان الدمشقي جعل يستدل بقول الله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 1-3]، فقال له عمر: اقرأ آخر السورة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 30، 31]، فأظهر التوبة، ولما مات عمر بن عبد العزيز عاد إلى ما كان عليه([14]).
ولكن كيف كانت نهايتهما؟! وحالهما عند المسلمين؟!
لقد فتنا المسلمين بفكرهم ذلك، وضلت شرذمة منهم بضلالاته، ولكنهما بقيا ممجوجين ممقوتين عند عامَّة أهل الإسلام، يقول الإمام العكبري: حدثنا ابن عون قال: “أدركت البصرة وما بها أحد يقول هذا القول إلا رجلان ما لهما ثالث: معبد الجهني، وسيسويه، قال ابن عون: وكان محقورا ذليلا، وهذه القدرية والمعتزلة كذبوا على الحسن ونحلوه ما لم يكن من قوله، قد قاعدنا الحسن وسمعنا مقالته، ولو علمنا أن أمرهم يصير إلى هذا لواثبناهم عند الحسن رحمه الله، وليكوننَّ لأمرهم هذا غب، وإني لأظن عامة من أهل البصرة إنما يصرف عنهم النصر لما فيهم من القدرية”([15]).
ولا ننسى أن هذين هما قطبا المعتزلة، التي يضفي عليها شحرور مسحة العقلانية والفكر.
والمشهد ذاته يتكرر مع الجعد والجهم أصل المذهب الجهمي المعروف، والذي أعرض عما في نصوص الوحي وعمَّا فهمه الصحابة، ولوَّث فكره بالأفكار الدخيلة، ورد ما أخبر الله به في القرآن من أن الله كلم موسى تكليمًا واتخذ إبراهيم خليلًا، ونفى عن الله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه، وتبنَّى القول بالجبر، وانتهى أمره بنقمة المسلمين عليه، واستحسانهم عقابه على ما افترى، وردعه عمَّا ابتدع([16]).
ومن هؤلاء مَن غلا وأبعد حتى ادَّعى الألوهية سواء لنفسه أو لمن كان مثله من البشر؛ كأبي الخطاب الأسدي رأس الخطابية([17]).
فأين هؤلاء الدجاجلة اليوم؟! وأين أتباعهم والمفتونون بهم؟!
أين عبد الكريم بن أبي العوجاء وضلالاته وموضوعاته([18])؟! وأين داود بن روح بن حاتم، وإسماعيل بن سليمان بن مجالد، ومحمد بن طيفور([19])؟!
بل أين الزنادقة من أبناء الوزراء والكبراء والوجهاء كعبد الله بن أبي عبيد الله الوزير([20])؟! وأين الزنديق ابن داود بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي رضي الله عن ابن عباس وأبيه؟! وأين يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس الحارثي الهاشمي([21])؟!
وأين الثقفي الذي ظهر في مصر، والرويس الذي ظهر بدمشق، والكردي وابن الهيثمي وتوما الراهب وإبراهيم المقصاتي وعثمان الدقاق؟!
ومن الشَّحارير في العهد العثماني: لطفي التوقاني والقابض العجمي وحمزة البوسني.
لقد ذهب كل هؤلاء، وبقي دين الله محفوظًا بحفظ الله، ذهب كل هؤلاء وبقي كتاب الله شامخًا مرفوعًا برعاية الله، درست أفكارهم وزندقاتهم، وبقيت السنة النبوية المطهَّرة محفوظة على ما فهمه صفوة الخلق وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
وقبل الختام أنبه إلى أن محمد شحرور وإن كان يبارك الاعتزال ويحاول أن يستتر بغطائه، إلا أنه لو عاش بين المعتزلة لاستعاذوا بالله منه وأعلنوا البراءة من أقواله، ولحكموا بضلاله وانحرافه؛ ذلك أنه وإن كان يتظاهر بالاعتزال إلا أنه ينتهج الفكر الباطني في أطروحاته وتفسيراته، ويتعامل مع الوحي كما تعامل الباطنية.
ولكي يبرز لك الفكر الباطني دعني –أخي القارئ- أستعرض لك هنا شيئًا من تعامل الباطنية مع الوحي؛ تتضح لك الحقيقة:
فالباطنية لم يسلم من تأويلهم أصول الدين ولا فروعه كما هو الحال مع شحرور تمامًا، فالجنة عندهم هي نعيم الدنيا!! والعذاب الوارد في الوحي هو ما يكدُّ فيه أصحاب الشرائع من الصلاة والحج والجهاد!! والعالم قديم، والرسل مجرد دهاة مكَّارون مخادعون للشعوب طلبًا للرئاسة!! والملائكة هم الدعاة إلى بدعتهم!! والشياطين هم من خالفهم!! والصلاة هي موالاة إمامهم!! والحج زيارته وإدمان خدمته!! والصوم الإمساك عن إفشاء سره دون الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات!! ومن عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها!! وتأوّلوا في ذلك قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]([22]).
وإن أردت العجب فاسمع ما جاء في إحدى رسائلهم الشهيرة: “وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدَّعي العقل ثم يكون له أخت أو بنت حسناء وليست له زوجة في حسنها، فيحرّمها على نفسه ويُنكِحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحقّ بأخته وبنته من الأجنبيّ، ما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرَّم عليهم الطيبات، وخوَّفهم بغائب لا يعقل، وهو الإله الذى يزعمونه، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلا”([23]).
إن الطَّرق على بوابة الشهوة والغريزة الجنسية والدّقّ في مسائلها هو ديدن المنسلخين عن الدين وهِجّيراهم في كل زمان، فبعضهم اكتفى باستباحة الزنى، ومنهم من استباح نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات بنات الأخوة وبنات بني الأخوة بدعوى أن الله حرم البنات وبنات الأخوة وبنات الأخوات فقط([24])!! ومنهم من استباح المحارم عامّة واعتلّوا بقول الله عز وجل: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى: 50]([25])!!
بل إن منهم من زعم أن اللواط أفضل من نكاح النساء!! واعتلوا بأنه أسلم من الحَبَل والولادة ومَؤُونة النكاح والشكوى إلى القاضي وفرض النفقة والحبس على الحقوق، وربما اعتلّوا بأن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان؛ لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحلّ الآخر بحكم الطبيعة([26])، نعوذ بالله من الخبث والخبائث.
إذن الطّرق على بوابة الشهوة والدّقُّ في مسائل الجنس والغرائز هو ديدن المنسلخين عن الدين وهجّيراهم في كل زمان، والآن إن شئت فانظر في أطروحات محمد شحرور تجدها امتلأت غيظًا من الحجاب وتحريم الفواحش.
وكذلك باب الحدود -سواء حد السرقة أو غيره- كانت محلّ تشكيك منهم ودجل من منذ الزمن الأول، وما قصة المعرِّي عنا ببعيد، والذي قال فيه أبياته:
تناقض ما لنا إلا السكوت له … وأن نعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجد فديت … ما بالها قطعت في ربع دينار؟!
فرد عليه أهل العلم والفضل بقولهم:
يد بخمس مئين عسجد وديت … لكنها قطعت في ربع دينار
حماية الدم أغلاها وأرخصها … خيانة المال فانظر حكمة الباري([27])
ودائمًا ما تجد هؤلاء يشوِّهون صورة أهل السنة بوصمهم بأبشع الصفات، يقول الإسفراييني عن الباطنية: “وكما أن الباطنية احتالوا في أصول الدين احتالوا في اختداع أتباعهم واستمالة قلوبهم، فأباحوا لهم جملة اللذات والشهوات، وأباحوا لهم نكاح البنات… وقالوا: إن الشياطين هم الذين لا يكونون على مذهبهم من المسلمين من علماء أصحاب الحديث والرأي، وكانوا يسمّون موافقيهم على بدعهم: المؤمنين، ومخالفيهم: الحمير والظاهرية”([28]).
ويا سبحان الله! لم يخرج أدعياء العقلنة والتنوير عمَّا وصمت به الباطنية أهل السنة وأهل الحديث، بل هي هي ذات السبَّة في كل زمن، ينسبون إليهم البلادة والتخلف والجمود والحرفية والظاهرية!! ويستأثرون باسم العقل والعقلانية والفكر والفهم والعبقرية!!
ولا أدري بأي عقل يفكر محمد شحرور بحيث يقوده إلى رأينا ورأى الناس من سامج الفكر وساقط القول!! فلم يسبقه سابق عليها لا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن الصحابة، ولا في زمن تابعيهم ولا أتباعهم، ولا في كل القرون السابقة حتى جاءنا محمد شحرور بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان ليفهم الوحي أو القرآن على وجهه الصحيح!!
لعله يخيَّل إليه أن الأخبار الإلهية والتشريعات الربانية مثلها مثل النظريات الهندسية والافتراضات الرياضية، تنقض اليوم ما بنته بالأمس، ويبطل في الحاضر ما كان حقًّا في الماضي، فهل الوحي الإلهي كالافتراضات الرياضية والهندسة البشرية؟! هيهات هيهات.
وبعد أن استعرضنا تاريخ الظاهرة الشحرورية، ورأينا منطلقاتهم ومآلاتهم، هنا يتفقد العاقل تلك الأساليب والصفات، ويقارنها ويقايسها بأساليب وصفات الدجاجلة المعاصرين، ويحكِّم عقله؛ ليعلم المفسد من المصلح، ويعلم حال أتباعهم والمنصتين لهم، وليتبين له الحق، فإن الحق واضح أبلج والباطل لجلج.
لقد كان الدجاجلة معظَّمين في نفوس أتباعهم، واعتبروهم مجدِّدين ومفكّرين، ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح وبقي دين الله محفوظًا، {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: التبشير والاستعمار د. مصطفى خالد ود. عمر فروخ (ص: 40).
([2]) المصدر نفسه (ص: 40).
([3]) لمصدر نفسه (ص: 45).
([4]) ينظر: لمصدر نفسه (ص: 46) بتصرف يسير.
([5]) ينظر: كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها عماد السيد محمد الشربيني (ص: 125، بترقيم الشاملة آليا).
([6]) ينظر: كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها عماد السيد محمد الشربيني (ص: 125، بترقيم الشاملة آليا).
([7]) الحيدة والاعتذار للكناني (ص: 42).
([8]) صحيح البخاري (4378).
([9]) ينظر: تاريخ الطبري (3/ 138)، البداية والنهاية، ط. هجر (7/ 255).
([10]) ينظر: البداية والنهاية، ط. هجر (9/ 473).
([11]) الاستذكار لابن عبد البر (3/ 214).
([12]) الشريعة للآجري (1/ 483)، الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 609).
([13]) الشريعة للآجري (5/ 2520)، التنبيه والرد للملطي (ص: 18).
([14]) الإبانة الكبرى لابن بطة (4/ 236).
([15]) الإبانة الكبرى لابن بطة (4/ 299)، وينظر: سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة (4/ 187).
([16]) ينظر: الرد على الجهمية للدارمي (ص: 21)، الشريعة للآجري (3/ 1122).
([17]) ينظر: الملل والنحل (1/ 179).
([18]) ينظر: الفرق بين الفرق (ص: 255).
([19]) ينظر: تاريخ الطبري (8/ 163).
([20]) ينظر: تاريخ الطبري (8/ 163).
([21]) ينظر: تاريخ الطبري (8/ 190).
([22]) ينظر: الفرق بين الفرق (ص: 278وما بعدها)، والإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير (ص: 501).
([23]) ينظر: الفرق بين الفرق (ص: 281).
([24]) ينظر: مقالات الإسلاميين، ت. ريتر (ص: 95).
([25]) ينظر: فرق الشيعة، للنوبختي (ص: 84).
([26]) ينظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 869).
([27]) ينظر: البداية والنهاية، ط. هجر (15/ 746).
([28]) التبصير في الدين، للإسفراييني (ص: 142).
(المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات)