مقالاتمقالات مختارة

“أم هارون” الدراما في خدمة “التطبيع”

“أم هارون” الدراما في خدمة “التطبيع”

بقلم عبد الرحيم العطري

في كل رمضان، يُصِرُّ عَرَّابو التطبيع مع العدو الصهيوني، على “مهاجمتنا” بحقن جديدة من “فنون” التطبيع، إنهم لا يعدمون الوسيلة، ولا ينتهون من ابتداع أكثر الأساليب خسة وقذارة، في محاولة يائسة لتزوير التاريخ وتزييف الوعي.

فبعد أن كانت استراتيجيات التطبيع تُعَدُّ سراً في المنتجعات البعيدة، وتدبر قسراً عبر مفاوضات سرية وممارسات خفية، صارت اليوم تشتغل علناً في سياقات اقتصادية لا تنتهي من مدح المنتجات الصهيونية واعتبارها الأكثر جودة وإنتاجية، إلى الدرجة التي باتت في بذور الطماطم والتمور المستوردة من سلطات الاحتلال، تستعمر موائدنا الرمضانية، ودون أن ندري أنها انزرعت وأثمرت في أراض، اغتصبت من ذلك الفلسطيني الذي حكم عليه بالتشريد والطرد إلى مخرجات “اتفاق غزة أريحا أولاً” وأخيراً.

وبما أن التطبيع السياسي قد نجح مع عدد من الدول العربية، التي لم تعد تجد أي حرج في فتح التمثيليات الدبلوماسية، وتنظيم اللقاءات والمشاورات وتبادل الزيارات، فإن عرّابي التطبيع من الجانبين يرون، بأن الخطوات الموالية، ينبغي أن تكون اقتصادية ولو بطريقة سرية، كأن لا يشار إلى موطن الصنع بالنسبة للسلع المستوردة، أو إضافة دول أخرى، تماماً كما يحدث اليوم مع التمور التي نفطر بها عندما يرفع الآذان.

لا تقف خطط التطبيع عند هذين المستويين السياسي والاقتصادي، بل إنها تستند إلى عناصر ثقافية وفنية بالدرجة الأولى، وهو ما يلوح في استقدام الوفود الصحافية والفنية إلى الأراضي المحتلة، وترويج خطاب يتوزع بين الإقرار بتفوق العدو ومظلوميته التاريخية، في استعادة مبطنة لأسطورة الهولوكوست ومعاداة السامية، والتي يواجه بها كل رافض لمنطق محو الذاكرة بهدف تكريس الاحتلال.

ولأن السيناريوهات لا تُستنفذ في هذا الباب، خصوصاً وأن صفقة القرن وما سبقها من صفقات، لم تستطع بلوغ مطمح التطبيع بشكل تام وناجز، فإن الحل سيكون في هذا الشهر الفضيل، كما شهور فائتة، مع الدراما التلفزية أساساً، وذلك عن طريق مسلسلي “مخرج 7″ و”أم هارون” وهما اللذان لا يختلفان من حيث أهدافهما المضمرة عن مسلسل سابق تحت مسمى “غرابيب سود” على سبيل المثال لا الحصر.

فلم يعد ممكناً في زمن التطبيع استعادة حروب الاستنزاف وتوكيد الصراع العربي الإسرائيلي، كما لاح بقوة الإبداع والبناء في مسلسل “رأفت الهجان” أو “دموع في عيون وقحة” أو “العميل 1001″، لم يعد مطلوباً اليوم، وفي ظل منطق “مخرج 7” وحقن “أم هارون”، سوى التطبيل للتطبيع وتعويم الخطاب لأجل بناء وعي زائف.

غني عن البيان أن المخيال الاجتماعي يتشكل اليوم، وفي جوانب كبيرة منه، بما يتم ترصيده من صور وعلامات ورموز قادمة من سجل الصورة أساساً، فالخطاب البصري الذي يتلقاه الأفراد اليوم عبر شاشات الهاتف والسينما والتلفزة، هو الذي يؤسس التصورات ويعيد بناء الاعتقادات والمواقف والتمثلات، وعليه فالمراهنة على السينما أو الدراما التلفزية لإنتاج خطاب الهولوكوست والإقرار بضرورة التطبيع، سيفيد كثيراً مع أجيال لا تتوفر لها “المناعة النضالية” وتدمن حالة “الاستبياع“.

لهذا لن يكون غريباً، مع كثرة التعرض لهذه “الغارات التمثيلية”، أن نجد من يردد عبارة “الاحتلال الفلسطيني” بدل “الاحتلال الصهيوني”.

تجدر الإشارة، إلى أن حقن أم هارون للتطبيع، أملاً في إعادة توضيب المخيال العربي، لم ينتجها الكيان الإسرائيلي، وإنما تم الإنفاق عليها من أموال الشعوب العربية الخليجية، وهنا مكمن الخطر، فلم يعد المحتل هو المدافع عن أطروحته، بل صار المهزوم هو الذي يستعير خطاب التطبيع ويروج له وينفق عليه. فهل صار أشقاؤنا هم الطابور الخامس الذي يحمل إلينا الهزيمة والنكسة، ومن الداخل لا الخارج؟

لا ينبغي أن ننسى أن التطبيع له هدف رئيس، يُستشف من بنيته الدلالية اللغوية، وهو العودة بالأشياء إلى الطبيعي والعادي والاعتيادي، على أساس إخراجها من حالة الاحتراب والصراع والعداء، إلى حالة من العلاقات المتبادلة والتعاونية.

ولكن الانتقال من وضع إلى آخر لا يكون إلا بالعودة إلى ما قبل وعد بلفور، وليس إلى صفقة القرن، التي يريد عرابوها تحريف التاريخ والجغرافيا، لأجل كتابة “نص ثقافي” جديد عنوانه التطبيع ومضمونه الاحتلال، وهو ما لاح في هذه المسلسلات التي تتحدث عن الانتداب البريطاني لإسرائيل وليس لفلسطين كما تعلمنا في دروس التاريخ.

في هذا السياق يأتي مسلسل أم هارون، ليعزف موسيقى التاريخ المشترك والعيش المشترك في محاولة لتلميع صورة اليهود داخل المجتمعات العربية، وهنا مكمن الالتباس، لأن هذه الدراما تغير مسار النقاش من واقعة الاحتلال الصهيوني إلى وضعية الأقليات الدينية، وهو ما لم يكن مُشكلاً بالمرة في تاريخ الشعوب العربية، التي احتضنت في مدنها العتيقة مختلف الحساسيات الاجتماعية والدينية بما فيها اليهود.

فهذه الدراما تعمل على “أسطرة” اليهودي وتقديمه بصورة المتعايش والمتعاون والمندمج في المجتمع العربي وأنه الذي أدى الثمن غالياً، معاناة ووصماً وتهجيراً قسرياً، تمهيداً للقبول بالوضع القائم في دولة فلسطين المحتلة، والاعتراف بالحاجة إلى التطبيع المفترى عليه.

تريد هذه المسلسلات، وباعتبارها قوة ناعمة، أن توهم المشاهد العربي بأن ما عاشه الفلسطينيون مع التهجير والطرد والاحتلال، لا يصل بالمرة، من حيث المعاناة والمرارة، إلى درجة ما اختبره اليهود في كثير من الدول العربية، ولهذا فمن حق الكيان الإسرائيلي” أن يطالب العرب اليوم، بتعويضات عن “الظلم” الذي استهدف اليهود. هنا الجلاد يصير ضحية، ويتوجب “تعويضه” عن سنوات المعاناة بتمكينه من الأرض التي اغتصبها، والبصم بالعشرة على صفقة القرن.

يوما ما طرح علينا أستاذ الرياضيات في الصف الإعدادي سؤالاً مربكاً: هل يمكن تربيع الدائرة؟ وكيف يتأتى ذلك؟ بمعنى هل يمكن تغيير شكلها من دائرة إلى مربع؟ تركنا أستاذنا نتوزع شيعاً في اقتراح الإجابات، والتي تراوحت في غالبيتها بين الممكن والمستحيل، لينهي جولات النقاش قائلاً: “حذار من الانجرار وراء وهم تربيع الدائرة ضداً على بنيتها الأصلية، فالتربيع لا يعني والحالة هذه، تشطيرها إلى أربعة أقسام، فذلك أمر ممكن للجميع، ولكن المقصود هو تغيير الشكل من بنية الدائرة بقطرها وشعاعها ومركزها ومحيطها إلى بنية المربع بأضلاعه المتساوية طولاً وعرضاً.

ليس الأمر مستحيلاً بالمرة، ولكن هذا التحوير يقتضي التخلص من بعض الأجزاء وإعادة بناء الواقع من جديد، سنرسم مربعاً جديداً وسط الدائرة، وسنبدأ في طرد الأشكال غير الضرورية، والتي تترتب عن الرسم الجديد، فحذار من الانجرار وراء وهم تربيع الدائرة، لأنه خيانة وتزوير للنص الأصلي”.

لربما لا يختلف التطبيع عن التربيع المشار إليه في هذه الحكاية، ولا يختلف عن التركيع باعتباره إجباراً على الركوع لما لا تؤمن به، إنه فعل تعسفي جائر، يروم تغيير المخيال والمعتقد، ويفرض علينا الإذعان والخضوع لخطاب مزيف للحقائق والوقائع.

بل إنه “يجتهد” على درب المغالطة والإرباك وصناعة الالتباس، في سبيل تدوير وتحوير الصراع من واقعة الاحتلال إلى المظلومية ومعاداة الدين اليهودي، وهو ما يلوح في الخطاب المؤيد للدراما المُطَبِّعَةِ، فهذه نيرفانا محمود من موقع قناة الحرة “تغرد خارج السرب”، وهي ترد على الاستفاقة الشعبية والرفض الواضح لهذه الدراما المقيتة: “لقد صمم شبيب نعوم برج القاهرة ومبنى الأهرام، وبالرغم من هذا التراث المعماري الجميل، إلا أن شبيب أصبح اسماً في طي النسيان. لماذا؟ ببساطة لأنه “يهودي”… لقد أصبحت تهمة التطبيع مع إسرائيل وسيلة لطمس ذكرى اليهود العرب ومساهمتهم الإيجابية في المجتمعات العربية”.

انتهى كلام نيرفانا ولم ينته مسار التطبيع والتربيع والتركيع. ولا بأس أن نهمس في أذن نيرفانا وغيرها من عرابي التطبيع، فالمشكل ليس مع الدين اليهودي، الذي يتوجب احترامه وعدم ازدرائه، من منطلقات اعتقادية أو حقوقية وإنسانية صرفة، لأن المشكل العويص، والذي لا يمكن جبر كسره بدعوات التطبيع، هو مع كيان صهيوني محتل، اغتصب أرض شعب حر أبي، لن تنفع معه حقن “أم هارون” (ويا للصدفة، إنها ممرضة) وكل ما سبق اقتصادياً وسياسياً وثقافياً على درب التطبيع والتربيع والتركيع، فنحن (الدالة على فلسطين وكل الشرفاء في هذا العالم) أحياء وباقون وللحلم بقية.

(المصدر: تي آر تي TRT العربية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى