أصول حُكم الشُّعوب المسلمة ومقاييس تطبيق العدالة 7 من 9
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
محاولة تطبيق نظام الخلافة في عهد السَّادات
ربَّما يشهد معاصرو الرَّئيس المصري الأسبق، محمَّد أنور السَّادات، في أواخر عهده، على تلك واقعة سعيه إلى تطبيق نظام الخلافة الإسلاميَّة في الحُكم، وهي واقعة اكتنفها الكتمان وطويت إلى النسيان، حتَّى انتهى عهد الرَّئيس التَّالي له، محمَّد حسني مبارك، الَّذي امتدَّ منذ مقتله في 6 أكتوبر 1981م، وحتَّى 11 فبراير 2011م، بعد احتجاجات شعبيَّة عارمة عُرفت بثورة 25 يناير. طفت هذه الواقعة على السَّطح من جديد بعد رحيل مبارك عن السُّلطة، وكانت جريدة الوفد المعارضة من بين وسائل الإعلام المصريَّة الَّتي تناولت تلك الواقعة. نشرت بواب الوفد الإلكترونيَّة في 5 أكتوبر 2011م، بمناسبة مرور 30 عامًا على حادث المنصَّة، الَّذي مات السَّادات على إثره، مقالًا تناولت فيه ما وصلها من معلومات سريَّة تعود إلى يناير 1981م، عن اجتماع مبارك، نائب الرَّئيس وقتها، بوكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة CIA، ضمن مساعيه إلى الإطاحة بالسَّادات؛ لسعي الأخير إلى تغيير نظام الحُكم، وتطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة، وهو ما تناولته جريدة الوفد المصريَّة في مقال نُشر في 5 أكتوبر 2011م.
انفراد: لقب سادس الخلفاء الرَّاشدين قتل السَّادات
المقرَّبان من أنور السَّادات «محمود أبو وافيَّة» صهره وعبد العزيز مصطفي صهر مصطفي خليل، اقترحا في مجلس الشَّعب. دعوة النَّاخبين إلى الاستفتاء على منح رئيس الجمهوريَّة «السَّادات» لقب سادس من الخلفاء الرَّاشدين. وتطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة.. واعتبار جرح الشُّعور الدِّيني ضمن جرائم السَّب والقذف المعاقب عليها جنائيًّا. ورأت لجنة الاقتراحات والشكاوى برئاسة محمود أبو وافيَّة إحالة المقترحات إلى لجنة الشُّئون الدُّستوريَّة والتَّشريعيَّة وذلك في 14/3/1981 لإقرارها، والاستفتاء عليها!!
في تلك الاثناء كانت أمريكا لم تفق من الضربة القويَّة الَّتي تلقتها من إيران بإزاحة حليفها الاستراتيجي الشاه محمد رضا بهلوي ليحل محل حكمه نظام الثَّورة الإسلاميَّة بقيادة بالخميني، ثم جاء السَّادات ليزعج مصالحها بنظام إسلامي جديد في مصر في بإعطاء الفرصة كاملة للجماعات الإسلاميَّة بإقامة علاقات وطيدة ومتينة مع أجهزة الأمن، تمهد للاستفتاء الَّذي لم يتم!! هذه الوثيقة الَّتي اختفت من ملفات مجلس الشَّعب بفعل فاعل هي لغز جديد في عمليَّة اغتيال السَّادات يضاف إلى ألغاز اخري لتكتمل حلقة الطَّلاسم العصيَّة على الفهم.
يشير التَّقرير الَّذي تستند إليه الوفد إلى عدم رضا الرَّئيس الأسبق مبارك، وقتما كان نائبًا لرئيس الجمهوريَّة، عن سعي السَّادات إلى تغيير نظام الحُكم إلى حُكم إسلامي، وإلى سعي مبارك إلى الحفاظ على الصِّبغة العسكريَّة للنِّظام:
المعلومات نشرت بتاريخ 23 يناير 1981 أي قبل 30 سنة من الآن.. أفرد مساحات واسعة عن أسرار صراع مراكز القوي في القاهرة، بين السَّادات ونائبه «مبارك». رصد فيه زيارة مبارك إلي واشنطن، ولقاءاته المتكرِّرة، مع قيادات بارزة في الاستخبارات الأمريكيَّة CIA. على رأسهم ريتشارد ألن مستشار الأمن القومي الأمريكي. وحرص مبارك في تلك اللقاءات أن يبعث في أحاديثه ولقاءاته برسائل غير مطمئنة عن أوضاع الجيش. وروى تفاصيل إشرافه على تنظيم خاص، يهدف للمحافظة على نظام الحُكم. أشار التَّقرير إلي علم ودرايَّة شخصيات كانت ملء السَّمع والبصر في مؤسَّسة الحكم بتفاصيل هذا الصِّراع وقصة الانقلاب الأبيض، والَّذي كان يدبر له «مبارك» للاستيلاء على السُّلطة..
يضيف مقال الوفد أنَّ نشر معلومات عن سعي السَّادات إلى الانتقال إلى نظام يستند إلى الشَّريعة، وعن خطوات يتَّخذها مبارك في الاتجاه العكسي، لم يدفع السَّادات ذاته، أو نائبه، للتكذيب. وتستند ابنة السَّادات، وتُدعى رقيَّة، في ذلك في توجيهها اتِّهامًا رسميًّا ضدَّ حسني مبارك، بالتورُّط في مقتل أبيها، مستندةً إلى معلومات لديها بأنَّ أباها أقال مبارك يوم العرض العسكري، في 6 أكتوبر 1981م، وأنَّ قاتل أبيها، خالد الإسلامبولي، لم يُنفَّذ فيه حُكم الإعدام، كونها رأته بعينه في مكَّة المكرَّمة قبل سنوات من تقدُّمها بالبلاغ ضدَّ مبارك وآخرين عاونوه.
ما يشيره إليه مقال الوفد هو أنَّ فترة الودِّ والتفاهم الَّتي عاشها السَّادات مع الإدارة الأمريكيَّة قد انتهت مع بدايَّة عهد الرَّئيس رونالد ريجان، المنتمي إلى الحزب الجمهوري، في يناير 1981م؛ وكانت فترة الرَّئيس الدِّيموقراطي جيمي كارتر قد شهدت توقيع السَّادات معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل في 1978م. غضبت إدارة ريجان من سعي السَّادات إلى تطبيق نظام إسلامي، كما فعلت إيران في 1979م؛ فتعاونت مع مبارك في الإطاحة به، كما ينقل مقال الوفد عن وثائق وصلته. وبدأ السَّادات، كما يشير المقال، في اتِّخاذ خطوات جديَّة لإعلان نظام إسلامي، يتمتَّع فيه بلقب ‘‘سادس الخلفاء الرَّاشدين’’، بعد استفتاء جماهيري يدعو إليه مجلس الشَّعب.
يشير المقال إلى تزامُن إعلان السَّادات عن نيَّته تغيير نظام الحُكم مع تحذير قاتل السَّادات، وكان ضابطًا في الجيش، من الاستمرار في علاقته بأحد المنتمين إلى الجماعات ‘‘الجهاديَّة’’، مثيرًا بعض التساؤلات حول كيفيَّة السَّماح له بحضور العرض العسكري، برغم نشاطاته المخالفة لسياسة الدَّولة. ويضيف المقال أنَّ السَّادات قد تعرَّض لمحاولة اغتيال في مدينة المنصورة، شمال غرب القاهرة، على يد ضابط آخر ينتمي إلى المؤسَّسة العسكريَّة، يُدعى عبُّود الزُّمر. ويُضاف إلى الإسلامبولي والزُّمر ضابط ثالث يُدعى ممدوح أبو جبل، أمدَّ فريق الاغتيال بمساعدة لتنفيذ الاغتيال “في دقائق معدودة”. في ختام المقال، تُطرح تساؤلات تعذَّر الإجابة عنها.
لكن كيف دخل هؤلاء خيمة المعسكر الخاص بـ خالد الاسلامبولي؟ إنَّ ترتيب دخولهم لم يكن عشوائيًّا بالقطع واعطاء إجازة لأفراد من المعسكر، لم يكن يتم إلَّا إذا كانت هناك أياد أكبر من خالد الإسلامبولي.. فقد تغيَّب عن العرض العسكري الجنديان عادل محمود بسطويسي وميلاد سمير أنيس وتم الإبلاغ عنهما بأنَّهما هاربان. وحصل الجندي جمعة علي إجازة.. ليحل محل الثلاثة عطا طايل وعبد الحميد عبد السَّلام وحسين عباس.
تزامنًا مع الذِّكري الـ 34 لاغتيال الرَّئيس السَّادات، أُعيد فتح ملف اغتياله بسبب سعيه إلى تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة، حيث نشر موقع دوت مصر الإخباري المصري في 5 أكتوبر 2015م، مقالًا تفصيليًّا عن خطوات اتَّخذها الرَّئيس ‘‘الشَّهيد’’ في سبيل تطبيق الشَّريعة. المفارقة أنَّ عبُّود الزُّمر، الَّذي حاول قتل السَّادات من قبل، كان يقود ثورة إسلاميَّة، بدأت باحتلاله مبنى الإذاعة والتِّلفزيون، وإعلانه ثورة إسلاميَّة. ويشير المقال إلى أهم الخطوات الَّتي اتَّخذها السَّادات في سبيل تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة وتغيير مسار سياسة الحُكم، بما شمل أسلمة النَّشاط الطُّلَّابي وتعديل الخطاب الإعلامي.
في ذكرى الرَّئيس المؤمن
أقدم السَّادات على خطوتين رئيسيتين أولهما: صياغة المادة الثَّانية في دستور 1971 والَّتي نصت على أن الشَّريعة الإسلاميَّة مصدر من مصادر التَّشريع، ونصت مادته الـ 11 على حقوق المرأة بما لا يخالف الشَّريعة الإسلاميَّة وثانيهما: الإفراج عن المعتقلين السِّياسيين وكانت غالبيتهم من جماعة الإخوان المسلمين للتَّصدي للمعارضة اليساريَّة كما جاء في مذكرات مرشد الإخوان الثَّالث عمر التِّلمساني ذكريات لا مذكرات..
وكذلك شمل تعديل الدُّستور، وإضافة لقب ‘‘سادس الخلفاء الرَّاشدين’’ إلى ‘‘الرَّئيس المؤمن’’؛ كما منح السَّادات مؤسَّسة الأزهر دورًا في تهيئة الأجواء إلى النِّظام الإسلامي الجديد من خلال تكوين تصوُّر ديني للسِّياسة:
حرص السَّادات على أن يلعب الأزهر دور الذراع الدِّينيَّة للسُّلطة، وأخد الأزهر يبرر سياسات السَّادات الخارجيَّة (الَّتي لم تكن بحاجة إلى تبرير ديني)، وشرَع الأزهر في إصدار فتاوى تبيح اتفاقيَّة السَّلام مع إسرائيل وتشبهها بالمعاهدات الَّتي أبرمها نبي الإسلام مع اليهود، وأعلنت مشيخة الأزهر أنَّ عدو المسلمين هي الشُّيوعيَّة وليست إسرائيل. كما أضفى رجال الأزهر طابعًا دينيًّا على الخلافات السِّياسيَّة فكانوا أوَّل مَن استخدموا سلاح التَّكفير والإلحاد وقسَّموا القوى الاجتماعيَّة إلى (القوى الإسلاميَّة المعارضة)، وقوى ملحدة متطرفة (اليسار المعارض) وقوى مؤمنه لا تخرج عن ولي الأمر، وكان ذلك في خضم الحملات الانتخابيَّة البرلمانيَّة عام 71 و76 و79.
وكانت جريدة اليوم السَّابع المصريَّة قد أجرت في مارس 2015م، حوارًا مطوَّلًا مع ابنة السَّادات، الَّتي تتهم مبارك بتدبير مقتل أبيها، أدلت فيه برأيها في مبارك وخالد الإسلامبولي وأمريكا. هذا وقد أشار المقال إلى أنَّ أسرة السَّادات لا تجتمع على رأي واحد بخصوص تورُّط مبارك في مقتل الرَّئيس الأسبق. وتجدر الإشارة إلى أنَّ السَّادات قد وجَّه انتقادًا حادًّا إلى جماعة الإخوان المسلمين، معاتبًا المرشد العام للجماعة حينها، عُمر التِّلمساني، على نشره مقالًا في جريدة الدَّعوة التَّابعة للجماعة، عن طلب أمريكا من رئيس الوزراء في عهده، ممدوح سالم، بضرب الجماعات الإسلاميَّة، في نفي منه لذلك الادَّعاء. يتأسَّف السَّادات على أنَّه أخرج أعضاء الجماعات الإسلاميَّة من السُّجون والمعتقلات في بدايَّة عهده، وأعادهم إلى وظائفهم، بل ومنحهم بدل الرَّاتب المنقطع خلال فترة سجنهم، معتقدًا أنَّ عداءهم تجاه ثورة 23 يوليو انتهى. غير أنَّ الحقيقة أثبتت خلاف ذلك، لمَّا كشف الإخوان عن وجههم الحقيقي، واصفًا ذلك بـ ‘‘التقيَّة’’ في إظهار خلاف ما يبطنون، لتمرير مصالحهم، ومتعجِّبًا من ممارسة مسلمي السُّنَّة التقيَّة، الَّتي هي من ممارسات الشِّيعة. ويعترف السَّادات بأنَّه طلب من المرشد العام تسجيل جمعيَّة الإخوان المسلمين لدى الجهات المختصَّة، ولكن دون ممارسة السِّياسة، استنادًا إلى شعار “لا سياسة في الدِّين ولا دين في السِّياسة”.
لم يُخفِ السَّادات علاقته بجماعة الإخوان قبل ثورة 23 يوليو، وبتعاونه مع أعضائها في مواجهة الحُكم الملكي والمحتل البريطاني والأحزاب السِّياسيَّة، مشيرًا إلى معرفته بإحدى ممارسات الجماعة، وهي إعلان السَّمع والطَّاعة لأميرها، وكانت من ابتداع مؤسس الجماعة، حسن البنَّا. يعدِّد السَّادات الممارسات المستهجنة للجماعات الإسلاميَّة معتبرًا أنَّ جماعة الإخوان، ‘‘غير الشَّرعيَّة’’، لا تختلف عنها بوصفه ‘‘كلُّهم واحد’’. تضمَّن مقال ينتقد نظام الحُكم في عهد السَّادات، نشرته مجلَّة الدَّعوة التابعة للإخوان، تصريح برفض الجماعة لأيِّ حُكم غير إسلامي، وتفضيلهم الحُكم وفق منهاجهم “وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كلِّ حكومة لا تنفِّذ أوامر الله”.
يتلو السَّادات ما جاء في كتاب The Game of Nations: The Amorality of Power Politics (1969م)، أو لعبة الأمم اللاأخلاقيَّة في سياسة القوَّة، لضابط الاستخبارات الأمريكي مايلز كوبلاند، عن فرض الغرب نظام حكم ديكتاتوري على البلدان العربيَّة، يمسك فيه بزمام كافَّة الأمور حاكم موالي للغرب، هو مثال الحاكم العميل الآتي فوق دبَّابة الجيش، من خلال انقلابات عسكريَّة، كان أشدَّها خطرًا ‘‘انقلاب 23 يوليو’’، نافيًا تلك الاتِّهامات عن جمال عبد النَّاصر، ومسجِّلًا كلمة للتاريخ عن موقف الإخوان وقت الثَّورة بقوله “اتَّصلنا بالإخوان قبل قيام الثَّورة، وعبد النَّاصر شخصيًّا طلب منهم الاشتراك في الثَّورة وجبنوا وخافوا”.