مقالاتمقالات المنتدى

أكذوبة الإلحاد (16) خطة فرعون وملئه في الكيد بموسى – عليه السلام – والانتقام منه

أكذوبة الإلحاد (16) خطة فرعون وملئه في الكيد بموسى – عليه السلام – والانتقام منه

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

لا يزال فرعون مستمراً بالمراوغة مع موسى (عليه السلام) في دعوته إليه، وهو مع كل الأدلة العقلية والحجج المنطقية – التي استعرضناها في المقالات السابقة من هذه السلسلة – لا يزال مستكبراً نابذاً للحق الذي جاء به موسى، الذي يدل على صدق دعوته، وصحة نبوته، ويدل على أن الله واحداً لا شريك له ولا ند له، وأن ما يدّعيه فرعون من الألوهية محض كذب وافتراء واستخفافا منه لقومه وتعالياً عليهم كما أشار لذلك البيان القرآني.

قال تعالى: ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)﴾ ]الشعراء:٣٤-٣٧[.

وحتى يقضي فرعون على أثر الآيتين المعجزتين في نفوس الملأ وخشية أن يتفاعلوا معهما، سارع إلى اتهام موسى بالسحر.

  • ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾:

الملأ: هم علية القوم الذين يملؤون العيون ويتصدرون المجالس، وهم كبار رجال الدولة الذين يتولون إدارة شؤون الحكم وقيادة الرعية باسم فرعون. (تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٦٣)

  • ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾: فاتهمه بالسحر ليخرج من ورطته وقال: ساحر لأن موسى لم يمارس هذه المسألة إلا مرة واحدة هي التي أجراها أمام فرعون، لكن الملأ على علم بالسحر، وعندهم سحرة كثر.

واتهام موسى عليه السلام بالسحر كاتهامه له بالجنون وهذا دليل على تناقضه في اتهاماته، فهل موسى ساحر أو مجنون لا يهمّ عند فرعون، المهم عنده هو الاتهام والشتم والسباب، وورد هذان الاتهامان من فرعون لموسى عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩)﴾ ]الذاريات:٣٨-٣٩[، ولم يكتف فرعون باتهام موسى بالسحر وإنما خطا خطوة أخرى في تهييج الملأ من حوله عليه. (تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٥٦٣)

  • ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾:

وفي اتهام موسى عليه السلام بالسحر ومخاطبته للملأ يظهر ذعره، وإقراره بعظمة المعجزتين، وإن كان يسميها سحراً فهو يصف صاحبها بأنه ساحر “عليم” ويبدو ذعره من تأثر القوم بها، فهو يغيرهم به: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾، ويبدو تضعضعه وتهاويه وتواضعه للقوم الذين يجعل نفسه لهم إلهاً، فيطلب أمرهم ومشورتهم.

  • ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾؟ ومتى كان فرعون يطلب أمر أتباعه وهم له يسجدون؟ وتلك عادة الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم، عندئذ يلينون في القول بعد التجبر ويلجؤون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام، ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر ثم إذا هم جبابرة مستبدون ظالمون. (في ظلال القرآن، ٥/٢٥٩٤)
  • ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾:

فكّر الملأ المجتمعون مع فرعون ثم اقترحوا على فرعون اقتراحاً، قال تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ ]الشعراء:٣٦[، اقترح الملأ على فرعون أن يرجئ موسى وأخاه هارون، أن يؤخرهما ويؤخر البث في المسألة، وأن يستدعي السحرة من مختلف المدائن في مصر لتتم المباراة بينهم وبين موسى الساحر.

و﴿أَرْجِهْ﴾: فعل أمر من الإرجاء وهو التأخير، وفعله الماضي أرجأ، تقول: أرجأ يُرجئ، أرجِئ، وأصل “أرجه”: أرجئه، وفاعل “أرجه” ضمير مستتر تقديره “أنت”.

  • والهاء: في محل نصب مفعول به، وتعود على موسى عليه السلام.
  • ومعنى: ﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾: اطلب من رجالك وولائك في مختلف مدن مصر أن يأتوك بالسحرة، وأن يجمعوهم ويحشروهم ويحضروهم إليك، ومن لطائف التعبير القرآني أن فعل ﴿أَرْجِهْ﴾ لم يرد في القرآن إلا مرتين، والمرتان في قصة موسى عليه السلام وفي سياق طلب إحضار السحرة.
  • قال تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ ]الشعراء:٣٦[: ومن لطائف التعبير القرآني أن كلمتي ﴿الْمَدَائِنِ﴾ و ﴿حَاشِرِينَ﴾ لم ترد إلا في هذا السياق أيضاً، حيث وردت الكلمتان ثلاث مرات في ]الأعراف:١١١[ وفي ]الشعراء:٥٣،٣٦[. (القصص القرآني، ٢/٤٢٥)

وفي سورة الشعراء: ﴿وَابْعَثْ﴾ وفي سورة الأعراف: ﴿وَأَرْسِلْ﴾، وفي ﴿وَأَرْسِلْ﴾ أكثر تفخيماً من ﴿وَابْعَثْ﴾ وأعلى رتبة لإشعاره بالفوقية، ففي سورة “الأعراف” حكى قول الملأ لفرعون، فناسب خطابهم له بما هو أعظم رتبة تفخيماً له، وفي سورة “الشعراء” كان هو القائل لهم، فناسب تنازله معهم، ومشاورته لهم، فقالوا له: ﴿وَابْعَثْ﴾. (الدروس المستفادة من العقوبات الإلهية في القرآن الكريم قبل الرسالة المحمدية، المرجع السابق، ص٣٧٧)

  • ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾:

وكلمة ﴿سَحَّارٍ﴾ -التي هي صيغة مبالغة من “ساحر”- لم ترد إلا في غير هذا الموضع، ما أراد الملأ إحضار كل ساحر عليم وإنما أرادوا إحضار كل ﴿سَحَّارٍ﴾، والسحّار هو المتمكّن من سحره، الماهر فيه، ما أرادوا السحرة فقط لأنهم مُقدمون على مباراة حاسمة وخطيرة مع موسى، وهذه المباراة لا ينفع فيها إلا كل سحّار عليم.

وهكذا اتفق الملأ من قوم فرعون على تأخير البتّ في دعوة ومهمة موسى عليه السلام، والاستنجاد بقوة السحرة وهي القوة القيادية المؤثرة في النظام الفرعوني للوقوف أمام موسى وآياته، وهكذا اجتمعت القيادات الثلاثة التي تدعم فرعون وتساعده في حكم مصر:

  • القيادة الإدارية: المتمثلة في هامان.
  • والقيادة المالية الاقتصادية: المتمثلة في قارون.
  • والقيادة الإعلامية التأثيرية: المتمثلة في السحرة.

واجتمعت القيادات الثلاثة على مواجهة موسى والوقوف في وجهه والانتصار لفرعون، وانتهى لقاء المواجهة بين موسى وبين فرعون بحضور الملأ الكبراء بانحياز الملأ إلى فرعون وتبنّي اتهامه لموسى، حيث قرر هؤلاء الملأ أن موسى ساحر عليم وليس رسولاً نبياً وأنه خطر مباشر يهدد فرعون ويهدد الملأ ويهدد مصر كلها، وأنه لابد أن يحشر السحرة المتمكنون لمواجهة موسى وهزيمته، وخرج موسى من لقاء المواجهة مع فرعون، وصار ينتظر قدوم السحرة من المدائن المختلفة لتتم المباراة بينه وبينهم. (القصص القرآني، (٢/٤٢٦)

إن حديث سورة الشعراء عن اجتماع فرعون مع الملأ كان خاصاً ومغلقاً مع الملأ وخواص القوم، وفيه ما قال فرعون للملأ من أن موسى ساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون وماذا تريدون مني أن أفعل معه؟

أجاب الملأ الذين حوله قائلين: أرجه وأخر موسى وأخاه واطلب من ولاتك في المدن أن يحشروا السحرة وأن يأتوك بهم ليباروا موسى، وفي سورة الأعراف قال الملأ من قوم فرعون ولم يقل فرعون فالملأ هم القائلون المتكلمون، بينما كان القائل المتكلم في سورة الشعراء هو فرعون.

وكرر الملأ القائلون في سورة الأعراف كلام فرعون الذي قاله لهم في سورة الشعراء: ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥)﴾، فلمن قال الملأ هذا القول؟ ولمن قالوا: فماذا تأمرون؟ وإذا كان الملأ هم القائلون السائلون فمن هم المخاطبون والمسؤولون؟

وهذا يدل على ما قلناه من اجتماعين: الاجتماع الأول كان خاصاً مغلقاً بين فرعون وبين الملأ فقط، وبعدما اتفقوا على خطة مواجهة موسى عليه السلام رتب الملأ اجتماعاً آخراً موسعاً، دعوا فيه وجوه القوم، وبحثوا معهم قضية موسى وأخذوا منهم موافقتهم على خطة فرعون، وبما أن وجوه القوم كانوا ممثلين للشعب كله، فقد أيّد الشعب خطة فرعون في مواجهة موسى عليه السلام ودعوته.

وكما تظاهر فرعون أمام الملأ بالمشاور لهم، المحترم لآرائهم المستعد لتنفيذ ما يشيرون به عليه وقال لهم: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾، تظاهر الملأ أمام المدعوين من وجوه القوم بذلك فقالوا لهم: ماذا تأمروننا أن نفعل لمواجهة موسى؟ إننا مستعدون لتنفيذ ما تشيرون به علينا، قالوا لهم هذا بعدما أعطوهم رأي فرعون في موسى بأنه ساحر عليم يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره وكأنهم يدعونهم إلى القول بذلك، فما كان من المدعوين إلا أن أشاروا بتأخير موسى وأخيه، وحشر السحرة من المدائن، واستدعاهم لمواجهة موسى ومبارزته، هذه هي “لعبة الديمقراطية” في صورتها البدائية في النظام الفرعوني الجاهلي. (القصص القرآني، ٢/٤٣١)

  • قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)﴾ ]الأعراف:١٠٧-١١٢[.

وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: عن كلمة ﴿سَحَّارٍ﴾ مرادف للساحر في الاستعمال؛ لأن صيغة فعّال هنا للنسب دلالة على الصناعة، مثل: النجار، والقصار، ولذلك أتبع هنا وهناك، بوصف ﴿عَلِيمٍ﴾ أي: قوي العلم بالسحر. (التحرير والتنوير، (٩/١٢٥)

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى عليه السلام كليم الله “، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  1. القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.
  2. التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، عبد الحميد محمود طهماز، دمشق، دار القلم، ط2، 1435ه/ 2014م.
  3. زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة (ت: 1394ه)، القاهرة، دار الفكر العربي، 1987م.
  4. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت، 1393ه)، جدة، السعودية، مجمع الفقه الإسلامي، دار علم الفوائد، (د. ت).
  5. موسى عليه السلام كليم الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
  6. في ظلال القرآن، سيد قطب.
  7. القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.

 ([1])المصدر نفسه، (٩/١٢٥).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى