أنقذوا العلوم الإسلامية من محرقة الـ “آل. أم. دي”
بقلم أحمد محمود عيساوي
يقول عنه عبيد الاستعمار عندما يحبون أن يصفوه بأجمل الأوصاف والنعوت الاستعمارية البغيضة إنه أحدث نظام علمي ومنهجي وإداري وتربوي وتعليمي.. ارتقت به الجامعات المتطورة والمصنفة عالميا، أو عندما يريدون أن يجمِّلوه في أعين البُلْهِ المغفلين والمقهورين، بأنه نظام “آل. أم. دي“ الجديد، إنه نظامُ أَخْذِ المعرفة السريعة والجاهزة والمختصرة والعملية والمفيدة والمركزة.. التي تمثل آخر ما توصل إليه العقل المتطوّر لدى الآخر.
ويتناسى هؤلاء ويتجاهلون أن أي مشروع أو نظام ينبت ويترعرع في وطنه يُثمر وينتج ويقدِّم وينهض بتلك الأمة ومؤسساتها بين الأمم ويجعلها في مقدمة العالم، لأنه ثمرة طبيعة لتضافر العقول والقلوب والأنفس والقيم والأخلاق والجهود والخبرات والعطاءات ومعطياتها الزمكانية والكيانية والإمكانية والميكنية، فما صَلُحَ هناك ليس بالضرورة أن يصلح هنا، من خلال تجارب الستين سنة الماضية 1962-2019م- من التيه والضياع والارتماء في أحضان المشاريع الاستكبارية.. والاستيراد الأرعن للخطط والمشاريع والأنظمة الفاشلة.. الذي لم يلد ويثمر سوى الخسارة والفشل الذريع.
وإننا نقول –بالمقابل من ذلك- بأنه: نظام مقبرةٍ ومقْتَلَةٍ ومجزرةٍ.. للعلوم الإسلامية، وهو ليس إلاّ مجرد مُستورَدٍ غريب وقاصر عن علومنا الدينية منهجيا ومعرفيا وأداتيا، وأنه محكوم عليه بالموت والتلاشي والفشل الذريع لو خرج من محضنه الحقيقي والطبيعي ومن وسطه الأصلي ومستتبعاته، وهو ما حصل له بالفعل، فقد فَقَدَ نصاعته وبريقه ونجاحه الذي كان مشهودا له في وطنه، وحمل إلينا كل عوامل الفناء والموت لما حلَّ ببيئتنا المتخلفة والمختلفة، فقضى على قداسة ومكانة علوم الشريعة ونخبها وأساتذتها وطلبتها، وكان هذا هو مقصود عبيد الاستعمار من استيراده وفرضه بالقوة سنة 2008م، وعندما عارضته النخب الجامعية الوطنية الأصيلة، قال لنا أحد أولئك المستتبعين بالنيابة ممن أدار إحدى مؤسسات العلوم الإسلامية -ثم كافأته بإدارة جامعة كبرى- إن السلطة الوصية تريد فرضه بالقوة ولو كان فاشلا، ومهما كان رأيكم فيه كمتخصصين، فلا يهم السلطة رأيكم فيه، وهو قدر الجامعة الجزائرية مستقبلا حتى ولو كان فاشلا..
والحقيقة التي توصلنا إليها ومن خلال التجربة والممارسة والتقويم والتحليل والنقد والكتابة الصحفية التوعوية والنشر العلمي طيلة أحد عشر سنة من العمل والتدريس والتحضير والتجريب النقدي والحدسي والميداني 2008-2019م، ومن نتائجها تبينا أنه ليس بنظام صالح لنا لتدريس العلوم الإسلامية، أو حتى بمشروعٍ منشطٍ للحركة العلمية والفكرية والمعرفية والأدبية والثقافية الجامعية، أو حتى مجرد خطة طريق تربوية وتعليمية ومنهجية سوية قابلة للتجريب ونافعة لحقل تدريس معارف الوحي المقدسة، أو حتى خلاصة آراء وتجربة جديدة يُرجى منها النجاح والتوفيق للرَّفع من قُدرات الباحثين وكفاءات الطلبة في مجال دراسة أو تدريس أو تعليم العلوم الإسلامية، بل هو مَفْسَدَةٌ ومَخْرَبَةٌ ومَقبرةٌ للعلوم الإسلامية الصحيحة، تلك العلوم التي تخشاها الأنظمة لو دُرِّسَتْ بالشكل الصحيح والسوي، كما كانت تُدَّرَسُ في المساجد والمعاهد والكليات الكبرى: (مكة والمدينة، الأزهر، الزيتونة، القرويين، الأمويين..)، بل هو أنكى من ذلك كله، فهو فوهة بركان ثائر ومُبير في وجه معارف الوحي المقدَّسة، ومعارف الفكر الإسلامي المكرَّمة، التي قامت حول وعلى ومن وإلى.. إيحاءات النص القرآني الكريم، وإشعاعات النص النبوي المطهر، وعلى فيوضات وأنوار أجيال التابعين والصالحين من حملة العلم والنور والفكر والفضيلة في القرون الهجرية الأربعة الأولى، من أمثال الشبلي وشقيق البلخي وأبو سليمان الداراني وأحمد بن حنبل وشيخ الطريقة (أبو القاسم الجنيد. ت 297هـ).. وأئمة التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين..
إن صلُح هذا النظام المستورَد من الغرب، ورأى المستعبَدون المستذلون من عبيد الاستعمار الذين يوجهون تعليماتهم ومراسلاتهم وأوامرهم إلى مديري الجامعات بلغة المستعمِر إلى اليوم، غير آبهين بشعور النخب العربية المسلمة والوطنية الجزائرية الأصيلة التي تصبر وتنظر باستغراب واحتقار وألم إلى خَطلهم وصَلفهم وعَنجهيتهم ومَركوبيتهم الاستعمارية الآيلة للسقوط، فهم يرون بعيون المستعمِر الذي وظَّفهم نيابة عنه لخدمة مشاريعه الاستكبارية المتمثلة في سلخ وتشويه آخر ما تبقى منيعا ومتماسكا من حصون الممانعة العربية الإسلامية في هذا الحصن المقدَّس وهي معارف الوحي المقدسة.. فهم يرون أنه يصلح لخدمة السيد الاستعماري الحامي لقلاعهم، ومحققا لهدف تشويه ومسخ وتغريب وتفسيق طالب وأستاذ العلوم الإسلامية، وهو ما حصل ووقع –للأسف- في العقد الأخير 2008-2019م، وهو ما سنبين آثاره المدمرة ونتائجه الوخيمة على طالب وأستاذ العلوم الإسلامية لاحقا..
وهكذا –للأسف- يرى غلاة العنصرية وعبيد التبعية للاستعمار الفرنسي ممن ليس لهم وظيفة في الوزارات الوصية سوى التطلع والتشوُّفِ لما عند القوي المهيمن تخفيفا لعقدة وولع تقليد الغالب الوقتي، بل المسارعة إلى استيراد وجلب نفايات المستعمِر في سائر مجالات الحياة.. وإلزام هذا الشعب المقهور ونخبه الشريفة بتطبيقه وتجرّعه كالسم الزعاف وإقناعه بأنه نظامٌ يصلح للرقي بالجامعة الجزائرية عموما والعلوم الإسلامية على وجه الخصوص، ضاربين عرض الحائط الحقائق العلمية والنتائج المعرفية والمنهجية التي أفضت نتائجها إلى أن كل علم يستمد منهجه من طبيعته ومكوناته ومن طريقة العقول المتخصصة في البحث والتفكير فيه، فمناهجه وليدة عنه ومنه وفيه، وهو في غنى عن مناهج الآخرين، لأنه يختص ويحتفظ لكل مجال بحثي بحقه في المنهج المناسِب له، فالبحث الأصولي له منهجه وطريقته، وكذلك البحث الفقهي والمقاصدي والحديثي والعقدي والدعوي.. له منهجه الخاص به؛ فهو – حسب تجربتي العقْدية 2008-2019م – ربما يصلح للعلوم التقنية والميكينية والتكنولوجية والخدمية والمالية والفندقية والتسويقية والبيعية والإشهارية والدعائية ونحوها..
وهذا متوقفٌ أيضا على رأي المتخصصين في تلك المجالات، وقد لا يصلح فيها ولها البتة خصوصا إذا راعينا خصوصيات البيئة والفرد والمجتمع الجزائري المختلِف عن غيره من المجتمعات المسيحية والعلمانية والملحدة.. وإليكم بيان ذلك حسب معايشتي له ولنخبه ولطلبته خلال العَقْدِ الماضي، بالدراسات الميدانية والتجرُبية والمضمونية ودراسة الحالة.. مستعملا كل أصناف البحث الميداني وعيِّناته العشوائية والقصدية والطبقية والمختارة المنتقاة، فضلا عن مناهج الحدس ومشتقاتها بدءًا من الملاحظة وانتهاءً بالتجربة.
مظاهر تدمير العلوم الإسلامية:
1– نوعية الطلبة:
يُوجه إليه ثلاثة أنواع من الطلبة والطالبات، أما الصنف الأول: فهو الغالب والأكثر من فئة أصحاب المعدلات المنخفضة في شهادة البكالوريا، ممن لا يُقبَلون في أي تخصص آخر، ويبقى فقط في وجههم هذا التخصُّص فيقبلون عليه مكرهين فاترين ضعيفين مشلولين.. ريثما يتدبَّرون أمرهم، وهذا الصنف غالبيته من الفتيات ممن لم يقرأن كتابا واحدا أو قصة دينية في حياتهن العلمية كلها، ولا يعرفن سوى الهاتف النقال ومواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الشبكة العنكبوتية المدمِّرة.. عدا معارف شهادة الباكلورية فقط، وهن فارغاتٌ من معارف الدين الأساسية، كما أنهن لم يتلقين تربية دينية أو فكرية أو ثقافية أو أدبية سوية في أسرهنّ، فيدخلن على العلوم الإسلامية ولا يعرفن ولا يؤدين فريضة الصلاة، ولا يعرفن أي ذكرٍ أو حديث، أو دعاء..
أما الصنف الثاني: فهم الطلبة السلفية وغالبيهم ضعيفٌ ومشلول وغائب العقل ومسكون بالعُقد المرضية القبلية، فالناس كلهم عنده: إما كفار، أو مشركون، أو ملحدون، أو مبتدعون خطيرون، أو فساق، أو رعاع وغوغاء..
وهذا الصنف –للأسف- أرسلته جهتان تآمريتان كيديتان، إحداهما: للتشويش على المشهد الديني السليم من أن يستمرّ في أداء دوره الرسالي، وثانيهما: هي المرجعية السلفية الضالة المضلة، التي ترسلهم ليُفسدوا من جاء من الطلبة بنيَّةٍ سليمة لمتابعة دراسته، فيحجبونه بدعايتهم المضللة عن حضور المحاضرات والاكتفاء بالتطبيقات بحجة أن الأساتذة مبتدِعة ومتصوفة ومعتزلة وأشاعرة ومالكية، أو ربما ألصقوا بهم – كذبا وزورا وتآمرا – تهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، أو تيار الجزأرة.. أو غيرها من التهم التي يرسلها كبير الدعاة (فركوس وشلته) فيصرفون بدعايتهم تلك بعض المشلولين عقليا عن حضور المحاضرات وخلق المشاكل للأساتذة والأستاذات على وجه الخصوص بغرض نيل النقاط ولو بالغش والعدوان وتخويف الإدارة، التي تداريهم خوفا من شرورهم..
أما الصنف الثالث: وهو الصنف الذي فيه السلوة والطمأنينة، وهم من قدامى الخريجين، ممن التحقوا بالإمامة أو التدريس، ثم لدواعي الترقية في المنصب طُلب منهم أن يتابعوا دراستهم في الماستر، وهم البقية الصالحة من طلبة العلم، والذين يعرفون لذَّته بعد طول حرمان، ولكنها فئة سلبية لا تقدِّم للعمل الدعوي أي دور ودعم كبقية الشعب الجزائري السلبي أيضا، ولكنهم هم الذين ينشطون العملية التربوية والتعليمية، مع بعض الاستثناءات من الطالبات وبعض الطلبة السلفيين أو ممن لم يصغوا للدعايات المضادّة. ومع هذا الصنف يموت كل شيء من معارف الوحي.
2 – قيمة المعارف:
تم اختصار واختزال وقضم واستبعاد الكثير والكثير من المعارف والعلوم الدينية الأساسية، وتفنن المستتبعون من أتباع عبيد العبيد المفرنسين في صناعة برامج تعليمية أسوأ مما كانت تقدمه مدارس (الفرنكوميزيلمون-Franco-musulman) في العهد الاستعماري، 1860-1960م وتُرك الطالب لقوافل الفاشلين والكسالى من الأساتذة والأستاذات ليقدموا له المطبوعات الهزيلة جدا كي يحفظها ويجيب على الأسئلة المباشرة أو الرقمية لينجح إلى السنة الموالية مرتاحا متنعما في جهله، وصار الطالب يتخرج وهو لا يعرف أسماء كتب التخصص، ولا كيف يُرقع الصلاة، أو ما هي البيوع المحرَّمة، أو كيف تُعرف الأحكام بأدلتها الشرعية، أو كيف تُوظف القواعد الأصولية في تخريج الفروع على الأصول، أو كيف يكتب مقالا علميا، فضلا عن أن يستطيع أن يُنجز مذكرة ليسانس أو ماستر ذات قيمة علمية ودينية.. لأن (95%) من رسائل الماستر لا قيمة لها بعد اطلاعي على المئات منها، وهو ما سنعالجه بالتفصل والدليل في مقال (تقييم تجربة مذكرات الماستر خلال عقد 2008-2019م) لاحقا.
يُضاف إلى هذه المخازي البشرية والنوعية والمعرفية توقيتٌ زمني عامر بالفراغات، فمساء يوم الأربعاء ويوم الخميس والجمعة والسبت فراغ يعود فيه الطلاب إلى بيوتهم عوض الذهاب إلى المكتبات المليئة بالكتب والفارغة من الطلاب.. كما يتخرج طالب العلوم الإسلامية منذ عقد من الزمن 2008-2019م وهو لا يحفظ حزب (عما) أو (سبّح)، ويتم التستر على هذه الجريمة من قبل القائمين عليها، وقد قمتُ بجملة من الدراسات الميدانية على ثلثي طلبة الكلية فهم لا يحفظون من القرآن شيئا حتى المطلوب منهم بعد خمس سنوات من الدراسة والمقدر بثلاثين حزبا، وهذه مصيبة عظمى يجب أن تتوقف، فكيف لخريج علوم إسلامية لا يحفظ حزبا من القرآن؟ بل يتفقون مع الأساتذة اتفاق الغدر والخيانة على إسقاط كل الأحزاب والاكتفاء بنصف حزب أو ربع يمتحنون فيه وينجحون..
وهكذا يتخرَّج جيلٌ شبه أمي في العلوم الإسلامية يحمل شهادة ليسانس وماستر لا يستطيع أن يُصلي بالناس، أو أن يُقدم موعظة أو كلمة تأبين أو ترحيب بمناسبة دينية.. وهكذا تدمر مجزرة ومحرقة الـ (L.M.D) الاستعمارية العلوم الإسلامية ومستقبل المعارف الدينية في الجزائر بأيد جزائرية الشكل استعمارية العقل والقلب والروح والهوى والهدف والاتجاه والغاية.. والسؤال يوجه اليوم إلى السلطة الفعلية –كما يقول الراحل عبد الحميد مهري- هل ترضون لمستقبل الجزائر الديني أن يُدمره عبيد الاستعمار؟ وهو سؤال اختبار نيّات ومصير، وفي انتظار ذلك اللهم اشهد أني بلغت، وما رضيت بالهوان والذل والخراب، والله على ما أقول شهيد.
(المصدر: بوابة الشروق الالكترونية)