مقالاتمقالات مختارة

“أنا أُنفذ الأوامر”.. كيف يتحول الناس إلى أشرار؟

“أنا أُنفذ الأوامر”.. كيف يتحول الناس إلى أشرار؟

بقلم سامح عودة

ينبغي اغتصاب كل النساء قبل قتلهن

بهذه الكلمات، ذات الدلالات الواضحة، أمرت وزيرة شؤون المرأة والأسرة في رواندا “باولين نيراماسوهوكو” قبائل الهوتو، بألّا يرحموا قبائل التوتسي، فهم ليسوا بشرًا بل هم أدنى من ذلك وأقل. كان ذلك مفاد خطابها، وخطاب الحكومة بالتبعية. لم يكن الأمر منتشرًا إلى هذا الحد حتى قام أحد قادة الهوتو، وفق بعض الروايات، باغتصاب ابنة صديقه السابق من التوتسي، ثم تركها لأتباعه يكررون الأمر نفسه، قائلًا لها: “لن نهدر عليك الرصاصات، سوف نغتصبك، وسيكون ذلك أكثر سوءًا بالنسبة لك”[1].

هذا ما حدث قبل ربع قرن، في ربيع 1994 تحديدا، حين اتَّبعت قبائل الأغلبية من الهوتو في رواندا طريق القتل الممنهج الوحشي داخل تجمعات إخوانهم وجيرانهم من أقلية التوتسي، بإيعاز من الحكومة، في حرب أهلية غير متكافئة، بلغ فيها القتل والاغتصاب مبلغهما من الوحشية التي يصعب تصورها، لقد كان الأمر أعقد من شرحه ولا يغني لتصديقه إلا أن تراه.

لم يمر الكثير، فقط مائة يوم، كانت كافية لإرداء 800 ألف قتيلًا من التوتسي، قتل الجيران جيرانهم، كما قتل بعض الأزواج زوجاتهم المنتميات للتوتسي حتى لا يُقتلوا هم. وكانت بطاقات الهوية الشخصية في ذلك الوقت تتضمن تحديد الانتماء العرقي، ومن ثم أنشأت الميليشيات نقاط تفتيش في الطرق لإبادة طائفة مثّلت -قبل هذه الإبادة- نحو 15% من الشعب الرواندي[2].

كان للأمر خلفياته السابقة من سيطرة التوتسي على الحكم بتصدير من الاحتلال البلجيكي، لكن حتى وإن كان الخلاف سياسيًا بهذا الاحتدام، فهل يبرر ذلك اغتصاب امرأة أربعينية أمام أبنائها الذي أُجبِروا على مساعدة المغتصبين والفؤوس على رؤوسهم؟، هل يبدو منطقيًا أن تقتل إحدى النساء أطفال جيرانها المقربين، الذي لقوا حتفهم بعيون ملأتها الدهشة، وهي تظن أنها بذلك تُسدي إليهم معروفًا يُنقذهم من اليُتم؟[3]. دعني أُنقذك من اليُتم لأني قتلت والديك، هل تتصور الأمر؟!

على كل حال، وبعيدًا عن الهوتو والتوتسي، فإن في محيطنا العربي ما يُغني عن الاستشهاد بغيره. في نشرة الأخبار، أو مقاطع اليوتيوب، ستبدو لنا البراميل المتفجرة وهي تُلقَى على المدنيين العُزّل في سوريا، ونرى الأطفال في تشنّجات الوفاة إثر غاز السارين السام[4]. سنرى كذلك قنّاصًا يراهن زميله على اقتناص رأس الجنين في بطن أمه[5]، وسنرى قبلها في حماة في عهد حافظ الأسد وسجونه، وسجون عبد الناصر في مصر، وصدّام في العراق، والقذافي في ليبيا، وغيرهم من السابقين، والحاليين، أصنافًا من القسوة التي لا تنتهي، ناهيك عمّا يفعله الاحتلال الصهيوني بفلسطين منذ عقود.

لماذا يفعل الإنسان كل هذا؟ هل نحن أشرار بالفطرة؟ أم أن للبيئة والملابسات والسلطة أثر في كل ذلك؟ هذا هو السؤال الذي شغل علماء نفس الاجتماع على مدار القرن السابق، فأفردوا له عددًا من التجارب؛ أملًا في الإجابة عنه، ولعل أشهر تجربتين في هذا الصدد هم تجربتا “سجن ستانفورد” و”مليغرام” اللتين أجراهما العالمان “فيليب زيمباردو” و”ستانلي مليغرام” على الترتيب. فكيف يمكننا، في ضوء التجربتين وغيرهما من التجارب، تفسير أثر الشيطان الدموي على البشر؟

سجين أم سجّان؟

في صيف 1971، أعلن أستاذ النفس الاجتماعي بجامعة ستانفورد “فيليب زيمباردو” عن حاجته لمتطوعين من الطُلّاب؛ لإجراء تجربة بحثية عن التأثير النفسي لحياة السجن، على السجين وسجّانه، لقاء خمسة عشر دولار في اليوم، وهو ما أتى إليه بالعديد منهم؛ حتى تمّت تصفيتهم إلى ثمانية عشر طالب مشارك وأربعة وعشرين تحت الاحتياط، راعى في فحصهم الدكتور “زيمباردو” وفريقه أن يكونوا على أعلى درجة من الاتزان النفسي والسلامة من الشُبهات الإجرامية وسوابقها.

على طاولة المقابلة، واجه المتقدمون عددًا من الأسئلة التي احتوت على سؤال تشابهت إجاباته لدى أكثرهم: إذا تم اختيارك إلى هذه التجربة، هل تفضل أن تكون سجينًا أم سجّانًا؟ “سجين.. لا أحد يحب الحراس.. لا أعتقد أني أمتلك مواصفات حارس….”، كانت تلك التفضيلات الخاصة لهم، ولكن قطعة معدنية حسمت الأمر فلبّت طلب تسعة منهم وخالفت رغبة التسعة الباقين.

منتصف أغسطس/آب من الصيف نفسه كان موعد البدء، بدأت شرطة “بالو ألتو” بإلقاء القبض على الطلّاب من منازلهم بتهمة السرقة، وفي مسار طبيعي، خاض السجناء طريقهم إلى قبو قسم علم النفس بجامعة “ستانفورد”، فبعد التصوير وأخذ البصمات سلّمتهم الشرطة إلى سجن الدكتور “زيمباردو” الافتراضي، المُراقب بالصوت والصورة، معصوبي الأعين ومُكبّلين، لتبدأ واحدةً من أكثر الأشياء رعبًا في تاريخ علم النفس الحديث.

ارتدى الحراس ملابسهم الرسمية ونظّارات شمسيةً عاكسة، لمنع التواصل البصري مع المساجين، بالإضافة لامتلاك هرّاوات وعصي تضيف على المشهد واقعيته. بينما ارتدى السجناء، بعد تفتيشهم عراةً، ملابسًا وضيعةً من قطعة واحدة، لا تسترهم بشكل كلي، وجواربًا نسائيةً على رؤوسهم عِوضًا عن حلاقتها، مع استبدال أسمائهم بأرقام على الصدر تعرّفهم، ليمرّ اليوم الأول بلا شيء يذكر، سوى تعليمات السجّانين الطاغية لحفظ الانضباط في المكان، وابتكار بعض الأساليب البدائية في معاقبة المخالفين، كتمارين الضغط.

في اليوم الثاني بدأت حالات من التمرد بين السجناء على هذه المعاملة المهينة؛ بأن خلعوا غطاء الرأس ونزعوا الأرقام وتحصّنوا داخل زنزانتهم، وهو ما تبعه تطور مقابل من الحراس، الذي طلبوا دعمًا، وتمكنوا من اقتحام الزنازين، ومن ثم فرض عقوبات صارمة على قادة التمرد بإلقائهم في زنزانة مفرّغة من المفروشات والأسرّة، مع إعطاء مميزات للسجناء المسالمين، والذين تم نقلهم إلى زنزانات سيئة، والعكس للمتمردين، ليدبّ الشك بينهم، في حيلة نفسية مشهورة، كما يحدث بالسجون الحقيقية.

إهانات متواصلة، طغيان متطور لا يتوقف عند حد، انسحاب أحد السجناء بعد معاناته من اضطرابات نفسية، طعام سيئ، إجبارهم على إهانة بعضهم، تحرش جنسي بدا في النوبة الليلية حينما ظن الحرّاس أنهم غير مراقبين. لقد تفاقم الأمر في ستة أيام فقط لتدخل “كريستينا ماسلاش”، مساعدة “زيمباردو” التي قدمت لتوّها وزوجته فيما بعد، للاعتراض على كل هذا وتجبر الأخير -تحت تأثير لومها- على إيقاف التجربة فورًا، والتي اعتبرها “زيمباردو” تجربةً غير أخلاقية للدرجة التي سيطرت عليه هو نفسه حتى غفل عن إيقافها دون تنبيه.

