مقالاتمقالات مختارة

أوتاد الأرض .. بقلم د. جمال عبد الستار

بقلم أ. د. جمال عبد الستار

علماءُ الأُمةِ أوتادُ الأرضِ وضَمانُ نَجَاحِها وفَلَاحِها، فلم تمر بالأُمَّةِ نَكْبَةٌ إلا وقد كان لِفُضَلاءِ العلماءِ الدَّوْرُ الأَبْرَزُ في جَلائِها، والسَّهْمُ الأنْفَذُ في قِيادَةِ الأُمةِ للخُروجِ مِنها، بل لا أعلمُ نَجاحاً للأمةِ لم يَكنْ للعلماءِ في رِيَادَتِهِ حظٌ، ولا انْتِصَاراً لم يكنْ للعلماء فيه سهم، فلا يُذكرُ انتصارُ قُطُز إلا بالعِزِّ بنِ عبدِ السَّلام، ولا انتصارُ صلاحِ الدِّينِ إلا بالقَاضِي عبدِ الرحيمِ بنِ علي (البَيْسانيّ) الذي قال عنه صلاحُ الدين: “لا تظنوا أنِّي فَتحتُ البِلادَ بالسُيوف، إنَّما فَتَحتُها بِقَلمِ القَاضِي الفاضل”، ولا يُذكرُ تَحْرِيرُ الجَزائرِ بِدُونِ العَلَّامَةِ ابنِ بَادِيس، ولا تحريرُ ليبيا بِدُونِ عُمرَ المُختار، ولا نجاحُ المُقاومةِ الفلسطينيةِ بِدون الشَّيْخِ عِزِّ الدينِ القَسَّام، والشيخِ أحمد يس…إلخ هذه المسيرة المباركة.

وأَخْطرُ ما نجحَ الأعداءُ في تَحْقِيقِهِ خِلالَ هذه الفترةِ العَصِيْبَةِ التي نَحْيَاهَا، أنَّهم تَمَكَّنُوا مِن إسْقاطِ المَرْجِعِيَّةِ السُّنِّيةِ مِن نُفُوسِ النَّاس، سَواءً على مُستوى كَثِيرٍ مِن الرُّمُوزِ الدِّينيةِ التي تَمَّ شِرَاؤُها أوإِسْكَاتُها، أو تَوْريطُها في مَواقفَ أَسْقَطَتْهَا مِن عُيونِ النَّاس، نَاهِيكَ عن تِلكَ المُسُوخِ المَصْنُوعَةِ في أَرْوِقَةِ الأنْظِمَةِ ومُؤَسَّسَاتِها الأمْنِيَّةِ والمُخَابَرَاتية، أو على مُستوى المُؤسساتِ التي سَقَطتْ أيضاً في اخْتِبَارِ الثقةِ فَصَارتْ أُضْحُوكَةٌ يَتَنَدَّرُ بِها العَامة، وَحَانَاتٍ تُفَصَّلُ الفَتَاوى الشَّرعِيةُ فيها على كل المَقَاسات، ولكل المُنَاسبات، وبِشَتَى الأسعارِ والأَثْمَان!!!

ومِن هُنا فَطَريقُ الفَلَاحِ يَتَبَلْوَرُ في مَسَارَيْن:

المَسَارُ الأول: أن يَتَنَادَى العلماءُ الرَّبَّانِيُّونَ للعملِ على إِخْراجِ الأُمةِ مِن أَزْمَتِهَا، والنُّهُوضِ بِها مِن كَبْوَتِهَا، خَاصةً وقد سَقَطَتْ شَرْعِيَّةُ كَثِيرٍ مِن الأنظمة، وأَضْحَت الأمةُ جَسَداً لا رَأْسَ له، ورَعِيَّةً لا رَاعِيَ لها، وحُشُوداً لا مَشْروعَ لها، وطَاقةً لا مُسْتَثْمِرَ لها، فَيَتقدمُوا الصُّفُوفَ دُونَ تَرَدُّدٍ، ويُعْلِنُوا عن أنفسِهم قِيَاماً بِالوَاجِبِ دُونَ تَلَكُّؤٍ، انطلاقاً مِن المِيْثَاقِ الذي أَخَذَهُ اللهُ عليهم، ومِن الوِلَايَةِ التي جَعَلَهَا اللهُ لهم، ولا أعني بِذلكَ وِلَايَةً فِقْهِيَّةً على الخُصُوص، وإنَّما وِلَايَةً شَرْعِيَّةً تَجْمَعُ النَّاسَ على الحقِ جَمْعاً، وتَسُوقُ النَّاسَ إليه سَوْقَاً، وتَدْفَعُ الرِّجَالَ إليه دَفْعَاً، وتَأْطُرُ الظَالِمينَ عليه أَطْرَاً، وتُوَحِّدُ الصُّفوفَ تحت رَايةِ الإسلامِ العظيم، ومَنْهَجِهِ القَوِيم، وتَشْرِيعَاتِهِ الغَرَّاء، ومَبَادِئِهِ السَّمْحَة

فلم تَعُد الأُمةُ مِلْكَاً لأنْظِمَةٍ جَائِرَةٍ تَتَزَيَّنُ بِبَعْضِ كَهَنَةِ المَعَابِدِ لِيُشَرِّعُوا لهَا طُغْيَانَهَا، أو يُسَوِّقُوا لها بُهْتَانَهَا، أو لِيَسْتَعْبِدُوا النَّاسَ بِنَظَرِيَّاتِ السَّمْعِ والطَّاعَةِ لِكلِ مَنْ هَبَّ ودَبَّ، وإنْ كان شَاذَّ التَّوَجُّهِ، أو مَعْتُوهَ الفِكْرِ، أو صُهيونِيَّ الانتماء، أو يَهودىَّ الهوى أو حتى الدِّيَانة!!
ولمْ تَعُد الأمةُ كذلك مِلْكَاً لِزَعَامَاتٍ تَنْظِيمِيَّة مِن أي تَيَّار، أو قِيَادَاتٍ تَاريِخِيَّة أو مُعَاصِرَةٍ مِن أي تَوَجُّه، أو مَنْظُومَةٍ حِزْبيةٍ تُسَيِّرُهَا وَفْقَ أهْوائِها، وتَحْبِسُهَا وَفْقَ رُؤْيَتِهَا الخاصة، زَعْمَاً بِأنَّها الثَّوَابِتُ! وما هي من الثوابت، وتَحْرِمُهَا مِن وَاجِبَاتِهَا الشَّرعيَّةِ، زَعْمَاً بِأَنَّها مُتَغَيِّرَاتٌ وما هي مِن المُتَغَيِّرَات، وتُعطِي لقَرَارَاتِهَا القَدَاسَةَ وما هي بالمُقَدَّسَة، ولشُخُوصِهَا الحَصَانَةَ وما هم بالأنبياءِ ولا حتى بالمَلَالِي وإن لم يَكُنْ للمَلَالِي عِصْمَة!

والعَجِيبُ أنَّكَ إنْ سَأَلْتَ عن حَظِّ أحدهم مِن العلمِ الشَّرعِيِّ الذي أَّهَّلَهم لِتلكَ المَكَانَةِ السَّامِقَةِ، وَأَجَلَسَهُمْ على مِنَصَّاتِ التَّوجِيهِ الشَّرعِيِّ في القَضَايا الكُلِّيَّةِ للأمةِ فَلَنْ تَرى لَهُم بِهِ صِلَةً، ولن تعثر لهم في دروبه عن أثر،ولن تجد لهم فيه مِن نَصِيب!!

فَعَلَى العُلماءِ أن يَحْشُرُوا الأمةَ تحت تِلكَ الرَّايةِ الرَّاقِيَة، رّايَةَ الانتصارِ للمَظْلُومِينَ أيَّاً كان دِينُهُم، ومُوَاجَهَةِ الظَّالِمينَ الطُّغَاةِ أيَّاً كانت دَوَافِعُهُم.

رَايَةَ الانتصارِ لِلِأَعْرَاضِ والأموالِ وحُرْمَةِ النُّفوسِ والعُقول، ومِن قَبْلِ ذلك حَقِّ التَّدَيُنِ والحِفَاظِ على الهُوِيَّةِ، وأن يُبَيِنُوا الحَقَّ للنَّاسِ ولا يَكْتُمُونَهُ أيَّاً كانت عَاقِبَتُه.

على العُلماءِ أن يَرْفَعُوا تِلكَ الرَّايةَ وَاسِعَةَ الآفَاقِ، عَمِيقَةَ الإِدْرَاكِ، المُنْتَصِرَةَ للإنسان، المُحَارِبَةَ للطُّغيان، المُرْتَبِطَةَ بالمَنْهَجِ القَوِيم، لا بالقائدِ أو الزَّعيم.

ولا أعني بذلك الاستغناء عن قيادات سياسية أوعسكرية أو إدارية أوفكرية أوغيرها ، بل أعني احتضانها ودعمها، أو توجيهها والمساهمة في نجاحها ، أو حتى صناعتها.

المَسَارُ الثاني: أن يقومَ هؤلاءِ الأوْتَاِدُ بِصِنَاعَةِ جِيْلٍ جَديدٍ مِن العُلماءِ يَتَجَنَّبُوا فيه آفاتِ طُلابِ العلم، يُؤَهِّلُونَهُم للرِّيَادَةِ والقِيادَةِ، لِيَكُونُوا قَادةً لمُسْتَقْبَلٍ يَسْتَشْرِفُونَ آفَاقَهُ، ويَعُدُّونَ له أدَوَاتِه؛ قَادَةً للأمةِ بِكُلِّ أَطْيَافِهَا، قَادةً يَمْلِكُونَ زِمَامَ المُبَادَرَةِ، تَرَبّوا على صِدْقِ التَّعَبُّدِ لِيَتَحَقَّقُوا بالرَّبَّانِيَّةِ، وعُمْقِ الفَهمِ والمَعْرِفَةِ لِيَتَأَهَّبُوا للمَرْجِعِيَّةِ، وتَمَلُكِ مَهَارَاتِ القِيادَةِ لِيَتَحَقَّقُوا بالفُرُوسِيَّةِ.

وأَعْتَقِدُ أنَّ الأرْضَ لا تَخْلْو مِن أَوْتَادٍ رُبَّمَا يُعْرَفُ بَعُضُهُمْ ويُشْتَهَر، ورُبَّما لا يَعْرِفُهُ أَحدٌ بَعْدُ، ولم يُشْتَهَرْ، وَلِكُلٍّ مَهَامُه، ولكلٍّ مَيْدَانُه، إلا أنَّهم يَشُتَركُونَ جَمِيعَاً في عُمْقِ تَدَيُّنِهِم، ورُقِيِّ فَهْمِهِم، وقُوَةِ اسْتِمْسَاكِهِم، ووَفْرَةِ عِلمِهِم وعُلُوِّ هِمَّتِهِم، ووضُوحِ مَوْقِفِهِم، ونَصَاعَةِ بَيانِهِم.
وحتى لا أتَوَرَّطَ بِذِكْرِ أحدٍ دُونَ غَيْرِهِ، أُؤكِدُ أنَّ رجالاً في كل الأقطار سخرهم الله تعالى للقيام بهذه المهمة ، وأجْيالاً مِن أَهْلِ العلم تَتَابَعُ، وأوْتَاداً مِن أهلِ الفَضْلِ تَتَنَامَى، وبهم سَتَنْطَلِقُ الأُمَّةُ مِن كَبْوَتِهَا، وتَتَوَحَدُ مِن فُرْقَتِهَا، وتَتَعَافَى مِن جَهَالَتِهَا.

إِنَّنَا أمَامَ أُمَّةٍ يُدَبِّرُ اللهُ شُؤونَهَا، ويَحْفَظُ اللهُ رَايَتَهَا، ويُهَيءُ لهَا قَادَتَهَا، وفي الحديث الصحيح:) لا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ)
وإنْ كُنا نَتَحَدَّثُ عن أَوْتَادِ الأرضِ في العِلمِ الشَّرعِيِّ فلا يَعْني ذلك إغْفَالاً لِأَوْتَادِهَا في جَوَانِبَ شَتَّى مِن الحياةِ، وفي فُروعٍ متنوِّعةٍ مِن العِلمِ، وفي مَجَالَاتٍ متعدِّدةٍ مِن الإبداع.
وأَعْتَقِدُ أنَّ هذه الأَوْتَادَ قد آنَ لها أن تَتَكَاتَفَ وتَتَعَاضَدَ وتَكونَ صَخْرَةً ضَخْمَةً تَحْتَمِي بِهَا الأُمَّةُ مِن قَذَائِفِ البَاطِلِ، ومَكْرِ الأعداءِ، وتَحَالُفَاتِ الشَّيطَانِ وأَحْزَابِه.

أَعْلَمُ على وَجْهِ اليقينِ أنَّ الأرضَ تَتَهَيَّؤ لِأَمْرٍ عَظيم، سَيكونُ فيه لِلأَوْتَادِ دَوْرٌ بَارِزٌ، ولِلأطْهَارِ سَهْمٌ نَافِذٌ، وللمُخلصينَ فيه اسْتِخْدَامٌ يُعَرِّفُهُ أَهْلُ العِلمِ: باسْتِحْقَاقِ الاسْتِخْدَامِ، أوالتَّأَهُّبِ للاستعمال، فَمَنْ يُرِدِ اللهُ به خَيْراً يَسْتَعْمِلْهُ.

(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى