مقالاتمقالات مختارة

ألبانيا المسلمة.. هكذا تعيق أوروبا استقلالها وتنميتها

ألبانيا المسلمة.. هكذا تعيق أوروبا استقلالها وتنميتها

بقلم أحمد بن صالح الظرافي

ظل المسلمون الألبان، تحت حكم الدولة العثمانية، زهاء خمسمائة عام، نعمت خلالها بلادهم، بالأمن والاستقرار، بصورة لم تعرف لها مثيلا من قبل، وأبدع الألبان في مختلف مناحي الحياة، ونبغ منهم القادة والوزراء والكتاب والصدور العظام، الذين أثروا الحياة العامة، وساهموا مساهمة فعالة، في إدارة دفة الدولة العثمانية سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وعسكريا، ومع بروز عصر القوميات في أوروبا، في النصف الثاني من القرن 19، كان الألبان من أشد المتأثرين بالدعوات القومية، وتبلورت الحركة القومية الألبانية، في “رابطة بريزرن”، التي تشكلت عام 1878 على إثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب ضد روسيا القيصرية، وتحددت مطالبها، في الحصول على الحكم الذاتي، من الدولة العثمانية دون الانفصال عنها، وعلى أساس مبدأ وحدة الشعب الألباني والأراضي الألبانية.

إلا أن الرياح جرت بغير ما يشتهيه القوميون الألبان، ففي غضون ذلك، اندلعت حرب البلقان، التي انتهت بهزيمة الدولة العثمانية عام 1912، وبالتالي، انسحابها الكامل من كل الأراضي البلقانية، بما فيها الأراضي الألبانية، التي كانت تشكل 80 ألف كم2 في غرب البلقان. فقد وقفت الدول الأوروبية المنتصرة في تلك الحرب، ضد إرادة الألبانيين، في التحرر والاستقلال، وضد مبدأ وحدة الشعب الألباني، والأراضي الألبانية. وبموجب اتفاقية لندن عام 1912- 1913، تم تقطيع أوصال هذه الأراضي، وتوزيع أجزاء منها بما عليها من مواطنين ألبان مسلمين، على الدول الأوروبية المجاورة، وهي: صربيا، واليونان، ومقدونيا، والجبل الأسود. ولم يترك منها سوى 29 ألف كم2، وهي ألبانيا المعروفة بحدودها السياسية اليوم، فنتج عن هذه السياسة، إضعاف مزدوج للمسلمين الألبان.

فمن ناحية صارت الأكثرية من المسلمين الألبان، عبارة عن أقليات ضعيفة ومضطهدة في الدول التي توزعوا فيها، ومن ناحية أخرى، ارتفعت معدلات الأقليات، مقابل المسلمين في بقية الأراضي الألبانية المخصصة لقيام الدولة الألبانية، وبذلك تم تحويل ألبانيا إلى دولة أقليات، بدلا من أن تكون دولة إسلامية فيها أقليات. ومع ذلك، ولكي تقبل الدول الأوروبية باستقلال ألبانيا بحدودها السياسية الحالية، فقد فرضت عليها شروطا مجحفة وظالمة، منها: أن تكون إمارة محايدة خاضعة للرقابة الدولية الجماعية، وأن تقبل بحاكم ألماني عليها، وأن تترك الإسلام جانبا، وأن تقطع علاقاتها الثقافية بالعالم الإسلامي، وأن تستبدل الحروف العربية بحروف لاتينية، وأن يكون لها دستور علماني، طبقا للمعايير الأوروبية.

وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في عام 1920 اعترفت عصبة الأمم بألبانيا دولة مستقلة ذات سيادة، برئاسة جماعية تتكون من أربع شخصيات تمثل أبرز الطوائف الألبانية، وهي: المسلمون السنة، الطريقة البكتاشية، طائفة النصارى الأرثوذكس، الطائفة الكاثوليكية، وذلك تحت مسمى “المجلس الأعلى للدولة”، فزاد هذا النظام من إضعاف المسلمين، الذين كانوا يمثلون أكثر من 70% من السكان، وحولهم إلى أقلية في أجهزة الدولة، مقابل ارتفاع نسبة تمثيل الطوائف الأخرى، في تلك الأجهزة. وفي عام 1924 أعلنت الجمهورية في ألبانيا برئاسة أحمد زوغو، الذي لم يلبث أن نصب نفسه ملكا على ألبانيا عام 1928. وكانت سياسة أحمد زوغو كلها تصب نحو تغريب ألبانيا، وفرض العلمانية عليها من فوق، وطمس هويتها الإسلامية، لكي تصبح بلدا أوروبيا.

أحمد زوغو

وفي الحرب العالمية الثانية، وقعت ألبانيا تحت سيطرة إيطاليا الفاشية، وخلال تلك الحرب لمع نجم أنور خوجا كقائد للمقاومة الألبانية، ضد قوات دول المحور الغازية، وكان أنور خوجا هذا، بكتاشيا من جنوب البانيا، وكان قد درس الفرنسية، وتخرج من جامعة مونبيله الفرنسية، والتحق بالحزب الاشتراكي الفرنسي، قبل أن يعود إلى ألبانيا فيصير مدرسا للغة الفرنسية. ثم كان أحد المؤسسين للحزب الشيوعي الألباني عام 1941، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية صار رئيسا لألبانيا، وزعيما للحزب الشيوعي الألباني بتوافق أمريكي بريطاني سوفيتي يوغسلافي، لتدخل ألبانيا خلال فترة حكمه الطويلة التي امتدت أربعين عاما، في نفق آخر، أضيق، وأشد ظلاما من النفق السابق.

كان الهم الوحيد والشغل الشاغل، لرئيسها البكتاشي الشيوعي أنور خوجا، هو فرض الشيوعية اللينينية بحذافيرها، على أهلها في كل صغيرة وكبيرة، وبالحديد والنار، فحارب الأديان، وخصوصا الإسلام، حربا لا هوادة فيها، ومنع الحديث بالعربية منعا باتا، وكان من ضبط وهو يقول: “بسم الله”، يحكم عليه بالسجن عشر سنوات، وفي عام 1967 حظر الممارسة الدينية إسلامية أو مسيحية حظرا تاما، وهدم المساجد والكنائس أو حولها إلى مخازن ومسارح ومراقص، وحظر الأسماء ذات المضامين الدينية، وجعل الإلحاد، هو الدين الرسمي للدولة، بنص الدستور، وبذلك أصبحت ألبانيا هي الدولة الملحدة الوحيدة في العالم، بل في التاريخ، واحتفى بالإلحاد أيما احتفاء، فأقام متحف الإلحاد في مدينة شكودرا الشمالية، معقل المسلمين والكاثوليك، وزينه ببيت من الشعر لشاعر ألباني معاصر يقول: إن الألبانوية هي دين الألبان.

سحق التيار الإسلامي سحقا، وبذلك نجح في قطع صلة المسلمين بماضيهم، وتراثهم، وتاريخهم، نهائيا، كما قضى على الملكية الفردية، قضاء مبرما، وفرض على الناس العمل في المزارع الجماعية والمصانع العامة، بأجور زهيدة جدا، وحرم السفر على الألبانيين تحريما مطلقا، وقضى على أحلامهم وطموحاتهم، حتى غدا الألباني لا يطمح في أكثر من امتلاك دراجة، أما أن يطمح بامتلاك سيارة، فهذا كان حلما مستحيلا، أو بعيد المنال، وكانت الدراجات هي وسيلة المواصلات في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ ألبانيا المعاصر، ولم يكن في تيرانا عاصمة ألبانيا سوى العشرات من السيارات، وأغلبها تابعة للقصر الجمهوري.

كان الاتحاد السوفيتي، في عهد أنور خوجا، يبدو قلعة برجوازية ليبرالية، مقارنة بألبانيا، كما أن المسلمين فيه كانوا أحسن حالا مقارنة بإخوانهم في ألبانيا، ولم يكن لألبانيا علاقة بأي دولة في العالم، عدا الصين، ولكن أنور خوجا قطع هذه العلاقة عام 1978، بسبب انفتاح الصين على أمريكا الإمبريالية، وبذلك صارت ألبانيا معزولة تماما عن العالم الخارجي. واستمر أنور خوجا كاتما على أنفاس الشعب الألباني، حتى وفاته عام 1985، رغم أصابته بمرض السكري وداء باكنسون في سنواته الأخيرة، وافتقاده، بالتالي، للأهلية للحكم.

عند وفاته، كان في ألبانيا أكثر من 40000 سجين، وكانوا يتوزعون على 18 مخيم اعتقال، وستة سجون كبرى، وسبعة معسكرات للأشغال الشاقة، وكان قد قضى على أكثر من 4000 من مناوئيه. وقد خلفه في السلطة، صديقه ونائبه والمعجب به، رامز غاليا، حتى عام 1991، غداة سقوط سور برلين، وانهيار المعسكر الشرقي، عندما خرج آلاف المتظاهرين الألبان في شوارع تيرانا، وأسقطوا صنم الشيوعي البكتاشي الطاغية أنور خوجا، ومع ذلك، فقد استمر الحزب الشيوعي في السلطة حتى عام 1992.