أشرار أم متحولون؟
كتاب “تأثير لوسفير” لـ “زيمباردو” (مواقع التواصل)

في كتابه “تأثير لوسفير”، أو “تأثير الشيطان” في ترجمته العربية، سرد “زيمباردو” تجربته تلك، مجادلًا بها حول ما اعتقده تفسيرًا للشر الحادث في السلوك البشري، فيقول أن ثمّة رؤيتين لتفسير الأمر، أولاهما الرؤية النزوعية التي تُرجِع السلوك إلى نوازع فطرية داخل الإنسان مثل البنية الجينية، والسمات الشخصية، والشخصية ذاتها، والإرادة الحرة، وبعض النوازع الأخرى، أي أننا في حالة سجن ستانفورد سنبحث لهذا السلوك العنيف عن ميول ساديّة داخل المرء.

بكلمات أخرى: ترى هذه النزعة أن الشر نزعة يمتلكها المرء أكثر منه نتيجة للظروف، وهو تحليل يتوافق مع بعض النظريات التحليلية في علم النفس، كالتحليل النفسي عند “فرويد” الذي يعد العنف دافعًا مولودًا فينا، وهو ناتج عن الصراع بين اللبيدو -غريزة الشهوة والإبقاء على الحياة- وغريزة ثاناتوس المسماة بغريزة الموت، والتي تتجه نحو الدمار وإنهاء الحياة، “وتحقق هذه الغريزة الهدف الأقوى في النفس الإنسانية، وهو الرجوع إلى حالة ما قبل الحياة، إلا أن هذه الغريزة إذا ما أحبطت، فإن طاقتها ستتوجه نحو الغير بدلًا من توجهها نحو الذات”[6].

أما الرؤية الثانية التي رأى “زيمباردو” أنها تفسر الأمر فهي الرؤية الظرفية/الموقفية التي تبحث “عن المدى الذي يمكن معه إرجاع أفعال الفرد إلى عوامل خارجة عنه مثل المتغيرات الظرفية والعمليات البيئية الخاصة بمحيط معين”[7]. ولهذه الرؤية يميل علماء النفس الاجتماعيون وعلى رأسهم “زيمباردو” نفسه، فهو يرى أن الرؤية الأولى أشبه بنموذج الرعاية الطبية التي تبحث عن منشأ الخلل في المريض نفسه، بينما تتمثّل الرؤية الثانية في نموذج الصحة العامة الباحث في نواقل البيئة وظروفها عن أسباب المرض، ومن ثم الاهتمام بمواجهة بيئة الوباء على سبيل المثال. وفق المقاربة النزوعية سنقدّم للطفل الذي يظهر ضعفًا في قدرته على التعلم علاجات طبية وسلوكية مختلفة لمساعدته على تجاوز إعاقته، في حين أن سبب المشكلة في بعض الحالات وخاصة بين الفقراء هو استنشاق الرصاص الموجود في الدهانات المتقشرة من حوائط منازلهم، وهو الأمر الذي يزداد سوءًا حالة الفقر الشديد، فهكذا تكون المقاربة الظرفية.

       

هذه المنظورات البديلة، كما يقول “زيمباردو” ليست “مجرد اختلافات في التحليلات التصورية، لكنها تؤدي إلى طرق شديدة الاختلاف في معالجة المشكلات الشخصية والاجتماعية”[8]. في هذا الصدد تقابلنا النظرية السلوكية التي تعطي اهتمامها المركزي لبيئة الشر التي تحولنا إلى مجرمين[9]، أي أن توقفنا عن كوننا أشرارًا يحدث في اللحظة التي تتغير فيها البيئة من حولنا لتعلّمنا سلوك الخير.

لكن، وعلى مسافة وسيطة من الرؤيتين، نجد نظرية علم النفس الإدراكي/المعرفي برؤيتها التفسيرية للسلوك؛ إذ تراه نتاجًا لطريقة فهمنا وإدراكنا للواقع، فالمشكلة ليست في بيئة الشر بقدر ما هي متعلقة بطريقة فهمنا لهذه البيئة وتحليلنا لواقعها[10]، وهنا تعود المسؤولية مرة أخرى على عاتق الإنسان، اتفاقًا مع النظرية الوجودية التي تفسر الشر على أنه خيارنا الخاص الذي يجب أن نتحمل مسؤوليته[11].

بالعودة إلى ستانفورد، فإن “زيمباردو” بحث في دور المكونات الثلاثة في عملية تحول السلوك: الفرد، الموقف/الظرف، النظام/المؤسسة. ففي الجانب الأول أشارت الاختبارات المُجراة قبل التجربة أن المتطوعين كلهم في حالة نفسية طبيعية ولا يعانون من اضطرابات فارقة من شأنها أن تدفعهم لانحراف سلوكي، بل إن ممارسي دور الحرّاس عادوا إلى حياتهم الطبيعية بعد التجربة ولم يظلّوا بهذا الشر في واقعهم الحقيقي. تمامًا كما صرّح أحد الخبراء النفسيين، الذين فحصوا ضابط الهولوكوست الألماني “أدولف أيخمان” قبل محاكمته، متعجبًا: “إنه أكثر طبيعية مني أنا بعد أن فحصته!”، في حين وجد آخر أن وضعه النفسي العام، وسلوكه تجاه زوجته وأطفاله وأمه وأبيه وإخوته وأصدقائه كان طبيعيًا بل ومرغوبًا[12].

كما تذكر المتخصصة النفسية “بسمة عبد العزيز” أن “تمييز القائم بالتعذيب عن أي شخص آخر أثناء مقابلة عادية لا يبدو سهلًا أو حتى ممكنًا، ويؤكد الباحثون أن اعتقاداتنا وتصوراتنا عن الجلاد باعتباره شخصًا مخيفًا يتسم بالسادية وانعدام المشاعر هي علميًا محض خيال، لا أساس له من الصحة، وأن أي شخص يبدو عاديًا بيننا وغير لافت للنظر على الإطلاق، بالإمكان أن يصبح، أو أن يكون فعليًا، ضالعًا في تعذيب آخرين”.

وتضيف أنه “قد يتّسم بعض القائمين بالتعذيب بكونهم أفرادًا سُلطويّين، يكتنفهم الغموض، ويمتلكون ذوانًا متضخمة، بل ولديهم شعور زائد بالعظمة في بعض الأحيان، لكن السمة الأكثر تكرارًا وثباتًا وإثارةً للدهشة، والتي يأتي ذكرها دائمًا في شهادات الضحايا وملاحظات علماء النفس، هي أن هؤلاء الجلادين يبدون أشخاصًا طبيعيين تمامًا، بلا انحرافات واضحة ولا سمات نفسية بارزة تلفت الأنظار، بل إن المفاهيم الأساسية المُتداولة التي يقوم عليها علم النفس المرضي، تظهر فشلًا ذريعًا في تعريفهم أو تمييزهم، أو حتى فهمهم بوضوح”[13].

أما في الجانب الآخر، وهو الظرف/الموقف، فإن “زيمباردو”، وقبله “ميلي تليغرام” قد رأيا من خلال تجربتيهما أن ثمة علاقة تربطه بالجانب الثالث، النظام/السلطة للموقف والسلطة التي تحميه في تحويل الأشخاص لأدوات شريرة تقتل مئات الآلاف في أشهر قليلة، أو تغتصب آلاف السيدات بوحشية دامية، دون أن ينهيهم الصراخ والتوسلات، ولكن من خلال آليات تبدو بسيطةً حين طرحها ويتضح أن أثرها غاية في التعقيد.

أنا أُنفِّذ الأوامر!

“عندما تفكر في التاريخ الطويل القاتم للبشر، ستجد أن أفظع الجرائم اُرتِكبَت باسم الطاعة أكثر منها باسم التمرد”

[تشارلز بيرسي سنو]

في كتابها “أيخمان في القدس” والمعروف بـ”تفاهة الشر”، تروي “حنة أرندت” قصة محاكمة الضابط الألماني المذكور، والذي لعب دورًا محوريًا فيما حدث لليهود على يد النازية خلال الحرب العالمية الثانية، فتقول أن دفاعه عن نفسه أثناء المحاكمة انحصر في جملة بسيطة: “لقد كنت أنفذ الأوامر”. وهو ما يقودنا لبحث هذا الأثر الكبير للسلطة على تحويل أكثر البشر سواءً إلى أشرار متمرسين.

 كتاب “أيخمان في القدس” المعروف بـ”تفاهة الشر” لـ “حنة أرندت” (مواقع التواصل)

لفهم ذلك، نعود بالزمن نحو ستة عقود، وتحديدًا في (يوليو/تموز) من عام 1961م بجامعة ييل (Yale)، حيث أجرى عالم النفس الاجتماعي “ستانلي ميلغرام” تجربته لقياس مدى انصياع الإنسان للإيذاء وفق توجيهات الآخر، فأعلن عن تجربته، ولكنّه لم يُعلن الغرض الحقيقي منها، فأخبر المشاركين أن الدراسة تقيس-فقط- العلاقة بين العنف وأثره على التعليم والذاكرة.

ثم بدأت التجربة بتقسيم المشاركين إلى (أ) و(ب)، على أن يؤدّي الأول دور المُعلِّم ويقوم الثاني بدور التلميذ، مع وضع كلًا منهما في غرفة لا يرى فيها الآخر، ثم يسأل (أ)، فإن أخطأ (ب) الإجابة يصعقه (أ) بالكهرباء، على أن تزيد شدة التيار في كل مرة عن سابقتها بمقدار 15 فولت، بدأت من 15 وانتهت بـ450 فولت. ورغم أن (ب) كان متواطئا مع البروفيسور ولم يكن يعاني في الحقيقة من الصعقات المُوجهة له إلا إنه كان يمارس الصراخ من غرفته المجاورة والضرب على الجدار أحيانًا متوسلًا لتوقّف التجربة.

لكن، وعلى الرغم من أن 3% فقط -وفقا للاستبيان النظري- قد أظهروا استعدادًا لبلوغ الحد الأقصـى من شدة التيار لصعق (ب) -450 فولت- إلا أن 65% منهم قد وصلوا بالفعل لهذا الحد، خاصةً بعدما أُخبِروا بأنهم لن يتحملوا المسؤولية القانونية لما يحدث، وأن استمرارهم ضروري حسب الاتفاق. ويعلّق “ميلغرام” على هذه النتيجة قائلا: “النتائج كما تابعتها في المختبر مقلقة، إنها ترجح أن الطبيعة البشريـة غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعد الإنسان عن القسوة، والمعاملة اللاإنسانية”[14].

هل انتهى الأمر؟ ليس بعد، ففي نسخ أخرى من التجربة أُقيمت خارج الجامعة، أو كان الشخص الآمِر بالصعق يأمر من خلال الهاتف دون الوجود في غرفة المتطوع (أ)، أو أن المتطوع (ب) كان موجودًا في الغرفة نفسها مع (أ) فإن مستوى الانصياع كان أقل من سابقه، مما يعني أن المؤسسة تلعب دورًا محوريًا في بسط سلطتها، كما يؤثر وجود صاحب السلطة بشخصه في شدة الانصياع له، تمامًا كما يسفر عزل الجلاد عن ضحيته عن نتيجة أكبر من الإذعان[15].

وبالحديث عن المؤسسة، فإن “زيمباردو” يسوق تجربة “مليغرام” في كتابه، ذاكرًا إحدى ملاحقها التي أُجريت بشكل مختلف أثبت أن كل شخص تقريبًا يملك القدرة على الطاعة وكل شخص يملك القدرة على مقاومة ضغط السلطة. فللحصول على طاعة كاملة، يجب وضع المتطوعين ضمن فريق تدريس، يقوم فيه عضو غيره (حليف) بضغط زر الصعق بينما يمارس المتطوع لوظيفة أخرى داخل فريق العقاب هذا. بينما يمكن الحصول على نتيجة عكسية تمامًا إذا تم تصدير مجموعة مزيفة من المتطوعين يرفضون صعق الآخر، فيتحمّس المتطوع الحقيقي لرفض البطش لوجود ما يدعمه، وهو ما كان بالفعل.

ويضيف “زيمباردو” أن تجربة “مليغرام” قد ألمحت لميكانيزمات الأنظمة الديكتاتورية في التعامل مع جنودها وأدواتها من البشر، لقهر الآخرين، بأنها تعطي للمشاركين بها وظيفةً ذات معنى (معلم)تحمل قيمًا إيجابية وتحفز لديهم ردود فعل مخزونة فيهم، مع تقديم قواعد أساسية يتبين أن لها مغزى قبل استخدامها لكنها في الحقيقة تُستخدَم بشكل تعسّفي لتبرير الطاعة العمياء، مع تغيير مسمى الفعل والفاعل والتنفيذ، من تعذيب الضحية إلى مساعدة الباحث، وخلق فرصة للهرب من مسؤولية هذا التعذيب بتحمّل الآمِر لها.

تلعب الأيديولوجيا دورًا هامًا في تبرير السلوك المطلوب، وتلك دائمًا هي أداة الطغاة، فالتوتسي في رواند قُتِلوا باسم الأيديولوجيا أكثر مما أبادتهم أي كذبة أخرى

أيضًا، فإن التدرّج في الشر يمثل ميكانيزمًا هامًا في توريط المرء بالشر من قِبَل السلطة، فبدء الفعل بخطوة بسيطة، تتدرج في التفاقم، يجعل الممارس منزلِقًا في الشر دون أن يُلاحظ، فخمسة عشر فولت من الكهرباء لن تشكل فارقًا، لكنها وصلت إلى 450، أي ثلاثين ضعفًا، دون أن ينتبه لها القائم بالعمل، وهو ما حوّل الباحث نفسه من شخص عادل عقلاني إلى ظالم وغير عقلاني بالمرة، فقط.. من خلال التدرّج.

كذلك تلعب الأيديولوجيا دورًا هامًا في تبرير السلوك المطلوب، وتلك دائمًا هي أداة الطغاة، فالتوتسي في رواند قُتِلوا باسم الأيديولوجيا أكثر مما أبادتهم أي كذبة أخرى، وما يفعله الاحتلال الصهيوني من جرائم هو أيضًا باسم الأيديولوجيا، وغير ذلك من الأمثلة التي لن تنتهي. شيء آخر يعيق عملية التمرد على السلطة: رفع تكلفة الخروج “لا يمكنك التوقف.. أنت ملزم باتفاق.. لا بد أن تستمر.. لقد بدأت الأمر وعليك إنهاؤه…” إلى آخر تلك الجمل التي استخدمها “مليغرام” لإثناء المشاركين عن توقفهم، فلا بأس من فتح متنفس للتمرد اللفظي مع إبقائهم منصاعين من جهة السلوك.

فالتحول إلى جزء من المنظومة “يشكل وجهات النظر، ويكافئ الاستسلام للأفكار السائدة ويجعل الذوذ عنها أمرًا صعبًا”[16]. وحسب عالم الاجتماع “جون ستينر” فإنه لا يمكن تعميم السادية -كصفة شخصية أساسية- على كل من تورطوا في أعمل عنف؛ ذلك لأن “من يستمر في دور لا يعكس شخصيته يكون في الغالب قد غيّر من قيمه الشخصية أي أنه تكيّف مع المُتَوَقّع منه في ذلك الدور”[17].

لأنكم مجهولون.. ولأنهم حشرات

“بالتأكيد سيغير هذا الرداء من حالتي المزاجية”

[وليام شكسبير]

في روايته “أمير الذباب”، اقترح “وليام جولدنج” أن تغييرًا بسيطًا في المظهر الخارجي للشخص يمكن أن يكون له تأثير قوي في سلوكه العام. ويروي “زيمباردو” عن تجربة شبيهة لتجربة “مليغرام” قد أجراها على مجموعتين من الفتيات اللاواتي طُلِب منهن صعق امرأتين بالكهرباء، مع إخفاء هوية فريق منهن وإظهار هوية الفريق الآخر، مع إيهامهن أن السيدتين تخضعان لدراسة تقيس قدرتهن على الابتكار تحت الضغط، وإيصال فكرة مفادها أن إحدى السيدتين لطيفةً والأخرى كئيبة، وصعق الفتيات بشحنة مقدارها 75 فولت لتخيّل قوة الكهرباء التي سيصعقون بها السيدتين.

رواية “أمير الذباب” لـ “وليام جولدنج” (مواقع التواصل)

هل يمكننا تخيل النتيجة؟ ببساطة إذن، أبدت الفتيات معلومات الهوية قدرةً على الاستمرار، في المحاولات العشرين لصعق كل من السيدتين، اللتين لم تُصعقا في الحقيقة، بلغت نصف قدرة الفتيات المحجوبات على الصعق، وفي حين أظهرت المجموعة الأولى تعاطفًا مع السيدة اللطيفة، أدّت المجموعة الثانية محاولات الصعق على السيدتين دون فرق يُذكَر، بتجاهل تام لأي مشاعر مسبقة، وهو ما رأى “زيمباردو” أنه حادث نتيجة شعور منعش بالتحكم في الغير، لا بفعل سادية الفتيات المجهولات، وهو ما تكرر في تجارب كثيرة على النمط نفسه.

لعل ذلك ما فسّر استعمال الحراس في تجربة ستانفورد للنظّارات الشمسية العاكسة، وقد وجد عالم الأنثروبولوجي “ر. ج. واتسون”[18] بأن حجب الذاتية، أو سلبها، يدعم السلوكيات المدمرة، فقد وجد أن من بين ثلاثة وعشرين أمة، تناولتها بيانات بحثه، كان هناك خمسة عشر شعبًا محاربًا يهتمون بتغيير المظهر الخارجي للجنود، وكانوا هم الأكثر تدميرًا في عينة البحث، وأن اثني عشر شعبًا منهم اتسموا بوحشية شديدة، على خلاف الجيوش الأخرى التي لم تتورط في سلوكيات تدميرية على الوتيرة نفسها، كما وجد أن 90% من المرات التي يُقتَل فيها ضحايا المعارك تكون على يد مقاتلين غيّروا مظاهرهم ودخلوا في سياق حجب الذاتية قبل الحرب.

ويُرجع “زيمباردو” هذا الأمر لسببين رئيسيين يساعد عليهما حجب الذات، أولهما تقليل إشارات ونماذج المحاسبة الاجتماعية أمام الفاعل -لا يوجد من يعرف من أنا ولا من يكترث بهذا- وبالتالي يُمنع الخوف من التقييم والقبول المجتمعي للشخص. والثاني هو تقليل الاهتمام بتقييم الذات، مما يُعطِّل مراقبة الذات ومراقبة الاتساق مع مبادئها، بالاعتماد على تكتيكات تغير من حالة الشخص الواعية، بحيث لا ينشغل الفرد بالمستقبل ويحول المسؤولية خارجًا تجاه الآخرين وليس داخليًا تجاه الذات. ومع تعطيل القيود الداخلية، يصبح السلوك خاضعًا بشكل كامل لتحكم الموقف الخارجي، فيتفوق الخارجي على الداخلي.

في محاكمات الهوتو بعد مذابح رواندا ذكر عدد من المتهمين أنهم لم يكونوا ينظروا للتوتسي على كونهم أصدقائهم القدامى، بل لم يكونوا يرونهم بشرًا من الأساس

على الجانب الآخر، فإن نظرة الجناة للمجني عليهم كان يلزمها هي الأخرى شيئًا من التغيير، بنزع صفة الإنسانية عنهم، ففي محاكمات الهوتو بعد مذابح رواندا ذكر عدد من المتهمين أنهم لم يكونوا ينظروا للتوتسي على كونهم أصدقائهم القدامى، بل لم يكونوا يرونهم بشرًا من الأساس وإنما محض حشرات وصراصير، تمامًا كما صرّح أحد القادة اليابانيين، حول قتلهم البشع للصينيين أثناء الحرب العالمية الثانية، قائلًا أن قتلهم كان يسيرًا على الجنود؛ “لأننا كنا ننظر إليهم على أنهم أشياء وليسوا بشرًا مثلنا”[19].

ففي تجربة “ألبرت باندورا” لقياس ذلك الأمر[20]، تم تقسيم مجموعة من الأفراد إلى ثلاثة مجموعات، تم وصف الأولى بمجموعة الحيوانات، في حين وُصِفت الثانية بمجموعة الأذكياء، وتُرِكت الثالثة بلا تصنيف، وكانت مهمة المتطوعين هي سماع نقاشات كل من المجموعات الثلاثة حول المشاكل المطروحة وتقييم حلولهم لها، بعد أن أعلم القائمون على التجربة المتطوعين بمعايير التقييم، على أن يتم عقاب مجموعات النقاش على الحلول الخاطئة بالصعق الكهربي المتدرج بعشر درجات من الشدة.

وكما كان متوقعًا، لعبت التصنيفات دورًا حاسمًا في مقدار الصدمات وتدرجها على مدار محاولات التجربة؛ لتتلقّى مجموعة الحيوانات أكبر قدر من الصعق -كمًّا وكيفًا- مقارنةً بالمجموعة المحايدة ومجموعة الأذكياء التي كانت أقل المجموعات الثلاثة تعرضًا للعقاب من المشاركين. مما يعني أن قدرة الأنسنة على تخفيف الإيذاء يقابلها عذابًا أكبر يبرره نزعها عن الشخص؛ لكونها تبرئ الذات وتشتت مسؤولية الفعل عن عاتق الجناة.

من المسؤول إذن؟
فيليب زيمباردو (مواقع التواصل)

تأسيسًا على المبتدأ، وكما قال “زيمباردو” في أكثر من موضع، فإننا في دراستنا لفهم أسباب الشر لا نبرره لمرتكبيها، بل يبقى الشر شرًا مهما كانت دوافعه، ولكنها محاولة للفهم والتفسير، ومن ثم إرجاع المسؤولية لأصحابها. ومما يمكن الاتفاق عليه هو وضوح التصور الديني لمسألة الشر ومسؤولية فاعله عنه، من خلال أربعة مشاهد[21]، أولهم المشهد المعرفي في إثبات التعبير القرآني لوجود الشر في النفوس “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” [الشمس: 7-8]، وأن الأمر يتوقف هنا على الطريقة التي يتعامل بها المرء مع نفسه، فيزكّيها للخير أو يركسها للشر، وهو ما يعيدنا للنقطة المركزية في بحث “زيمباردو” عن تأثير الشيطان، وهي أن الخط الفاصل بين الخير والشر غشاء سهل الاختراق، وغير واضح.

كما أقر المشهد النفسي فكرة أثر السلطة على النفوس، ونجده في مباحث الإمارة والنهي عن طلبه، إضافةً للمشهد التشريعي الذي وضع حدودًا واضحة لمسؤوليات الأفراد تجاه بعضهم البعض في مختلف العلاقات، والمشهد العقابي الذي أتى لتأطير هذه المسؤوليات داخل إطار من العقاب لكل من انحرف إلى إيذاء الغير، واشتراط العفو منه، ومن ثم تحميل الجاني مسؤولية خطيئته.

وفي عمله “سيكولوجيا الشر بين النظرية والتطبيق”، يتناول الباحث “ثائر أبو صالح” جانب المسؤولية الحائر عند البعض بين الفرد وبيئته، فيذهب إلى أن السلوك الإنساني محكوم بمتغيرات تتفاعل مع بعضها لتنتجه. وتمثل طبيعة الإنسان، من أقصى الخيرية لأقصى الشر، أول هذه المتغيرات، بينما يتمثّل المتغير الثاني في البيئة التي يوجد بها الفرد، وهي تتفاضل بين قيمتين متناقضتين أيضًا هما الخير والشر، باختلاف درجاتهما.

وتظهر مسؤولية الحساب كمتغير ثالث يتفاعل مع المتغير الأول -طبيعة الإنسان- ويتأرجح بين قيمتين قصويتين: حضور المحاسبة، وغياب المحاسبة. ثم يأتي السلوك كحاصل التفاعل بين المتغيرات السابقة، ويمكنه بذلك إنتاج عدد لانهائي من أنماط السلوك التي يمكن اختصارها في أربعة أنماط جامعة: سلوك الخير المطلق، والشر المطلق، وسلوك يغلب عليه الخير، وآخر يغلب عليه الشر.

ومن خلال تباديل وتوافيق، يمكننا استنتاج أن الشر المطلق يوجد حيثما يجتمع الشر المطلق في الإنسان، مع نظيره في البيئة، في غياب أي محاسبة على مسؤولية الأفعال، وهي حالة فريدة لا تجتمع -حسب “أبو صالح- إلا في أعتى الديكتاتوريات، كما كان الحال في النازية والفاشية والستالينية، وهو ما يفسر لنا سلوك الذين وصلوا إلى 450 فولت في تجربة “مليغرام”. بينما ينتج الخير المطلق، كسلوك مثالي يصبو إليه المرء، في الحالة المقابلة تمامًا لحالة الشر المطلق، وفي الحالة التي يجتمع فيها خير الذات مع خيرية البيئة حتى في غياب نظام رقابي لأن الإنسان حينها يكون رقيبًا على نفسه.

مما سبق، يمكننا الانتهاء إلى نتيجة لا تعزل الإنسان عن مسؤولية شروره، وفي الوقت ذاته لا تعميه عن أهمية الوجود في بيئة تدعم خيريته، وحفظ نفسه من التعرض لأخرى لا تدعمها وتغيب فيها الرقابة والمساءلة، فيتحقق التوازن دون الإفراط في النزوعية التي تحجب أثر البيئة في تحويل السلوك، أو السلوكية التي تجعل المرء رد فعل للأحداث دون الأخذ في الاعتبار بطبيعته وتفاعله معها ومع الضغوط؛ لأنه على الرغم من ذلك تمكن ثلثا حرّاس ستانفورد من حفظ معدل أعلى لإنسانيتهم، وتمكن الأقلية في تجربة “مليغرام” من التمرد على السلطة الآمرة بالتعذيب.

كما يختتم “زيمباردو” كتابه بفصل كامل عن الأبطال العاديين الذين استطاعوا مقاومة أمرًا مؤذيًا، ولم يتقاعسوا عن نصرة المظلومين، على الرغم من تعرضهم لبيئة الحدث ذاتها، بالقدر نفسه من الرقابة والمحاسبة، إلا أن طبيعتهم وقدرتهم على المقاومة كانت الكفّة الأرجح التي حفظتهم من الانزلاق تحت تأثير الشيطان.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى