بقلم الأستاذ حشاني زغيدي
يبدو أن تصورنا لمفهوم الإعاقة من حيت التسمية والمفهوم يحتاج منا أن نعيد بلورته بمفاهيم جديدة، تستوعب الحراك الذي يصنعه أصحاب التميز من المعاقين الذين كانت لهم البصمة في الحياة من خلال الابتكارات والمشاريع.
ونحن نستقصي التاريخ نرى نماذج رائدة صنعت أحداثاً غيرت مجرى التاريخ بإضافات نفعت الإنسانية، وقادة لحركات تحرر ضربوا أروع المثل في خدمة الإنسانية والقضايا العادلة لمجتمعاتهم، حتى أصبحوا قدوات عند الجميع.
إن هؤلاء تجاوزوا كل تعاريف الإعاقة، فهؤلاء تحدوا قدرة الفرد العادي بإنجاز وظائف صعبة أبهروا بها أصحاب القدرات العادية فكانوا رواداً وقادة مميزين.
حكاية الشهيد
إنها قصة، ولكن ليست كأي قصة؛ حيث تبدأ القصة مع الميلاد سنة 1936م، وفي قرية “الجورة” بالتحديد بعسقلان بفلسطين المحتلة، فتى شارك اليتم حياته في سن الخامسة من العمر فيحرم رعاية الوالد ثم تزيد قساوة الأيام بنكبة عام 1948م، لأسرة فقيرة معدمة فترغم الأسرة الفتى قصراً وتهجيراً وإبعاداً مع أهله إلى غزة هاشم، وتتوالى المحن على الفتى ولم تمضِ سوى أعوام فيتعرض الفتى اليافع المملوء برغبة الحياة وهو يمارس هوايته كأي فتى من عمره يمارس الرياضة على شاطئ القطاع، فيصاب بشلل شبه كامل في جسده، وقد تطور هذا المصاب لاحقاً إلى شلل كامل، فلم يثن عزم الفتى أن يواصل المشوار في تحدٍّ لتلك الإعاقة التي في الغالب تكون مانعاً لمواصلة المشوار، لكن عزم الفتى وإصراره كانا أكبر معين بعد عون الله تعالى، فأكمل الفتى تعليمه وأنهى تخرجه، ليكون بعدها مدرساً للغة العربية والتربية الإسلامية في مدارس وكالة الغوث بقطاع غزة.
رجل مقعد لكن بأمة
كان يكفي أن يرضى بهذا النصيب الذي يعد إنجازاً كبيراً لإنسان يصنف من ذوي الحاجات، ولكن الطموح الجامح لإثبات الجدارة في صياغة الحياة وأي حياة، إنها حياة يصبغها التميز في رسم الهدف السامي لحياته؛ فتصبح حياته قصة تشغل الحيارى وتشغل القوم الذين وظفوا أنفسهم في ملاهي الحياة وزخرفها.
فالشيخ اختار أن يكون رجلاً قائداً لرفعة الأمة لنيل العزة والكرامة لتكون الأمة الإسلامية رقماً في المعادلة يحسب له، فأجهد جسمه الضعيف المنهك المحبوس الحركة لصناعة الحركة وتوليد الطاقة غير العادية في نفس الشباب الذي تعهد على تربيته فغرس فيهم الأمل في نصر الله؛ لأن اليائس لا يصنع نصراً، فملأ النفوس بجذوة الأمل المفقودة لظلمة الواقع الذي تعيشه الأمة؛ فكانت الشجاعة التي ميزت الشيخ المقعد صاحب الصوت المبحوح أخرج منها نبرات الأسد في ثبات قل نظيره، يقول في حقه تلميذه القائد الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي رحمه الله: “رجل قرآني يحمل القرآن في حنايا صدره، إنه أنشط من عرفت، يعمل بطاقة عشرة من الرجال ولا يشعر بالملل ولا بالتعب، وهو الرجل القرآني، رجل يحمل القرآن في حنايا صدره وقد حفظه عن ظهر قلب في زنزانته في المعتقل، بينما كنت رفيقه في زنزانته، لقد قلت في مقال خصصته له بأنه رجل بأمة أو أمة في رجل”.
الشيخ الحجة
إن الشيخ حجة على الكسالى والعاطلين والمفلسين والبطالين والمتفلسفة والمنظرين من الذين أغرقوا الأمة بالأوهام والتنظير للأوهام، أو من يعملون في الجحور معاول هدم لا همَّ لهم إلا تتبع عورات العاملين وتيئيس الشباب بزراعة الفتن.
إن هذا الشيخ كان شعلة في البناء، فكان الشمعة التي تنير الطريق للشباب، فكان رجلاً يبني المشروع بيده وفي الميدان يشرف على إنجازه بهمة الشباب.
لقد كان الشيخ شعلة في العطاء يقول تلميذه د. أحمد بحر: “هذا الرجل المشلول كان لا ينام، كان قدوة في بذل الجهد والعمل فإذا خرج للعمل، فإنه يخرج للعمل، وإذا ما جلس فإنّه يجلس للعمل، كان بيته مليئاً دائماً بالناس، كان قدوة حقيقية لكثير من الشباب المسلم بل لكل الحركة الإسلامية، كان عندما يعود من عمله إلى بيته يذهب للراحة وتناول الغداء ولكن دائماً يجد في بيته من ينتظره، وربما يؤجّل طعام الغداء حتى ينتهي من تلبية مطالب الناس، وعلى الرغم من أنّ الأطباء كانوا ينصحونه بألا يرهق نفسه، فإنّه مع ذلك كان يستمع للناس، ويحل مشكلاتهم على حساب صحته ووقته”.
المصدر: مجلة المجتمع.