خرج المسلمون الألبان من نفق الحكم الشيوعي منهكين مسحوقين، وفقراء معدمين، وشبه فاقدين لهويتهم الإسلامية، فاستغل الغرب، حكوماتٍ، ومنظمات تنصير، ظروفهم تلك، أشدّ استغلال، لتنصيرهم، والحيلولة بينهم وبين إعادة وصل سياقهم التاريخي الذي انقطع قبل حوالي تسعين عاما، ومن ثم، حشرهم في نفق جديد، هو نفق التغريب، إذ أنه بعد انهيار الحكم الشيوعي، فاز الحزب الديمقراطي ذي الخلفية العلمانية القومية، في انتخابات إبريل 1992، وصار زعيمه صالح بريشا، رئيسا للجمهورية، وأعيد انتخابه عام 1996، وخلال هذه الفترة، قام هذا الرئيس وحكومته، ببعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية، للتحول من نظام الحكم الشيوعي الشمولي، إلى نظام الحكم الديمقراطي، ومن حياة العزلة إلى الانفتاح على العالم، فانضمت ألبانيا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1992، وعادت بعض المظاهر الإسلامية إلى المجتمع الألباني، كما أنه خلال هذه السنوات، أقيمت العديد من المساجد، في ألبانيا من قبل أهل الخير الخليجين، وقدمت إلى ألبانيا العديد من الجمعيات الخيرية العربية لمساعدة المسلمين الألبان، وإنقاذهم من شبح الفقر، وبخاصة من الكويت.

لكن كل هذا، أدى إلى ردود فعل عنيفة وعدوانية، من قبل المعارضة، التي يتزعمها الحزب الاشتراكي، وريث الحزب الشيوعي، والخاضع لسيطرة النصارى الأرثوذكس، فقد استغلت قيادة هذا الحزب النصرانية والموالية لليونان، انهيار شركات توظيف الأموال في عام 1997، وبالتالي، ضياع مدخرات مئات الألوف من الألبان، فشنت حربا إعلامية شعواء، ضد الحزب الديمقراطي الحاكم، وزعيمه صالح بريشا، رئيس الجمهورية، هذا الأخير، الذي أضطر للاستقالة، نتيجة لانهيار الأوضاع، في الجنوب معقل النصارى الأرثوذكس والحزب الاشتراكي والبكتاشيين.

وفي الانتخابات المبكرة التي أجريت، عام 1997، فاز الحزب الاشتراكي، وصار زعيمه “فاتوس نانو”، النصراني، رئيسا للوزراء، فأظهر حقده الدفين على الإسلام، وكل ما يرمز له، فدعا إلى طرد الجالية العربية من ألبانيا، وفي مقدمتها الجمعيات الخيرية، متهما إياها بالإرهاب، ومتهما صالح بريشا، بفتح أبواب البلاد للجماعات الإسلامية الأصولية، التي اتخذت البلاد قاعدة لأنشطتها الإرهابية، في البلقان، وأوربا، حسب زعمه، وطالب الإدارة الأمريكية، والحكومات الغربية، بالتدخل السريع لإنقاذ بلاده من زحف التيار الإسلامي عليها، وحذر من إعادة نشر الديانة الإسلامية فيها، واستجابت الإدارة الأمريكية، لطلبه، وبدأت تمارس الضغوط، لطرد الجمعيات الخيرية العربية من ألبانيا، حتى تبقى الساحة الألبانية، مفتوحة على مصراعيها للنشاط التنصيري والإباحي الهدام فقط، لدرجة انسحاب ألبانيا من منظمة المؤتمر الإسلامي.

وقد ظل الحزب الاشتراكي في السلطة، حتى سقط في انتخابات 2005، بعد أن أوصل البلاد، إلى حافة الهاوية، وبعد أن تفاقمت ظاهرة هجرة الشباب الألبانيين إلى أوروبا وبخاصة إيطاليا واليونان، إلى أقصى حد، ليخلفه الحزب الديمقراطي، الأكثر تعبيرا عن إرادة الألبان، لكن الحزب الاشتراكي، عاد مجددا إلى الحكم، في انتخابات عام 2013، ثم فاز في انتخابات عام 2017 أيضا، وهو الحزب الحاكم اليوم، وكل جهوده منصبة على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو يقتات على الترويج لهذا المشروع، ويوظفه للهيمنة على البلاد، وفي مجال الدعاية في الانتخابات، وفي الوقت نفسه، يستخدمه كستارة للحرب على الإسلام، ولعزل ألبانيا عن العالم الإسلامي، تاركا أبواب البلاد مفتوحة على مصراعيها للجماعات التنصيرية والماسونية والإباحية الغربية، التي تسعى لتذويب الهوية الإسلامية، وإنهاء الوجود الإسلامي في ألبانيا.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى