مقالاتمقالات مختارة

أسلمة المعرفة: المفهوم والمشروع

أسلمة المعرفة: المفهوم والمشروع

بقلم د. سعيد عبيدي* – مركز نماء للبحوث والدراسات

في السّنوات الأخيرة وخاصّةً في بداية الثّمانينات من القرن الماضي ظهرت أنساقٌ فكرية كان يهدف أصحابها إلى بناء مشروعٍ إصلاحي، يبعث الأُمَّة الإسلامية فكريًّا وعِلْميًّا، ويعالج كلّ قضايا الإنسانية ويحلّ مشكلاتها، ومن هذا المنطلق وللوصول إلى هذه الغاية كان لا بدّ من استنباط أساسياتِ وقواعدِ كل العلوم، بما في ذلك علوم الاجتماع والنّفس والاقتصاد والسّياسة والإدارة وغيرها من المعارف وأسلمتها، وهو ما تكفّل به المشروع الذي أُطلِق عليه اسم «أسلمة المعرفة»، والذي يرى أنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية علوم متحيّزة؛ اصطبغت بلون المحيط الذي نشأت وتطوّرت فيه، وما يحفل به ذلك المحيط من ملابسات، وقيم ثقافية، ومعايير منهجية، تستند إلى قراءة أحادية هي قراءة الكون فقط، وهذه القراءة تجسّد حالة فصام حادّ؛ لأنّها تستبعد قراءة الوحي التي تتكامل بِها قراءة الكون، لكنّ السّؤال الذي يتبادر إلى الذّهن للوهلة الأولى هو: هل هناك «معرفة إسلامية» وأخرى «مسيحية»، و«يهودية»؟ أم أنّ المعرفة محايدة لا دين لها ولا أيديولوجيا؟ وهل هناك معارف متعدّدة ومتكاملة في نفس الوقت أم أنّ هناك معرفة واحدة؟ ولماذا لم تحقق هذه الدّعوة أهدافها إلى حدّ اليوم؟ وما هي الانتقادات الموجّهة إليها؟ وما موقف العلماء منها؟

ومصطلح «أسلمة المعرفة» من المصطلحات الحديثة، يُنسَب في الغالب للمعهد العالَميِّ للفِكْر الإسلامي، وقيل: إنَّه للدُّكتور إسماعيل الفاروقي -رَحِمه الله- وهو من كبار مؤسِّسي الْمَعهد والمنهج القائم عليه، أمَّا مصطلح «أسلمة» فهو من الألفاظ الشَّائعة في الدِّراسات الغَرْبية وكتابات المستشرقين، والمراد منه إدخال النَّاس للإسلام، أو تَحْويل الفكر من منهجٍ ما إلى منهجٍ قائم على الإقرار بشرائع الإسلام، كقولِهِم: «أسلمة أوربا»، «أسلمة الجامعات»، «أسلمة العقل»[1].

إنّ أسلمة المعرفة عند المدافعين عن هذا المشروع تجعل المرء يستبعد ذلك النّزاع بين المعارف المستقاة من الوحي، والمعارف المستقاة من الوجود، كما تجعله يبتعد عن تلك الثّنائيات المتصارعة حول أفضلية معرفة عن الأخرى، فأسلمة المعرفة بهذا المفهوم «تعني فكّ الارتباط بين الإنجاز العلمي الحضاري البشري، والإحالات الفلسفية الوضعية بأشكالها المختلفة، وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن ناظم منهجي ومعرفي إلهي، قائمٍ على الوحي، وغير وضعي، وهذا معناه أسلمة العلوم التّطبيقية والقواعد العلمية، بفهم التّماثل بين سنن هذه العلوم وقوانينها، وسنن الوجود وقوانينه، وتوجيه هذه العلوم الوجهة الإسلامية، وتوظيفها لتحقيق المقاصد الإلهية»[2].

فأسلمة المعرفة إذن عملية مقصودة لتوجيه المعرفة بعمومها؛ فكرًا وسلوكًا ونظرًا وتطبيقًا، في ضوء معارف الوحي: قرآنًا وسنةً، والاجتهاد في نصوصه بما تقتضيه «النّظرة الإلهية للإنسان والسّنن والنّواميس؛ بحيث توثّق منه مصادر المعرفة وسبل الحصول عليها أوّلًا، وتفسّر فيه الظواهر المتعلّقة بالإنسان والنّفس والكون ثانيًا؛ لتوظّف المعرفة الناتجة بما يحقّق للمسلم عبوديته المطلقة لله، ومهمة استخلافه للأرض وعمارتها ثالثًا، ولتقدّم الإنسانية المعاصرة مشروعًا حضاريًّا جديدًا لحلّ معضلاتها الفكرية والعقدية والاجتماعية والأخلاقية المستعصيّة رابعًا»[3].

والهدف من هذه الدّعوة كما صرّح إسماعيل الفاروقي هو: «إعادة صيّاغة المعرفة على أساس علاقة الإسلام بها، بمعنىأسلمتها؛ أي إعادة تعريف المعلومات وتنسيقها، وإعادة التّفكير في المقدّمات والنّتائج المتحصّلة منها، وأن يقوَّم من جديدما انتهي إليه من استنتاجات، وأن يُعاد تحديد الأهداف، على أن يتمّ كلّ ذلك في إمكانات تجعل تلك العلوم تثريالتّصوّر الإسلامي، وتخدم قضية الإسلام، وأعني بها وحدة الحقيقة، ووحدة المعرفة، ووحدة الإنسانية، ووحدة الحياة، والطّبيعة الغائيَّة للخلق وتسخير الكون للإنسان، وإدراك الحقيقة وتنظيمها»[4].

ولكي تحقق هذه الدّعوة أهدافها لا بدّ أن تقوم في نظر المدافعين عنها على معايير دقيقة، أجمَلَها نزار العاني مدير مركز القيّاس والتّقويم والتّطوّر الأكاديمي بجامعة البحرين في خمسة عشر معيارًا هي: أن تكون «مخلوقة غير خالقة، غرضيّة غير عبثيّة، تعبُّديّة استخلافيّة، محكومةً بالسّنن الكونيّة، نفعيّة غير ضارّة، وحديّة غير تجزيئيّة، علميّة غير علمانيّة، دالّة لا يستدلّ عليها، مفسّرة غير معلّلة بالضّرورة، ظاهرة غير باطنة، مهيمنة غير تابعة، مسخَّرة غير مسخًرة ، مرجعيتها لله غير وضعيّة، مؤمنة بالغيب، توكُّلية غير تواكليّة»[5].

وفي مقابل هذه النّظرة الإيجابية والمتفائلة من قضية «أسلمة المعرفة»، ظهر تيّار آخر نبذ هذا المشروع بدعوى أنّنا لا نجد لدى المسلمين القدامى تصنيفًا للعلوم على أساس ديني، وإنّما صنّفوها بحسب المنهج؛ كقسمتها إلى عقليّة ونقليّة، أو برهانيّة وعِرفانيّة، أو من حيث الزّمن كقولهم علوم الأوائل وعلوم الأواخر، والتّمييز في النّهاية بين من يعلَم ومن لا يعلَم كما تشير الآية القرآنية [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ][6]، كما أنّ العلم يُطلب بصرف النّظر عن قائله، ويؤخذ من أيّ مصدرٍ كان، من فارس أو من الإغريق، من الهند أو من الصين، المهم في هذا كلّه هو أن يستوفى معاييره من الدقّة، والإحكام أو اللّزوم، والضّرورة أو العموم، والكلّية.

كما ذهب أنصار هذا التيّار -الرافض لهذا المشروع- إلى أنّ القول بإسلامية المعرفة «هو نقيض الإبداع، بمعنى أنّه يعرقل نشاط الفكر الخلّاق بقدر ما يحول دون تطوير العلوم والمعارف، أو دون تجديد المفاهيم والمناهج، ذلك أنّ الصّفة الإسلامية لا تشير هنا إلى مجرّد إطار لحصر موضوع الدّرس، وإنّما تُغلِّب الاعتبارات الأيديولوجية، فلا يُعقَل أن ندعو إلى أسلمة المعرفة، فيما الغربيون يؤلّفون حول نماذج المعرفة وأنظمتها، أو حول عمّال المعرفة واقتصاد المعرفة، أو حول المعرفة والمصلحة، وهذا ما فعله القدامى من المسلمين الذين طوّروا العلوم التي أخذوها عن اليونان، فأنتجوا معارف غزَوا بها العالم فكريًّا، وتصدَّروا واجهة العمل الحضاري لقرونٍ طوال، ولقد استخدموا في ما أنتجوه المعارف التي أنتجها الأوائل كمُعطَيَات لإنتاج علوم جديدة»[7].

وللتّأكيد على خطورة هذا المشروع ذهب مجموعة من الباحثين إلى أنّ المنادين بأسلمة المعرفة إنّما يبغون من وراء ذلك مجموعة من الأهداف في مقدّمتها: الإيحاء بأنّ الشّريعة الإسلامية لم تتمّ، ومعاندة الشّرع ومضاهاة الشّارع، وتلبيس الحقّ بالباطل، والزّيادة في الدّين، وطلبٌ للشّريعة بما هو غير أداة لها، والخروج على مقتضى وضع الشّريعة التي جاءت للعموم، وإحداث ما لم يكن عند الأوّلين.

إنّ القول بأسلمة المعرفة هو تراجع عن عالميتها والتي مارسها في ما مضى العلماء والفلاسفة المسلمون؛ سواء بتطوير العلوم التي نقلوها عن الأوائل، أو بافتتاح فروع وحقول جديدة، ولتدارُك التحيُّز الذي يوحي به مصطلَحُ «الأسلمة»، استبدل بعض العلماء هذا المصطلح بمصطلحات أخرى، من قبيل أسلمة النّفس، أو وحدة المعرفة، أو تكامل المعرفة؛ وفي هذا الصّدد يقول محمد رمضان سعيد البوطي في انتقاده لهذا المصطلح: «نقول: أسلمة النَّفْس؛ لا أسلمة الْمَعرفة، غيْر أنَّ هذه الحقيقة وإنْ كانت ثابتةً دون رَيْب، لا تستدعي رفْعَ ذلك الشِّعار الذي قد يَخْطر بالبال لأوَّل وهلة، وهو «أسلمة الْمَعرفة»؛ ذلك أنَّ الإسلام لا يتطلَّب أكثَرَ مِن أن تكون المعرفةُ معرفةً صحيحة، صافيةً عن الشَّوائب، وبعيدةً عن التحيُّز إلى أيِّ جهة قد تُبْعِدها عن ميزاتِها العِلْميَّة الْحِياديَّة، إنَّ التعبير بِـ«أسلمة المعرفة» يوحي بِفَرض تَحيُّزٍ ما على النَّشاط المعرفي للفِكر، وهو ما تنأى عنه طبيعةُ منهج المعرفة من حيث هو»[8].

كما استعمل أبو سُلَيمان، وهو من كبار مؤسِّسي مَشْروع «أسلمة المعرفة»، مصطلح «وحدة المعرفة الإسلامية» للخروج من هذا التّحيّز؛ يقول: «ومضَتْ بِي سنون في التّدريس الجامعيِّ، بذلْتُ فيها جهدي؛ لكي أُجَسِّد رؤيةَ منطلقات إصلاح الفِكْر والوجدان، والتي هي رسالةُ الْمَعهد وغايته؛ وذلك انطلاقًا من مُواجهة «أزمة الفِكْر الإسلامي» بواسطة تَحْقيق «وحدة المعرفة الإسلاميَّة»؛ نصوصًا ورؤية، وقِيَمًا ومفاهيمَ، وعِلمًا اجتماعيًّا وحياتيًّا، وتَجسيدًا للفطرة الإنسانية السَّوية، والسُّنن الكونيَّة واقعًا زمانيًّا ومكانيًّا، ومُواجهة أزْمة الإرادة والوجدان للمُسْلم، التي تكمن في مَجال التّربية ووجدان الطُّفولة»[9].

إنّ تغيير مصطلح «أسلمة المعرفة» بمصطلح «أسلمة النّفس»، أو «وحدة المعرفة» لا يُزيل الإشكال في نظري، بل يعمّقه أكثر ممّا سبق؛ لأنّ «وحدة المعرفة» تعني جمع كل المعارف غثّها وسمينها في بوتقة واحدة، صحيح أنّ الإسلام يدعو إلى المعرفة ويحض عليها، ولكن المعرفة التي فيها خير للإسلام والمسلمين، ومصطلح «وحدة المعرفة» في حدّ ذاته لا يترك حدًّا فاصلًا للتّفريق بين ما هو سلبي يجب الحذر منه، وما هو إيجابي يجب التّمسّك به، إلّا إذا حوصر هذا المصطلح بالرؤية الإسلامية.

وللخروج من هذا المأزق لا بدّ أن نؤمن بأنّ المعرفة يجب أن تكون تكامُليّة كما كانت في العصور الأولى، والتي تجسّدت في العقل الموسوعيِّ الشّامل لشتّى المعارف؛ منها ما يتعلّق بالوحي، ومنها ما يتعلّق بالكون، ومنها ما يتعلّق بالإنسان، ومنها ما يتعلق بالواقع المعيش ومتغيّراته الإنسانية؛ لذلك أضحى في الوقت الرّاهن -المتّسم بالتّطور السّريع، والمتشعّب بتعدّد التّخصصات الدّقيقة- الإلمامَ بشتّى العلوم، والإيمانَ بتكاملها، وعدم حصر المعرفة في قالب أو أيديولوجية معينة.

في ختام هذا المقال نخلص إلى أنّ الأمّة الإسلامية تُجمِع على أنَّ مستجداتِ العصر أحدثَتْ خللًا في الأبنية الاجتماعيَّة، وأحدثت مشكلاتٍ لم تكن قائمةً في الصّدر الأول، ممَّا يستوجب مواجهتَها بمشاريع فكريّة وعلميّة من قبيل «أسلمة المعرفة»، لكنّ بعضَ العلماء يرون بطلان هذه الدّعوة؛ باعتبارها انتقاصٌ من الشريعة، وقولٌ بعدم كمالها وتمامها وعدم كفايتها في مواجهةِ تغيُّرات العصْر، وباعتبار هذا المشروع زَادَ في الدِّين وأفسدَه، وخلطه بما لم يأمر الله به، وبين هذا وذاك برز رأي آخر دعا إلى الإيمان بتكامل العلوم والمعارف، بعيدًا عن التّحيز، وبعيدًا عن حصر المعرفة في بوتقة الدّين أو الأيديولوجية.

___________________________________________________________________________________________

* أستاذ باحث في مجال حوار الحضارات ومقارنة الأديان، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات السامية ومقارنة الأديان من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، عضو مختبر الدراسات الدينية والعلوم المعرفية والاجتماعية، فاعل جمعوي وحاصل على مجموعة من الشواهد التقديرية بفعل المشاركة في عدد من الندوات والملتقيات الأدبية والفنية.

[1] – انظر: بليل عبد الكريم، أسلمة المعرفة: إعادة صياغة المصطلح، شبكة الألوكة، 18/01/2011.

[2]- طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي: مدخل إلى نظم الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، لبنان،2009، ص: 119.

[3]- نزار العاني، الإسلام وعلم النفس: مسرد لبحوث ودراسات التأصيل الإسلامي لعلم النفس، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، لبنان، 2008، ص: 118.

[4]- إسماعيل راجي الفاروقي، أسلمة المعرفة: المبادئ العامة وخطة العمل، ترجمة: عبد الوارث سعيد، دار البحوث العلمية، الكويت، 1983، ص: 33.

[5]- نزار العاني، محددات أولية لمنهجية أسلمة المعرفة: نظرة مضافة، مجلة التجديد، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، السنة الثانية، العدد الثالث، فبراير 1988، ص: 125.

[6]- سورة الزمر، الآية:9.

[7]- انظر: علي حرب، الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 2010، ص: 162-163.

[8]- انظر: المعهد العالَمي للفكر الإسلامي، المنهجيَّة الإسلامية والعلوم السُّلوكية والتّربوية، واشنطن، الطّبعة الثّانية، 1994، ص: 94.

[9] – عبد الحميد أبو سفيان، الرؤية الكونية، الحضارة القرآنية، المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، 2008، ص:9-10.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى