مقالاتمقالات مختارة

أهل الكتاب بين المفاصلة الاعتقادية والاجتماعية

بقلم محمد فتحي النادي

لم تكن الفتوحات الإسلامية حروبًا استئصالية للمخالفين، ولكنها كانت حروبًا لإعلاء كلمة الله، ونشر العدل والسلام، وإزالة العوائق أمام الدعوة للإسلام.

فمن أحب الانضواء تحت راية الإسلام اعتقادًا فبها ونعمت، وهو أخ للمسلمين في الدين.

ومن أحب الانضواء تحت راية الإسلام أمانًا وعهدًا فلا بأس، وهو أخ في الإنسانية.

أما من ناصب الإسلام وأهله العداء، ورفع عليهم السلاح، فكان لا مفر من تأديب هؤلاء، ومنع شرورهم عن الناس.

لذا بقيت في بلاد المسلمين بقية من أهل الكتاب استظلوا بظل الإسلام وحكمه، وعاشوا في أمان وسلام قرونًا طويلة.

أما الحديث الذي ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: اشتد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه يوم الخميس فقال: “ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا”. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: هجر([1]) رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

قال: “دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه”.

وأوصى عند موته بثلاث: “أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم”. ونسيت الثالثة.

وقال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب، فقال: مكة والمدينة واليمامة واليمن([2]).

فإن (جزيرة العرب) ليست عموم الجزيرة، بدليل تذييل البخاري للحديث بقول يعقوب بن محمد.

وقال النووي: “وحكى الهروي عن مالك أن جزيرة العرب هي المدينة، والصحيح المعروف عن مالك أنها مكة والمدينة واليمامة واليمن، وأخذ بهذا الحديث مالك والشافعي وغيرهما من العلماء، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا : لا يجوز تمكينهم من سكناها.

ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو الحجاز، وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه”([3]).

وقال في موضع آخر: “مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها، وهو الحجاز خاصة”([4]).

ولم يكتف الإسلام بقبول التعايش السلمي الآمن لأهل الكتاب بين ظهراني المسلمين، بل دعا للبر بهم والإقساط إليهم، وإقامة العدل فيهم.

ولم ير الإسلام بأسًا بأن يتزوج المسلم من الكتابية فقال -تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ [المائدة: 5].

وهنا يجب التفريق بين أمرين، بين المفاصلة الاعتقادية بأن لا تتبع طريقهم، وأن تؤمن باجترائهم بنسبتهم الولد إلى الله -سبحانه وتعالى، وقبولهم أن يشرِّع لهم أحبارهم ورهبانهم شرائع لم ينزل الله بها من سلطان، وهذه قواعد ثابتة بيّنها القرآن فقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].

وقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: 30].

وقال: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة: 105].

وقال: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31].

هذه كلها آيات في سياق المفاصلة الاعتقادية والتي لا مداهنة فيها.

أما الأمر الثاني فهي المفاصلة الاجتماعية، وهي مفاصلة -رغم الآيات التي أوردناها سابقًا- لم يأمر بها الإسلام، بل دعا لصلة الرحم حتى وإن كانت لغير المسلمين، قال -تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: 15].

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومُدتهم، إذ عاهدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أبيها، فاستفتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟قال: “نعم صِلي أمك”([5]).

وكانت أمنا صفية بنت حيي بن أخطب تصل اليهود فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر “فبعث إليها فسألها عن ذلك فقالت: إن لي فيهم رحمًا فأنا أصلها”([6]).

وقد كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنصارى نجران كتابًا جاء فيه: “ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضيهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبِيَعهم، وأن لا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغيروا حقًّا من حقوقهم ولا ملتهم”([7]).

وللأسف فإن بعض البلدان العربية تعيش خلطًا في الأمور، ويجعل علمانيوها المفاصلة الاعتقادية طعنًا في المواطنة، وتمزيقًا للنسيج الوطني، وهم بذلك يميعون الدين، وينسون آيات البر والإقساط، وصحيفة الرسول مع أهل المدينة التي ضربت أروع الأمثلة للتعايش بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان، وكتاب النبي لنصارى نجران، والعهدة العمرية… إلخ.

فالعلاقة مع أهل الكتاب تقوم على الموازنة بين هذين الأمرين.

والمفاصلة الاعتقادية لا تعني المحاربة والإساءة، بل هي من صميم عقيدة الولاء والبراء. ولا يمكن تصور وجود مفاصلة اجتماعية؛ إذ إن أهل الكتاب من أمة الدعوة، وكم من المسلمين أعمامهم وأخوالهم من أهل الكتاب، وكثير من المسلمين جيرانهم من أهل الكتاب.

وأخيرًا نقول: المفاصلة الاعتقادية لا تعني بأي حال من الأحوال وبأي صورة من الصور المفاصلة الاجتماعية.


([1]) “الهَجْرُ: الهَذَيانُ. وقد هَجَرَ المريض يَهْجُرُ هَجْرًا، فهو هاجِرٌ والكلام مَهْجورٌ” [الصحاح، مادة(هجر)].
([2]) أخرجه البخاري في “الجهاد”، باب: “هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُعَامَلَتِهِمْ”، ح(3053).
([3]) شرح النووي على مسلم، (11/93).
([4]) السابق، (10/213).
([5]) أخرجه البخاري في “الأدب”، باب: “صِلَةِ الْمَرْأَةِ أُمَّهَا وَلَهَا زَوْجٌ”، ح(5979).
([6]) الإصابة في تمييز الصحابة، (7/741) باختصار.
([7]) دلائل النبوة للبيهقي، (5/389).

(المصدر: الإسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى