مقالاتمقالات المنتدى

أهداف التخطيط والإدارة وأهميتهما (قصة سيدنا يوسف عليه السّلام نموذجاً)

أهداف التخطيط والإدارة وأهميتهما (قصة سيدنا يوسف عليه السّلام نموذجاً)

 

بقلم د. علي الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

إن التخطيط السليم والإدارة الناجحة من الأسباب الأكيدة التي تبني بها الدول ولقد عرَّف بعض الباحثين التخطيط بأنه الجسر: جسر الحاضر والمستقبل.

إن التخطيط في المفهوم القرآني هو الاستعداد في الحاضر لما يواجه الإنسان عمله أو حياته في المستقبل، وعلى هذا.

ــ قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص، آية: 77).

إنه توجيه رباني للتخطيط في هذه الدنيا لمقابلة مصير الآخرة.

ــ وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (الأنفال، آية: 60).

وهذه الآية دعوة للإدارة الإسلامية بالعمل والتخطيط والاستعداد بقوة لمواجهة أمر مستقبلي قد يحدث لدار الإسلام وأمته، والقوة هنا تفهم بمفهوم العصر، فقد تفهم بالقوة البدنية، وذلك ببناء الرجال الأشداء الأقوياء في إيمانهم وأبدانهم وقوة السلاح بكل أنواعه، وحسب ما تخرجه المصانع من أنواع الأسلحة حتى القوة والطاقة الذرية وذلك ببناء المصانع النووية الإسلامية وحمايتها من ضرب الأعداء لها وذلك كله لإرهاب عدو الله وأعداء الإنسانية وحماية دار الإسلام من الأعداء كما في آية: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم﴾ مفهوم التخطيط الطويل الأجل الذي يجب أن تأخذ به الدولة الإسلامية وإدارتها الحكيمة حتى تحمي شوكة وقوة الإسلام.

ضرب الله القرآن الكريم مثلاً للتخطيط السليم الذي قام على أسس منطقية فأمكن بذلك تلافي مجاعة كانت تهدد الناس جميعاً بالهلاك، بسبب التخطيط السليم الذي قام به يوسف عليه السلام وهو أمين على الخزائن ـ وذلك حين فسر الرؤيا التي جاءت على لسان ملك مصر في قوله تعالى:” وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ ” (يوسف، آية: 43) وتولى يوسف عليه السلام تفسير الرؤيا فقال: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف، آية: 47).

إن يوسف عليه السلام فسَّر الرؤيا وزاد عليها بأن قدم خطة عملية تستغرق القطر كله والشعب المصري كله، أي أن خطته اعتمدت على التشغيل الكامل للأمة والبرمجة الكاملة، ثم التشغيل الكامل لطاقة كل فرد في الأمة، وهذا الذي أراده يوسف عليه السلام وعبر عنه بقوله: ﴿تَزْرَعُونَ﴾، إن الذي يخطط له يوسف عليه السلام هو مضاعفة الإنتاج وتقليل الاستهلاك، لأن الأزمات والظروف الاستثنائية تحتاج إلى سلوك استثنائي، ولأن سلوك الناس في الأزمات غير سلوكهم في الظروف العادية ـ استرخاء وبطالة ـ فإن هذه الأمة تكون في حالة خلل خطير يحتاج إلى علاج ومعالج خبير. (سورة يوسف، د. أحمد نوفل، ص: 409.)

إن يوسف عليه السلام قسم خطته إلى ثلاث مراحل:

ــ ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾ (يوسف، آية: 47).

ــ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ﴾(يوسف، آية: 48).

ــ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾(يوسف، آية: 49).

وتظهر ملامح هذه الخطة في الآتي:

  • ـ الطابع الغالب على المرحلة الأولى هو الإنتاج والادخار مع استهلاك محدود، فيوسف عليه السلام حدد خطط الإنتاج بالزراعة وحدد استمرار الإنتاج الزراعي سبع سنين العمل فيها دائب لا ينقطع، ومع هذا الجهد الكبير في الإنتاج المستمر كان هناك تحديد واضح للاستهلاك يبدو في قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف، آية: 47)، وأمر يوسف بحفظ السنابل المخزونة من الغلال كاملة كما هي ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ﴾ (يوسف، آية: 47).
  • ـ فإذا ما انتهت سنوات الإنتاج السبع، بما فيها من جهد متصل دائب، واستهلاك محدود كان على الخطة أن تقابل تحدياً ضخماً هو توفير الأقوات سبع سنين عجاف وبعبارة أخرى؛ بعد الإنتاج والجهد الدائب في المرحلة الأولى سيأتي تحمل أيضاً في المرحلة الثانية وهو تحمل يحتاج إلى تنظيم دقيق يصل فيه الطعام إلى كل فم.
  • ـ ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق ينبغي ألا تأتي هذه السنوات العجاف على كل المدخرات، وإنما كان يوسف عليه السلام واضحاً في قوله:﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾ (يوسف، آية: 48).

فكان هذا الجزء المدخر هو “الخميرة” التي تستطيع بها الأمة أن تقابل متطلبات البذر الجديد بعد السنوات العجاف، أي إعادة استثمارات المدخرات.

كان على يوسف عليه السلام أن يوازن بين ثلاثة جوانب:

الأول: الإنتاج، والثاني: الاستهلاك، والثالث: الادخار، وأن يعيد استثمار المدخرات.

ومن طبيعة التطور أن تختلف: تفاصيل الصورة، ولكن أساسها سيظل قائماً عميقاً في ديننا وتراثنا وتظهر معالم التخطيط والإدارة في كلمات يوسف عليه والسلام حيث أن التخطيط يعتبر وظيفة أساسية من وظائف الإدارة، التي لا يمكن لها أن تكون فعالة بدونها، كما أن التخطيط في حقيقته يعتمد على دعامتين وخمسة عناصر؛ أما الدعامتان فهما التنبؤ والأهداف وأما العناصر فهي السياسات، والوسائل والأدوات، والموارد المادية والبشرية، والإجراءات والبرامج الزمنية والموازنة التخطيطية التقديرية. (سورة يوسف، دراسة تحليلة، ص: 415، 416)

إن كتب علم الإدارة والتخطيط الحديث تقول: إنه لا إدارة فعالة إلا بتنظيم ووفق تخطيط سليم مسبقاً وهذا عين الذي زاوله يوسف عليه والسلام، لقد جاء إلى الحكم يوم جاء وبرنامجه الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والإعلامي والزراعي كل ذلك في ذهنه قد أعدّ إعداداً دقيقاً.

  • ـ دعامتا التخطيط: التنبؤ، والأهداف:

أما التنبؤ: فاستشراف المستقبل واستشفاف الآتي، وهذا عين ما كان من يوسف بما علمه الله ـ تعالى ـ ثم تجده أيضاً، قد حدد الأهداف في مضاعفة الإنتاج وتقنين الاستهلاك أو ترشيده، ثم تخزين الطعام وهذا يقتضي خطة تفصيلية؛ لأن الهدف العام الكبير ليس شيئاً إذ لم يقترن بخططه التفصيلية، وهنا يأتي دور السياسيات والوسائل، والأدوات والموارد البشرية والإجراءات، والبرامج الزمنية والموازنة التقديرية.

وهذا هو ما فعله يوسف عليه السلام على ضوء علم الإدارة الحديث وإن كان القرآن الكريم حصر كلام يوسف عليه السلام في جمل جامعة وجيزة ولم يشر إلى تنمية الإنسان لكنها متضمنة قطعاً ضمن الخطة، لأن القرآن علّمنا أن الإنسان إنما هو نفسيته ومضمونه ومحتواه وأن تغيير الخارج بدون تغيير الداخل لا يغير نقيراً.

لقد وضع يوسف عليه السلام العنصر البشري في خطته، بعلمه أنه لا تنجح خطة ليس وراءها الإنسان الذي ينفذها، وأما منهجه في التعامل مع الإنسان فقد ظهر في دعوته للسجينين للتوحيد، وبذلك يكون منهجه في الارتقاء بالإنسان الذي هو عدة الحضارة ومحرك النهضة ومنفذ البرامج ومنجز المشاريع دعوته للتوحيد وتعليمه حقيقة الإيمان بالله وهذا الكون وهذه الحياة.

إن فائدة التغيير الخارجي تزول إذا لم يكن هناك إنسان أمين على منجزات التغيير الخارجي ويحمل القيم الداخلية التي تضمن استمرارية التغيير الخارجي، صحته، وصدقه وأمانته. إن التغيير يجب أن يمارسه الإنسان في المحتوى النفسي فيطور وينمي ذاته باتجاه الأفضل ثم يجسده محتواه النفسي تغييراً خارجياً، ويحوله إلى ممارسة وتطبيق وتحقيق؛ لأن أحوال الناس وأوضاعها الاجتماعية من الفساد أو الخير لا تغيير إلا إذا تغير محتوى الإنسان وما هو عليه من الحق أو الباطل؛ هذا هو منطق القرآن والحياة لكي ترسي نظاماً لابد أن تهيئ له إنساناً أولا.

إذا طورنا النظام ومفاهيمه دون الإنسان ومفاهيمه فسرعان ما يتسرب الفساد من الإنسان إلى النظام، فيقوضه أكثر مما يتسرب الإصلاح من النظام إلى الإنسان فيصلحه؛ لأن الأنانية وحب الذات والجشع أقوى من نصوص القوانين والأنظمة ما لم تهذبها التربية الداخلية العميقة والأخلاق الكريمة المبنية على معرفة الله وحبه والخوف منه (سورة يوسف دراسة تحليلية، ص: 418) إن الآيات القرآنية الكريمة أشارت إلى جوانب أخرى ارتبط بها نجاح الخطة ارتباطاً مباشراً، وأهمها جانبان يجمعهما عنصر واحد هو العنصر البشري وعلاقته بنجاح الخطة.

  • ـ استعداد يوسف عليه السلام على أن يشرف على تنفيذ هذه الخطة، وكان هذا الاستعداد بعد أن بدد ظلال الشك وأوهام التهم عن نفسه، وبذلك حدث التكامل القوي بين الخطة والمخططين بين حساب الأرقام وحساب الأخلاق بين الأسس المادية والقيم الروحية في المجتمع، بين الدين والحياة.
  • ـ الجانب الثاني: يتجلى في اختيار المعاونين الذين ساعدوه في عمله، فكان من رجال يوسف عليه السلام العون الصادق على تنفيذ أوامره بدقة وهدوء.

كما أشارت الآيات القرآنية إلى المعلومات اليقينية التي بنى عليها يوسف عليه السلام خطته.

قال تعالى:﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾(يوسف، آية: 48).

إن من معالم الخطة السياسية والاقتصادية الناجحة أن تكون مبينة على معلومات يقينية صادقة حقيقية لا على الخيال الشعري المجنح الذي لا يرتبط بالواقع، ومن هنا صارح يوسف عليه السلام الشعب بالشدائد التي تنتظره، لكنها ليست المصارحة التي تثبط أو تقعد عن العمل، ولكنها التي تدفع للعمل وتزيد الهمة وتضاعف من الجهد والطاقة إن السبع التي تلي الرخاء ستكون مجدية لا تعطي بل تأخذ وتأكل فهي تقتضي حرصاً واحتياطاً. (سورة يوسف – دراسة تحليلة، ص: 427)

وفي قوله تعالى:﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ﴾(يوسف، آية: 48) لا زرع فيهن، يأكلن ما قدمتم لهن وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها، كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾(يوسف، آية: 48) أي إلا قليلاً مما يحفظونه وتصونونه من التهامها، ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدية، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب، تنقضي ويعقبها عام رخاء يغاث الناس فيه بالزرع والماء وتنمو كرومهم فيعصرونها خمراً وسمسم وخسهم فيعصرونه زيتاً، وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك، فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف عليه السلام، فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد. (في ظلال القرآن (4/ 1994)

ونلاحظ في الآيات القرآنية الكريمة التي تكلمت عن خطة يوسف عليه السلام عنصر الأمل والتفاؤل وهذا الأمر مهم في الخطة الناجحة.

ــ قال تعالى:﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾(يوسف، آية: 49).

إن بعد الشدة التي أشار إليها يوسف انفراجاً ورخاء وستعود الأمور بإذن الله تعالى إلى سيرتها الأولى، ولكن بداية العودة تكون عاماً مباركاً غير معهود العطاء وفرة وكثرة وكأن الخير فيه سيفيض بغير جهد، فهو غانم ﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ أي: يسقون الغيث، أو يغاثون ينجدون من الغوث، وكل ذلك متلازم “وَفِيهِ يَعْصِرُونَ “، إشارة أخرى إلى فيض الخير، فلا يلجأ الناس إلى العصر للثمار إلا بعد أن تفيض عن حاجة الاستهلاك الأساسية وهي الأكل، ولابد من الأمل والتفاؤل في أي خطة، وإلا فإن كان لا أمل فما الداعي إلى العمل ولقد حرّك يوسف عليه السلام دوافع العمل عندهم بتحذيرهم من شدة سنوات القحط ثم حركها ثانية يفتح نافذة الأمل، (سورة يوسف – دراسة تحليلة، ص: 428) إن يوسف عليه السلام كان مظلوماً مضطهداً في سجن الملك وهو يملك من المعلومات والخطط مما يجعله في محل قوة عند المفاوضة إلا إنه لم يشترط لنفسه شيئاً، بل جادت نفسه الزكية بالتفضل بالخير والعطاء والنصح والإرشاد بدون أي مقابل من الخلق، وهذه الأخلاق الكريمة والصفات الجميلة يكرم الله بها من يريد أن يجعله قدوة لدينه ومعلماً لدعوته، كما نلاحظ أن يوسف عليه السلام كان مستوعباً لفقه الخلاف حيث أن الملك وشعبه بعيدون عن منهج الله، منغمسون في مناهج الجاهلية، ومع هذا التقى معهم في الخير المحض والسعي نحو إنقاذ البلاد والعباد من محنة المجاعة والقحط، وهذه السعة في الفهم والاستيعاب العميق يحتاجها من يتصدى لدعوة الناس، ودفعهم نحو تمكين دين الله في الأرض.

لقد كان من ثمار تدبير يوسف عليه السلام وتخطيطه أن حفظ الشعب من الهلاك والجوع وخرج من الشدائد وعاد إلى الرخاء وفي هذا القصص القرآني إشارات إلى واقع تخطيطي لكي ندرك أن الإسلام لا يقوم على التخمين أو التواكل، ولكنه يهتم بأدق الأساليب وأعمقها في جوانب الاقتصاد أو السياسة أو غيرها وكان لهذا القصص أثره البالغ في بناء الدولة الإسلامية على أسس التخطيط والإدارة واستشراف المستقبل.

_________________________________________________________

المصدر:

علي محمد الصلابي، الدولة الحديثة المسلمة، ص 140- 145.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى