مقالاتمقالات مختارة

أخلاقيات الفروسية الإسلامية

أخلاقيات الفروسية الإسلامية

بقلم أ. د. عبد الرحمن علي الحجي

اليوم تقوم المعرفة بالفروسية على وقائعها العملية المشاهَدة في أحداثها، أكثر مما لدينا عنها مِنْ كتابات بقيت، المعروف منها متناثر، يبدو أنَّ هناك كتاباتٍ في صفحات المؤلفات والدفاتر والمخطوطات، لعلها تنتظر الظهور.

إسلامياً هي انبثاقاتٌ أتتْ ثمارُها مِنْ جَنَى تلك الشجرة الخضراء الباسقة السامقة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، أَلِفَت الحياةُ الإسلامية هذا الوجودَ واصطحبته، خلال مسيرتها المباركة، تتعامل به في كل الأحوال، تصونه تتبناه سلوكاً وتُقَدِّمه فكراً وتنشره عِطْراً، ليذهب في الآفاق يُقْبِل عليه مَنَ شاء كيف شاء.

هكذا أقبل عليه مِنْ أَقْبَلَ إعجاباً به، مارسه مُفْرَغاً مِنْ محتواه، يوم لم يأخذه كُلاً، بمُقَوِّمه الذي شاده ومَهَّده ورعاه، أعني: أرضيتَه المغروس فيها، حيث إنه إحدى ثمار البناء الإسلامي، القائم على منهج الإسلام عقيدة وشريعة، ظهر لمَنْ أُعْجِبَ بجماله، حتى إذا ما تثلم وانتثر وانكسر مِنْ جوانبه ما انكسر، أصبح هشيماً ذَرَتْه الرياحُ ولم يثبت، ما كان أنْ يثبت، منذ لم يُؤْخَذ بكليته بتربته ونبته، ليبقى على أصالته، يستمد مِنْ ذات بنائه، يتجدد كلما اعتورته الحادثات، ليعود إلى ذاته، دون خوفٍ مِنْ فَناء.

ربما لا يخلو هذا الحديثُ مِنْ تجريد، لكنه تنظير بل تقنين قائم على الارتقاء العلمي المُتابِع، يقرأ الغَوْرَ ويَسْبِر العُمْقَ البعيد، يُسْتَنْتَجُ منه أنَّ الفروسية خُلق وهيبة عالية لا تكون سيفاً وفرساً، يصول في أرض فسيحة كيف شاء، ذلك وغيره مِنْ مستلزماته الظاهرة المرئية، لكن لا يعني أنْ تكون مظهراً لما يقودها ويوجهها إلى كيفية استعمالها محافظاً على أخلاقياتها، هذا فارق بين الفروسية الإسلامية وغيرها، عرفها الآخرون الذين اقتبسوها.

ليس كُلُّ مَنْ أجاد ركوبَ الخيل فارساً أو فارسة، كم مِنْ راجلٍ يُعَدُّ مِنْ خير الفرسان، بما يحمله مِنْ خلقيات، تكسوه جمالاً على الدوام، لعله يمكن اعتبارُه هكذا لكل مَنْ تَخَلّق بأخلاقها وإن كان راجلاً، أخلاق تظهر في ركوبها وخوض معتركاتها، بنوعية أدائها والتزامها، تُفاخِر به الفوارس:

فكأنها وُلِدَت قياماً تحتَهم

وكأنهم وُلِدُوا على صَهَوَاتِها

ارتقاء الخيل لوازم الفروسية، لتَظْهرَ خلال حركته المواصفاتُ، عَرَفَ تاريخُنا ذلك مبكراً عاماً للرجال والنساء، أليست خولة بنت الأَزْوَر(35هـ) واحدة مِنْ أكابرهم وأسرتها، كأخيها ضِرار الذي استمر يقاتل في اليَمامة، حتى بعد أن قُطِعَت ساقُه، يقاتل حَبْواً والخيلُ تطؤه وتدوسه حتى استُشْهِد، كانت خولة مِنْ أشجع نساء زمانها، إلى حد أنها كانت تُشَبَّه بخالد بن الوليد، الذي كان إذا بارز أحداً وسقط سيفُه يتوقف حتى يأخذ الآخرُ سيفَه، كذلك مبايِعات العَقَبَة، عفراء بدر وبَنِيها، أم سعد بن مُعاذ التي وقفت على سطح منزلها تستعجله إلى غزوة الأحزاب (شوال السنة الخامسة للهجرة) قائلة له: لقد تأخرتَ يا سعد، أَقْدَم مسرعاً مهرولاً يُنْشِد:

لَبِّثْ قليلاً يَشْهَد الهَيْجا حَمَلْ

لا بأسَ بالموتِ إذا حانَ الأَجَلْ

أم حكيم (14هـ) بنت الحارث بن هشام الصحابية الباسلة، دَعَتْ زوجَها عِكْرِمة بن أبي جهل إلى الإسلام فأسلم، بعد استشهاده أعرست لخالد بن سعيد ليلةَ معركةٍ في الشام، اسْتُشْهِدَ فيها خالد هذا، غَدَتْ تقاتل فيها، وما يزال عِطْر عُرسها يفوح، اشتد الأمرُ على المسلمين فقتلت عدداً من جنود الروم بعمود خيمة عرسها!

جَرَى ذلك في العالم الإسلامي كافة، مشرقه وفي مغربه، في الأندلس انظر إلى جميلة بنت عبدالجبار بن راحلة الفارسة التي قارعت الفوارس، كانت تدعو أخاها محموداً، إذ خالف أهله فأفلحت فيه.

هؤلاء وأمثالهم في ميدان الشجاعة والكرم والشهامة والنبالة والغَيْرة والمروءة والاستعلاء على الدنايا والأخذ بأعلى المزايا، عوناً وبذلاً وتواضعاً، ترى عليهم ذلك واضحاً، زاهياً في الميادين، مِنْ كُلِّ لون وحين، كان العلماء -الشيوخ أهل الفروسية- مع الناس، تراهم وقت الشدة أكثر منه يوم الرخاء، تجدهم للناس كهفاً يبذلون ما يملكون، رعايةً للمجتمع كُرماء بالمال والمجهود والعِلْم؛ تَلَقِّياً وبَذْلاً وسِعياً إلى الناس، تلمحهم مثل الآخرين حتى إذا جد جدهم رأيتهم فرساناً بلا مثيل ولا عديل، ألم يُوصفوا بأنهم رهبان في الليل فرسان بالنهار؟ أليس هؤلاء وأمثالهم مَن عَناهم الشاعر بقوله:

فَدَتْ نفسي وما مَلَكَتْ يميني                 فوارسَ صَدَّقت فيهم ظنوني

فوارسَ لا يهابون المنايا                           إذا دارت رَحى الحربِ الزَّبُونِ

غدت كلمةُ الفروسية مصطلحاً يحمل في طياته معاني ومضامين مترقية، فيها من الالتزام الحقيقي الذي لا يتخلى ولا يحيد، رغم ما يحمله مِنَ المرونة المتجددة، تدور في آفاق الثوابت، تُضْفِي عليها جمالاً ورقة وأناقة، محتفظة بمغزاها المقصود المُلتَزِم بالمعنى الحقيقي، الذي لا يُشاب ولا يُعاب ولا يُذاب الواجب الحفاظ على مدلولها.

على ذلك، فإن للفروسية الإسلامية أخلاقياتِها المترقيةَ النموذجية المثالية، مرتبطة بالله تعالى وبمنهجه، حتى لكأن الخيل هي أيضاً غدت لها سلوكاً، تستمده من أهلها عند ذاك فتوصف:

والخيلُ تَهْفو إلى الفرسان تحملهم               كأنها جُنِّدَتْ للدين أعوانا   

نُقِلَ من هذه الفروسية الإسلامية -عَبْرَ الأندلس والحروب الصليبية في المشرق الإسلامي– إلى أوروبا، غدا وقتاً ممارَساً عندهم، لقرب زمن انتقاله، لكن لأنها أُخذت ونقلت مبتوتة مقطوعة عن أصلها ومبناها، ضاع أثرها أو كاد، بعد مدة ذهب معناها وتلاشى أَثرُها، بقي تاريخاً وحديثاً وذكرى، أو شعاراً ورواية وإشارة، بل انقلب –أحياناً في أحسن الأحوال، وربما كلها- إلى ضده وقد يختفون خلفه لممارسة البشائع، يَسْرِي هذا على كُلِّ القِيَم والمُثْل والتعاليم، حتى المناهج الدينية، التي يجري الاحتيال عليها.

تَوافر مِنْ خلال المتابعة المستمرة المثابِرة المتريثة، في أُمَّهات مصادرنا، التعرفُ على مواصفات الفروسية، المزيد مِنْ نماذجها الفذة المتنوعة النادرة، اعتلت دوماً وبقوة صَهَوَات الجياد –معنىً ومبنىً– جهاداً إجادة وريادة، تتزَيَّا بذلك في الميادين، زاهية بها متوجة، تعلوها أكاليلُ التميز المتفرد، فَخُورَة بالتزامها، عالية الهامات مرفرفة الرايات، شهوداً لا يعرف الشرود، حاضراً على الدوام، مِنْ غير أنْ يُضام وبأعلى التزام، تجاه كافة الأقوام، ها هنا مثال نموذجي جَمَعَ تلك الصفات العشر المُعْتَمِدة في حضارتنا، عنها نُقِلت واعتُمِدها الآخرون، ثم تردت عندهم، إذ هي في تاريخنا خلق متين وذخر حصين وسلوك قائم بمنهج مُلْزِم لدين، مجتمعاً وأفراداً وافرين. 2019-12-09_08h10_44.png

أبو عثمان سعيد بن سليمان بن جودي بن أسباط بن إدريس السعدي (284هـ/ 897م)، كان شجاعاً بطلاً وفارساً مِحْرَباً(1)، تصرف مع فروسيته في فنون العلم وتحقق بضروب الأدب، أديباً نِحْريراً وشاعراً مُحْسِناً، تُعَدُّ له عَشْرُ خِصال، تَفَرَّد بها في زمانه لا يُدْفَع عنها: الجُودُ والشَّجاعةُ والفروسية والجمال والشعر والخطابة والشدة والطعن والضرب والرماية(2).

كان عرب إسبانيا (أهل الأندلس المسلمون) يَتَّصِفون بالفروسية المثالية خلا تسامحِهم العظيم، وكانوا يرحمون الضعفاء ويَرْفُقون بالمغلوبين ويقفون عند شروطهم وما إلى هذا من الخِلال التي اقتبستها الأُمم النصرانية بأوربة منهم مؤخراً، فتُؤَثِّر في نفوس الناس تأثيراً لا تؤثره الديانة، وللفروسية العربية شروطها كما للفروسية الأوروبية التي ظهرت بعدها، فلم يكن المرءُ ليصير فارساً إلاّ إذا تَحَلَّى بهذه الخِصال العشْر: الصلاح والكرامة ورِقَّة الشمائل والقريحة الشعرية والفصاحة والقوة والمهارة في ركوب الخيل والقدرة على استعمال السيف والرمح والنُّشَّاب، ونرى تاريخ العرب في إسبانيا حافلاً بالأنباء الدالة على كثرة انتشار تلك الخِصال، ومن ذلك أن والي قرطبة لما حاصر، في سنة 534هـ/ 1139م مدينة طليطلة التي كانت بيد النصارى أرسلت إليه الملكةُ بيرِنُجِر (برنجيلا)، التي كانت فيها مَن بَلَّغه أنه لا يليق بفارسٍ بطلٍ شهم كريم أن يُحاصر امرأة، فارتدّ القائد العربي من فوره مُحَيْياً الملكة(3).

هذه الحادثة النادرة: حصار مدينة طليطلة ثم فكه عنها اختياراً(4)، ستبقى مدى الدهر محل إكبار وريادة وشموخ وإشادة خالدة، وهي لا يمكن أن تحدث إلا في حضارتنا، ربما هي متكررة فيها هناك، لو كانت مع آخرين لكان فيها لأي جيش فائدتان:

1- في المدينة نساء.. أليست هي فرصة؟!

2- إذن سهل أخذها، لكن أخلاق الفروسية التي أقام الإسلامُ أهلَه بها، يأبى إلا تقديم هذه الصور الكريمة، والآخرون يعرفون ذلك، فأفلحوا بذكره وتمت به نجاتهم ليتحقق لهم ما عجزت الجيوش أن تفعل جزءاً منه، فما كان من القائد إلا أنْ أصدر أوامرَه بفك الحصار عن مدينة طليطلة التي كان فتحها والانتصار قاب قوسين أو أدني بكل تأكيد، اختار القائد المسلم انتصارَ القيم الإسلامية على الانتصار العسكري، استجابة للسمت الكريم وتمشياً مع مبتغيات منهج الإسلام، كان التصرف المقبول لديهم المنسجم مع مبناهم، له كان ذلك الجهاد، لم يعارضه الجند، بل كانوا به منتشين، أليس ذلك شيئاً فريداً، لا يتم بغير هذا المنهج الكريم.

ذاعت خصال الفروسية تلك بين النصارى، ولكن ببطء، ويمكننا أن نتمثل ما كانت عليه الفروسية النصرانية في القرن الحادي عشر عند النظر إلى أمر «ألكنبيطور رودريك الفيفاري»، لم يكن هذا البطل الشهير الذي تغنى به الشعراء كثيراً سوى رئيس عصابة بالحقيقة، أي كان محل مزايدة، فيبيع نفسه تارة وتارة أُخرى، ومما حدث أن دخل مدينة بلنسية صُلْحاً فلم يحجم عن حَرْق حاكمها الهَرِم على النار لِيُكْرِهه على كشف ما كان يظن وجوده في القصر من الكنوز، هذا يمثل من الفرق العظيم بين سنيورات النصارى وأشياعِ النبي صلى الله عليه وسلم.

دواوين حضارتنا مليئة بالصيغ الشماء وبألوان الصبغ، التي تنبع مِنَ المنهج الكريم الإسلامي الرباني، تقوم مُسْتمِدة مِنْ تعاليمه السمحة الداعية إلى المسالمة والمحبة والتسامح عقيدةً وشريعة، لا تزول ولا تحول ولا تجول بعيدة بل تعود -كلما انحلت عروة- إلى دائرتها وولائها وضيائها، لا تخشى إلا الله تعالى لا تخاف فيه سبحانه لومة لائم، كانت ساحاتها فسيحة مزدانة مليئة بكل جميل، وما تَقَدّم هنا نموذجٌ مُعَبّر عن حاله يقول منادياً: يَكْفي من الحُلْيِ ما قد حَفَّ بالعُنِقِ.

 

 

___________________________________________

(1) خبير بالحرب شجاع.

(2) الحُلَّة السِّيَراء، ابن الأبَّار، 1/155- 156، نقلاً عن ابن حَيَّان. المقتبس، ابن حيان، 1/1/196. المُغْرِب، ابن سعيد، 2/105-106).

(3) حضارة العرب، غوستاف لوبون، ص 278.

(4) نفح الطيب، المَقَّري التلمساني، 1/443-444.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى