مقالاتمقالات مختارة

أهمية تعليم اللغة العربية لأبنائنا في الغرب

أهمية تعليم اللغة العربية لأبنائنا في الغرب

بقلم مؤمن العنان

اللُّغةُ قَدَرُ الإنسان، ولُغةُ الإنسان هي عالَمُه، وحدود لغته هي حدود عالَمه. فهي وَلاءٌ وانتماء، وثقافة وهوية، ووطن وشخصية. هي نظام الحياة الذي نعيش، والفكر الذي نحمله وننتمي إليه. واللغة هي الأُمّ التي تَنسُج شبكة الوِفاق والتآلف بين أفراد المجتمع وجماعاته، ونظمه ومؤسساته، وقيمه ومعتقداته، فلا وِفاقَ دون لُغة، ولا مُجتمع دون وِفاق. وكما تُسهم اللغة في صياغة المجتمع فإن المجتمع يسهم بدوره في إثرائها وتشكيلها وتطويرها. فالجماعة الناطقة باللغة هي التي تُكسِبُ الألفاظ معانيها، وتشتق من المفردات ما يُعَبِّر عن مستحدثاتها ومراميها.

اللغة العربية وعاء الثقافة وهي حاضنة الفكر، وخزّانها الأدبي، الذي حَمَلَ هويتها ومقوماتها الفكرية التي صمدت أكثر من خمسة عشر قرناً سجلاً أميناً لحضارة أمتها وازدهارها، وشاهداً على إبداع أبنائها وهم يقودون ركب الحضارة التي سادت الأرض مدة زادت على تسعة قرون.

واللُّغة العربية هي النَسَق الرَّمزي والمعيار الدلالي من قواعد نَحويّة وبُنى صَرفيّة ونُظم بلاغيّة وسياقات بيانيّة، وإنَّ الناطق باللغة أسير تلك الأنساق الرمزية من قواعد التعبير عن المعاني والصياغة القولية للمقاصد، فاللغة ترسم حدودًا ثقافية تمنع اختلاطها بلغات أخرى، فالرابطة الثقافية التي تنشأ عن تقييد اللغة لأبنائها هي رابطة القيم والمبادئ التي تقوم عليها هوية أبناء اللغة، ومنها تنطلق تنميتها، وعليها تتأسس الرؤى المستقبلية لتطور الفكر والمجتمع.

إنّ اللغة العربية بوصفها لُغةَ الثقافة العربية والإسلامية، لعبت دورًا عظيمًا في تطوير ثقافة العرب ونقلهم من الفكر القَبَليّ إلى الفكر الأُمَمي الإنساني، ومن النِّطاق البَدَويّ إلى النّطاق العَالمي الحضاري، وباتت العربية لُغةَ أَعظم حضارة مؤثرة في تاريخ البشرية؛ من جميع النواحي المعرفية والدينية والسياسية والاجتماعية والإنسانية، ولَعلّ هذا البُعد من أهم عوامل بقاء العربية سيِّدةَ اللُّغات العالمَيّة في الحضور الدولي والعالمي، فهي واحدة من اللغات العالمية التي لا غِنى عنها في ترجمة قرارات ومخرجات المنظمات الدولية ومجالسها ومُقرراتها التي تنظم شؤون العلاقات الدولية والنشاطات العالمية التي تتعلق بالإنسان والفكر والسياسة والاقتصاد والغذاء والصحة في هذا الكوكب، على الرغم من الضعف الشديد الذي يُطوِّقُ الدّول النّاطقة بها من جميع النَّواحي. فالقيم الإسلامية بمنظومتها العالمية باتت جزءًا مكوِّنًا لثقافات الكثير من الشعوب والأمم، واللغة العربية إنما تمثل المصدر الأصلي لتلك القيم الإسلامية الكامنة في ثقافات الشعوب غير العربية، فتَستمِدُّ قيمها الاجتماعية والفكرية من القيم الإسلامية، كالتركية والصينية والهندية والقفقازية والملاوية والفارسية والإفريقية والأوربية والأمريكية والكاريبية والأمريكية اللاتينية وغيرها..

ومن أهمِّ السِّمات التي تميّز اللغة العربية قُدرتُها الفائقة على التواصل الإنساني، بتنوعه وغناه، فالعربية لغة غنية ودقيقة؛ فقد استوعبت التراثين العربي والإسلامي، ومن ثم توسعت لتدخل في علاقة تكاملية مع اللغات الأخرى، ولم يثبت في تاريخها الممتد لآلاف السنين، لم تدخل أبدًا مع أية لغة قومية في علاقة قوة أو صراع استئصالي حتى ولو كانت لغة قبيلة، بل حرصت العربية على استمرار لغات الأمصار حيّة، فقاسمتها وظائف التواصل الاجتماعي، وهي التي استوعبت ما نُقلَ إليها من تراث الأمم والشعوب القديمة كالفارسية واليونانية والرومانية والمصرية والعثمانية والهندية وغيرها.. كما نَقَلت إلى البشرية في فترة ما، أسس الحضارة وعوامل التقدم في العلوم والرياضيّات والطّب والفلك والموسيقى وغيرها. وما تزال تنقل إلى العالم اليوم المعارف الإسلامية الشاملة التي انبثقت عن الكتاب والسنة، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وكانت ولا تزال الناقل الوحيد الأمين لعلوم ومعارف الحضارات التي سبقتها، وهذه حقائق يجب ترسيخها في عقول الناشئة، كما ينبغي أن تكون أهدافاً ثابتة لعلوم اللغة العربية والأدب والفنون خاصة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية عامة.

واللغة العربية هي لغة موسيقية شاعرة، فإذا تكلم بها ذو بيان فإنك تطرب لسماعها وتفهم بيانها، وترتاح لمعانيها وأصواتها. وهي بهذا الجرس والرنين مَنَحَت العربي التَّفوُّقَ في الأداء كلاماً وكتابة، وغِناءً وشِعراً على وزنٍ وقافية، لذلك يجب التركيز في مناهج تعليمها على تدريب المتعلم على التذوق الأدبي والفني، وعلى الإحساس بالجمال في الأداء اللغوي.

واللغة العربية هي لغة متميزة من الناحية الصوتية؛ فقد اشتملت على جميع الأصوات في اللغات السامية. وأصواتها تستغرق جهاز النطق عند الإنسان، ابتداء بما بين الشفتين في نطق حروف كالباء والميم والفاء، وانتهاء بجوف الناطق في حروف كالألف والواو والياء. وبالتالي فإن تدريب الأبناء على إخراج الحروف من مخارجها، ونطق الأصوات بطريقة سليمة، يعتبر هدفاً من أهم أهداف مناهج تعليم اللغة العربية.

ومع تقدم عصر المعلومات وتقنيات المعلومات برزت الحاجة الشديدة إلى مواكبة التطور المعرفي في جميع نواحي الحياة الإنسانية، مما ألجأ الدول التي سعت سابقًا لإضعاف العربية إلى تقنين الإفادة منها، فانتشرت في العقود الأخيرة الدراسات والبحوث والبرامج والأقسام التي تعنى بالاستفادة من اللغة العربية، في جميع الجامعات الغربية، وكثرت المؤسسات الإعلامية ومؤسسات إعداد المحتويات الرقمية في برامج الاتصالات إلى تطوير حاجتها من اللغة العربية، طمعًا في إثراء محتوى بياناتهم المعرفة، والسيطرة على موارد المعرفة عبر تقنيات المعلومات. وباتت أهم دول العالم اليوم تحتفي بلغتنا العربية، لميزاتها وقدراتها الفريدة، وتتجه تلك الدول المنتجة للسِّمات الحضارية والتقنيات في عصرنا إلى الإفادة من اللغة العربية، ووضعت الدول العظمى القوانين والنظم والإجراءات المعينة على تعلمها والإفادة منها باعتبارها لغة أم أو لغة أجنبية.

وفي الوقت الذي يعبر فيه أعظم العلماء والمفكرين والفلاسفة عن قوة تأثير اللغة العربية وسعة احتوائها للقدرات التعبيرية والتوليدية وثروتها اللفظية التي تشمل كل نواتج المعرفة بأدق التفاصيل التي لم تلامس أي لغة غيرها مسارات تلك النواتج المعرفية، وفي الوقت الذي تسعى جميع دول العالم الكبرى ذات التأثير العلمي والاقتصادي اليوم إلى تعليم أبنائها العربية لغة ثانية طمعًا في تطوير فكرهم وتنمية قدراتهم الذهنية والفكرية، وفي الوقت الذي يحتاج فيه أبناء العربية إلى لغتهم أكثر من أي وقت مضى، لأنها الحصن الوحيد الذي بقي لهم لم يضمحل، والدرع المتين الذي لم يكسر.

بعد كل ما سبق نجد الكثير من أبناء العربية المقيمين في أوربا والغرب عمومًا يزهدون فيها كسلاً وتهاونًا، ويتشرذمون إلى فُتات لُغات لا تقوى الواحدة منها على رصف جملة دون الاتكاء على بنية لفظية أو أسلوبية أو قواعدية من لغة أخرى وربما من لغات عدة.

لقد بلغ الضعف ببعض أبناء العربية، أن يبرروا انسلاخهم عن لغتهم بأنّ اللغة الأم بالنسبة لأبنائهم صارت لغة البلد الذي يعيشون فيه! وهذا مجرد هروب من مواجهة الحقيقة الصعبة في توصيف أزمة الهوية التي أوقعوا أنفسهم فيها عندما تساهلوا في مقومات هويتهم وفكرهم وانتمائهم، لأن الإنسان بطبعه الاجتماعي غير قادر على الانسلاخ عن هويته، فهي كوامن نفسية وذاتية وسلوكية وجينية تتركب منها شخصيته، لا يمكنه التخلي عنها بقراره الفردي، كما أنها لم تتشكل بداخله بقراره الفردي كذلك، بل هي نتيجة تراكم من التفاعلات الفكرية والاجتماعية واللغوية في أجيال متتالية ساهمت جميعها في تكوين ثقافته وفكره وهويته.

إن فلاسفة العلوم الاجتماعية وعلماء اللسانيات والتربويين في أوربا والغرب قد بينوا بوضوح لقادة دولهم أن السبيل إلى إعادة إحياء الأجيال التي تدمرت وتشرذمت بعد حربين عالميتين، وتَحوَّلَت إلى مُهدّدٍ فكري واجتماعي واقتصادي، وأن السبيل لذلك هو حرية الإنسان التي هي أساس متين لتعلم أبناء المهاجرين لغتهم الأم، وأن الحفاظ عليها باعتبارها أحد أهم عوامل الاستقرار النفسي الذي يحقق التوازن النفسي والسلوكي للإنسان، ويجعل منه واعيًا لحدود فكره عند تواصله مع أبناء مجتمعه الذي يعيش معه، منطلقاً من هويته المركزية ومن التنمية التي اكتسبها في مجتمعه الجديد، فيحقق بذلك صفته الاجتماعية في المساهمات النافعة اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا والأهم هنا أمنيًا.

لقد حذر علماء النفس من خطورة فقدان اللغة الأم، وأصدروا صرخات تحذيرية من الممارسات السياسية التي تُقوِّض هذا الجانب الإنساني، وتهز ركائز الهوية لدى أبناء المجتمع ذوي الأصول المتعددة، لأنه يعني غيابَ حالة الاستقرار في هوية الإنسان، وضياعَ مرتكزاتها التي يحتاجها في بداية تَشكُّل شخصيته الذاتية في مرحلة الشباب، وهنا تبدأ الانتكاسة النفسية لدى الشخص الذي فَقَدَ لغته الأم، لِيدخُلَ في أنفاق الاضطرابات النفسية، وأزمات صراع الهوية والانتماء، وهذه الحالة تستهلك أعز وأثمن الأوقات من حياة الإنسان، فلا يستقيم في عمل ولا يستقر في فكر ولا يستمر في سلوك قويم، وهنا ندرك أهمية أجراس الإنذار التي نادى بها مفكرو أوربا في منتصف القرن الماضي واتجه ساستهم إلى ضرورة تعليم اللغة الأم للمهاجرين إلى جانب اللغات الوطنية في بلدانهم، ليتمكنوا من الإفادة منهم في التطوير واستمرار النهضة الصناعية والتقنية وعدم تعطلهما أو توقفهما بسبب ما ذكرنا.

هذا ما نادى به الفيلسوف الألماني فوسلر، ودافع عنه عندما نظّر لأسس حقوق الإنسان التي انطلقت في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية. وقال مقولته الشهيرة: “إن اللغة الأم هي وطن روحي، يُؤوي مَن حُرِمَ وطنه على الأرض”. وهذا هايدجر يقول “إن لغتي هي مسكني”، وغيرهم ممن أسمع بأصوات عالية ساسة دولهم هذه المفاهيم، وعلّموها لتلامذتهم مثل: باجييه وسوسير وسكنر وتشومسكي وغيرهم من العلماء والمتخصصين في علم النفس الاجتماعي واللسانيات وعلم النفس التربوي.

يقول العلامة الفذ الدكتور مازن المبارك حفظه الله تعالى: “لا يَبلغُ الوَعيُ السِّياسي مَداهُ الكامِل ما لم يَقتَرِن بِوَعي لُغويّ سَليم”.

إن اللغة الأم (Mother Tongue) هي اللغة الأصلية التي ينشأ عليها الإنسان ويكتسبها في بيئته وثقافته الخاصة منذ بدء تَخَلّقه في عالم الأَجنِّة مُرورًا بالطّفولة وانتهاء باكتمال بناء شخصيته. فهي اللغة التي يبنى عليها فكر الأسرة وثقافتها والتي ينشأ عليها أبناؤهم.

وقد ينشأ الإنسان ثنائي اللغة أو متعدد اللغات، وهذا لا مشكلة فيه بل هو مطلوب، إلا أن الإنسان في النهاية لدية ضمير واحد وقيم واحدة ومبادئ واحدة تعيش معه وهذه التي تسمى “اللغة الأم” التي تحمل قيمه وفكره ومقومات شخصيته.

ومَن يُحاوِل أن يُقنِعَ نفسه بأنّ اللغة الأمّ لأبنائه هي لغة البلد الذي نشأ فيه، فإنه لم يدرك معنى اللغة الأم ولا مقومات الشخصية ولا فكر الإنسان، وإن عامَلَ أولاده بهذا الذي أقنع نفسه فيه، فقد أساء إليهم أبلغ إساءة، لأنه بلا شك قد تسبب لهم بانتكاسة خطيرة في مرحلة ما من عمرهم سيقعون فيها، ولكم فيمن سبقكم عبرة من المهاجرين، وأنصح أبنائي وإخواني أن ينظروا إلى تجربة المهاجرين في فرنسا فهي الأطول نسبيًا بين الدول الأوربية حيث دخل المهاجرون اليوم في جيلهم السادس، وهم يعيشون تحت ضغوط نفسية هائلة من نوازع الانسلاخ عن الهوية، حيث تُمنع عنهم لُغاتُهم الأم، وممارسة ثقافاتهم الأصلية، مما قَوَّضَ ركائزَ الشخصية، وأحدث انقطاعًا في سُبُل التواصل الاجتماعي بين أبناء المجتمع، واتسعت  الفجوات الإثنية التي زادت من أعباء الحياة على الناس، وهنا اهتز الجانب الأمني في المجتمع، وتراجع النمو الاقتصادي والاجتماعي، وتحوَّلَ الاقتصاد المنتج إلى مُستهلِك، وهذا بلا شك سيقود إلى مزيد من الاضطرابات التي ترهق كاهل المجتمع، إن لم تتخذ الدولة خيارًا حقيقيًا في تتغير سياستها إلى توسيع الحريات على أبنائها بدل تضييقها ودفعهم نحو مزيد الاضطرابات والمآسي الاجتماعية.

المراجع:

  1. تعليم العربية – أبعاده الثقافية، نصر الدين إدريس جوهر، Ulumuna Jurnal Studi Keislaman, Volume 18 Nomor 1 (Juni) 2014
  2. الفكر اللغوي عند دي سوسير، حسن إدريسي. مجلة الحوار المتمدن، العدد: 4330، تاريخ النشر: 9/1/2014م.
  3. لسان حضارة القرآن، محمد الأوراغي، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010م.
  4. ط2 دار القلم، دمشق، 1990.
  5. اللغة في المجتمع، م. م. لويس، ت: حسان تمام، دار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي)، القاهرة، 1959.
  6. العنان، مجلة كلية العلوم الإسلامية في جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية، العدد 2، شهر يوليو 2020.
  7. مفردات المعجم الثقافي في تعليم اللغة العربية، مؤمن العنان، مجلة التواصلية، جامعة المدية، الجزائر، العدد 17 (خاص)، 2020.
  8. الهوية العربية والأمن اللغوي، عبد السلام المسدي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2014.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى