أزمة المناهج في التّعليم الشّرعي الجامعي
بقلم الشيخ محمد خير موسى
لا بدّ من التّأكيد على أنَّ أزمة المناهج في التّعليم الشّرعي الجامعي جزءٌ طبيعيّ من أزمة المناهج في تخصصات العلوم الإنسانيّة الجامعيّة عمومًا، وجزءٌ من الأزمة التي تعيشها البلاد العربيّة في التّعليم بمراحله المختلفة.
غير أنّ تخصيص مناهج التعليم الشّرعيّ بالحديث نابعٌ من أهميّة هذا التعليم في بناء المجتمع المصطبغ بالصّبغة الدينيّة، إضافةً إلى كون خريجي هذه الكليّات يقدّمون أنفسهم ويقدّمهم النّاس بوصفهم أحد أهمّ أصناف قادة الرّأي في المجتمع.
والحديث عن أزمة المناهج لا يمكن الإحاطة به في مقال أو بضعة مقالات، بل هي إشارات لأهمّ تجليّات الأزمة في هذه المناهج.
• عالقةٌ في الماضي؛ غائبةٌ عن الحاضر
فرقٌ كبيرٌ بين التّعلّق بالماضي والعلوق فيه، فالتّعلّق بالماضي لا يكون سببًا للغياب عن الحاضر، والتقوقع في دهاليز الأحقاب السّالفة، بينما العلوق في الماضي هو السبب الرّئيسُ في الغيبوبة عن الواقع المُعاش.
ما تزال الكثيرُ من مناهج التعليم الشّرعيّ الجامعيّ عالقًةً في الماضي من حيث الأحكامُ وأمثلتها، ومن حيث الإسقاط على الوقائع وربطها به.
فلم تستطع هذه المناهج طيّ صفحة الأمثلة التي لم تعد موجودةً في بيئة المتعلّم؛ وهي كانت تناسب حقبةً زمنيّة ألّفت كتب العلوم الشرعيّة فيها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ ما تزال أحكام الرّق والعبيد حاضرةً بتفاصيل أحكامها الفقهيّة؛ لا بوصفها قضيّة تحتاج الفهم في سياقها الزّمنيّ وبيان آليّات التّعامل الفكريّ مع الاتّكاء عليها لمهاجمة الإسلام.
كذلك ما تزال الأمثلة في أحكام السياسة بعيدةً في كثيرٍ منها عن الواقع؛ فما تزال القسمةُ الثّنائيّة إلى دار الإسلام ودار الكفر هي المهيمنة على المناهج في ظلّ تغيّر الواقع السّياسي في العالم كلّه وتبدّل خرائط الأحقاب السّالفة إلى خرائط أكثر تعقيدًا وتشابكًا.
وكم هو مستغرب أن تبقى أبواب الطّهارة في مناهج معاصرة تتحدّث عن قضايا ما عاد النّاس يعرفونها كالاستجمار بالعظم ونحوه.
وأليسَ من العجيب أن يبقى الحديث عن حكم إجارة الدّابّة في وقت غدا فيه استئجار الطائرات أمرًا متعارفًا عليه والعالم مقبل على استئجار المركبات الفضائيّة؟!
من الطّوامّ الكبرى أن يكون الطلّاب في قاعاتهم الجامعيّة عالقين في أمثلةٍ على الأحكام الشرعيّة التي يدرسونها لا تمتّ لواقعهم بكثير صلة بينما يموج العالم خارج هذه القاعات بالمتغيّرات المتسارعة في ميادين السّياسة والاقتصاد والمجتمع، وبالوقائع التي تفجّرها التكنولوجيا كلّ يوم ويقفُ النّاس أمامها حائرين في أحكامها الشّرعيّة.
هذا الواقع الجديد الذي تتكاثر فيه القضايا الجديدة، والذي يشهد تحوّلات جذريّة على مستوى العلاقات السياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة ونظام الأسرة والواقع الشّبابي يحتاج إلى مناهج تكون على مستوى بناء طالب علم شرعيّ قادرٍ على فهم هذا الواقع من حوله والتّعامل معه شرعيًّا.
• غياب العلوم الإنسانيّة
يقدّم علماء الشّريعة أنفسهم ويؤكّدون على طلّابهم دومًا بأنّهم أهمّ قادة الرّأي المجتمع، ولكنّ هذا يصاحبه غيابٌ لأهمّ مفاتيح العلوم الإنسانيّة التي لا يمكن لأحدٍ أن يكون قائد رأي مؤثّرًا وفعّالًا في المجتمع وهو غائب عنها.
كيفَ نتوقّع من طلّاب العلوم الشرعيّة أن يكونوا هم الأكثر تأثيرًا في واقعهم ومجتمعهم ومناهج التّعليم الشّرعيّ تكاد تكون قاصرةً على الكتب الشرعيّة وبعض الكتب القانونيّة؟!
لا نجدُ في كثيرٍ من مناهج التّعليم الشّرعيّ الجامعيّ مدخلًا إلى علم الاجتماع أو مدخلًا إلى علم النّفس أو مدخلًا إلى علم السياسة أو علم الاقتصاد أو علم التربية أو علم التّاريخ أو علم الإدارة أو الإعلام والتّواصل أو غيرها من العلوم الإنسانيّة الضّروريّة لفهم المجتمع والتّعامل معه.
طبعًا ليسَ المقصود على الإطلاق أن يكون طلّاب الكلّيات الشّرعيّة متخصّصين في هذه العلوم بل أن يتم تمليكهم مفاتيحها وفتح النّوافذ لهم للإطلالة عليها من خلال مداخل عامّة تجعلهم أقدر على التّعامل مع هذا المجتمع الذي نريد لهم أن يكونوا قادة الرّأي فيه.
• كثافةٌ لا تكثيف؛ وفقدان ترابُط
تعاني المناهج الجامعيّة في كثيرٍ من الكليّات الشّرعيّة من الكثافةِ والتّطويل الكمّي على حساب التّكثيف النّوعي، ممّا يجعل الطّالب مستهلكًا في المطوّلات والحفظ الكمّي.
كما تعاني كثيرٌ من هذه المناهج من غياب التّرابط والتّنسيق بين مفرداتها، ويعودُ ذلك إلى إشكالٍ في تنظيم المعارف المتضمّنة داخل المساق نفسه من جهة، وإلى إشكالٍ في التّنسيق بين مساقات المنهاج المختلفة من جهةٍ أخرى.
وسبب ذلك هو غياب الرّؤية الشّاملة والتكامليّة للمنهاج، ممّا يوقع الطّالب في مصيدة التّكرار الذي لا طائل منه ولا يغطّي القضايا من زوايا نظر مختلفة.
كما يجعله غير قادرٍ على التّحصيل النوعيّ بسبب استنزاف الطّاقة في هذه المناهج.
إنّ وضوح الأهداف وتكاملها وتركيزها هو الذي يضمن أن نتحوّل من حالة الكثافة الكميّة إلى التّكثيف النّوعيّ في المعارف التي يريد المنهاج بناء طلّاب العلوم الشّرعيّة عليها.
• غياب ملكة النّقد وعدم البناء على الإبداع
عندما أبدع العلماء القدامى مناهج النّقد في علوم الحديث، وعندما أسسوا لقواعد الاجتهاد في علم أصول الفقه؛ فإنّهم بذلك بنوا في طلّابهم ملكة النّقد وحوّلوهم من مجرّد نسخ من الكتب التي يدرسونها إلى شخصيّات قادرةٍ على تحويل علوم الشّريعة إلى علوم متحرّكة من خلال التّدافع العقلي بالتفكير والمحاججة.
لكنّ المناهج في الكليّات الشرعيّة اليوم غدت تعتمد مبدأ تلقّي المعرفة لا إبداع المعرفة.
ومن أجلى صور هذا هو تحويل علوم الآلة من وسائل إلى غايات قائمة بذاتها؛ فأصول الفقه وأصول التفسير ومنهج النّقد في الحديث هي علوم آلة ينبغي أن تكون وسائل لتفجير الإبداع الشّرعي وبناء الملكة النّقديّة.
لكنّها تحوّلت مع الأسف إلى علوم غاياتٍ يتلقّاها الطّالب بالحفظ والدراسة والتوغّل في تفاصيلها والغرق في أمثلتها المحفوظة دون استخدامها في الإبداع المعرفي.
وقد نبّه ابن خلدون إلى ذلك في مقدّمته متحدّثًا عن علوم الآلة حيث يقول:
” وهذا كما فعل المتأخّرون في صناعة النّحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنّهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التّفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيّرها من المقاصد وربّما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللّغو وهي أيضًا مضرّة بالمتعلّمين على الإطلاق لأنّ المتعلّمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيلِ الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟”
إنَّ بناء المناهج التي تنمّي في طلّاب الكليّات الشرعيّة مهارات التّفكير، وملكة النّقد، وتفتح لهم أبواب الإبداع على مصاريعها هو من أهمّ وسائل إطفاء الشّذوذات التي تطفو على السّطح الشّرعيّ باسم الإبداع.
إنّ إعادة إنتاج المناهج الشّرعيّة وفق رؤية تجديديّة تقوم على الانطلاق من الماضي دون العلوق فيه، والتّعامل مع الحاضر ومستجدّاته، والواقع ومسائله، والمجتمع واحتياجاته، وبناء طالب العلوم الشرعيّة المتملّك مداخل العلوم الإنسانيّة لفهم المجتمع، والمبنيّ على قواعد التّفكير والإبداع؛ لهو حاجةٌ ماسّة في هذا الواقع المتغيّر الذي لا ينتظرُ أحدًا ولا يرحمُ متباطئًا.
(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)