بقلم محمد بابكر خلف الله – مدونات الجزيرة
امتاز مسار الدعوة النبوية للإسلام الذي امتد لزمن يقارب الثلاث وعشرون عاما بالتميز والكمال، تمييزا جعله يتشرف بنزول القرآن فيه منجما -أي متدرجا- ليبين للمسلمين طريق الهدى وكاملا لأن التطبيق والإرشاد كان تحت عين النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت أقواله الكريمة وأفعاله المهدية وتقريراته الحكيمة سنة تعضد من الكتاب وتوضح ما التبس على الناس وتفصل العام وتشرح الذي استصعب على الفهم.
والقارئ للسيرة يجد التميز والكمال واضحا بين الأمر الشرعي والتطبيق له، فالفهم آنذاك كان واضحا فالرسول كان موجودا بين الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- يشرح ويصحح ويقوم لهم، واستمر الحال على ذلك حتى خطبة الوداع، في تلك الخطبة التي أعلن فيها تمام الدين واكتمال أصوله وفروعه، فكان الصحابة والناس من خلفهم أمام حادثة لها ما بعدها من الأثر العظيم ليس عليهم فقط بل على تاريخ المسلمين اللاحق وحتى اليوم.
قد نزل الإسلام للناس متدرجا في الأحكام والفرائض وقد تم تمامه في خطبة الوداع، وعند وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونزول جسده الطاهر في التراب انقضى الوحي وانقطع حبل السماء؛ ذلك الحبل الذي كان بمثابة دليل للناس إذا اختلفوا، وتفرق الكل الواحد الذي هو الإسلام على الصحابة ومن تبعهم، فكل قد بلغ جهده فيما يجيد؛ فأخذ كل صحابي ما يستطيع حمله من تراث الرسالة وما قدر على حفظه من دين الله، فتقسم الشرع عند الصحابة فكان كل واحد فيهم قدوة في بعض الدين، فالقرآن عند القراء كزيد بن ثابت وأبي بن كعب والفقه عند العبادلة -نسبة لعبد الله بن عمر وعبد الله ابن مسعود- والتفسير عند عبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة الذين صاروا مراجع لبعض الدين.
وقد نشأت تلك الجماعات بمختلف تخصصاتها -إن صح التعبير- متداخلة مع بعضها أحيانا وفي مسارات بعيدة أحيانا أخرى، بمعنى آخر: تداخلت دوائر الاهتمام لدى مختلف التيارات فاستفادت من بعضها في جوانب وتأثرت بفقدان ما ليس في يدها. فمثلا، تأثرت الحركات السلفية بمذهب الحنابلة في الفقه وبقراءة حفص عن عاصم في القراءات، وتأثرت حركات التصوف بمذاهب الشافعية والمالكية وهكذا.
في ظني أن فهم أثر حركة التاريخ على تكون تلك الحركات قد يساعد في فهم ظاهرة نشوء الجماعات نفسها ويساعد في معرفة بواطن الخلل فيها لأن أغلبها نشأ كرد فعل لحدث معين وكلها تسدد وتقارب نحو الصواب.
وملخص الحديث أن الدين بشموله لم ولن تحتكره جماعة واحدة فهما وعلما وعملا وإن ظنت أنها أحاطت به. فحال الجماعات كحال العميان عندما أمسكوا بفيل كل واحد فيهم أمسك بجزء منه وعندما وصفوه؛ قام كل واحد منهم بوصف الجزء الذي أمسك به ظانا أنه الفيل فمنهم من وصفه بالخرطوم وآخر بالذنب وآخر بالقدم .
وحتى لا نصاب بالعمى أظن أنه من الأفضل -لمن أراد الحقيقة- القراءة لكل الجماعات والطرق ومعرفة الخير الذي أجادوا وأبدعوا فيه لعلنا نصل إلى الحقيقة يوما ما فهما على الأقل. إضافة لذلك، تبرز أهمية استصحاب التاريخ عند القراءة لمختلف التيارات وخاصة ما يوثقه من تقلبات سياسية أثرت بشدة على تكون الملل والنحل فبدونه تصير القصة ناقصة وبدونه يظل الفهم لما حدث قاصرا.