أثر الإسلام والمسلمين في الرقي الإنساني والأوروبي
بقلم : أ. د. عبد الحليم عويس
كان الإسلام – دينًا وحضارةً – تحولاً تاريخيًا بكل معاني التحول الحضاري المادي والمعنوي والفكري، إنه – بحق – كان منعطفًا جديدًا في التاريخ الإنساني.
ويعد الحديث عن أثر الإسلام في الرقي الإنساني بعامة، والحضارة الأوروبية بخاصة – حديثًا ممتدًا لا يقف عند حدود التأثير الجزئي في الفروع العلمية، مثل أثر المسلمين في الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء أو الفلسفة أو في علم مقارنة الأديان.. أو في بقية العلوم الإنسانية، بل يمتد لكي يكون تأثيرًا أعمق وأبعد من ذلك بكثير!!
– لقد غيَّر الإسلام مجرى المفاهيم المتصلة بالإنسان، وبالحرية، وبالحقوق، وبالواجبات، وبصلة الإنسان بالإنسان، وصلة الإنسان بالله.. وبصلة الفرد بالمجتمع، والذكر بالأنثى، وبتقدير قيمة المرأة كإنسان وكشريك أساسيّ في بناء الحياة الإنسانية، فضلاً عن تغيير النظرة إلى (العقل) و(الفكر) والحياة، والكون، ووظيفة الدين.
– لقد كان (الإيمان) قبل الإسلام – يقوم على دعوى زائفة، مازال بعضهم يروج لها حتى اليوم، وهي ادعاء أن الوحي يتعارض مع العقل، وأن الدين يتناقض مع العلم، وأن لكل منهما مساره الخاص، فجاء الإسلام ليبطل هذا الادعاء، ويمزج بين الوحي والعقل والدين والعلم: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَقَ﴾، ﴿إِنَّمَا يَخْشىٰ اللهَ مِنْ عِبَادِه الْعُلَمَآءُ﴾.. وهكذا عبر سبعمائة آية أو أكثر يزيل التصور الإسلامي الصحيح الحواجز المصطنعة بين الوحي والعقل وبين الدين والعلم، بل يجعل طلب العلم فريضةً، ويأمر بالنظر في الآيات، في التاريخ الماضي، وفي الكون الحاضر، وفي المستقبل المتوسم (المستشرف) ويجعل كل ذلك (أسبابًا للتقدم والحضارة)، ويجعلها كذلك عبادة لله.
وهذا تحول خطير فتح الأبواب على مصراعيها أمام العقل والعلم وفقه الكون والمستقبل.
* * *
وقد كان الإنسان.. في التصورات الدينية المنحرفة – يغبد الكون ويخافه، ويهبط بمثله لدرجة عبادة الظواهر الطبيعية، وقد قبلت بعض الأديان التكيف مع هذا الوضع الوثني وتأويله، وبحيث ذابت الفواصل بين التوحيد والوثنية، وبين التجريد والتجسيد، وبين ماهو إلهي وماهو إنساني أو مادي.. وفي ظل هذه التصورات لم يكن ممكنًا تسخير الكون وجعله مادةً للبحث العلمي الفيزيائي والجيولوجي والبيولوجي.. أى جعله قابلاً للتشريح ومذللاً مسخرًا للإنسان، وليس إلـٰـهًا أو معبودًا للإنسان، ولكن عقيدة التوحيد الإسلامية والتصور الإسلامي للكون أعادا للإنسان اعتباره، وجعلاه (فاعلاً) وسيدًا في الكون وباحثًا فيه.
– وكانت النظرة الدينية والحضارية (للآخر) الذي لاينتمي للدين أو الحضارة نفسها نظرةً عنصريةً أو عدوانية، أو على الأقل نظرة محدودة لا تشعر بالمسؤولية – في تشريعاتها الدولية والإنسانية – تجاه الآخرين .. فلما جاء الإسلام جعل الخطاب لكل الناس.
* * *
ومعظم الآيات القرآنية تخاطب الناس جميعًا: ﴿يَآ أيُّهَا النَّاسُ﴾ وحتى رسول الإسلام محمد S يحدّد له كتاب الله وظيفته العالمية بقوله تعالى: ﴿وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾، مع الاعتراف الكامل بحق الآخرين في الاختلاف واحترام عقائدهم واجتناب الإكراه.. قال تعالى: ﴿كَذٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ اُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثـُمَّ إلىٰ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُوْنَ مُخْتَلِفِيْنَ إِلاَّ مَنْ رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، مع الإقرار بأن قانون الاختلاف والتدافع سُنة ضرورية لبقاء الكون.. قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾، وهي نظرة جديدة على الإنسانية ونقلة هائلة في التحضر الإنساني.
– بل إن الإسلام (ممثلاً في مصدريه الأصليين كتاب الله وسنة الرسول – عليه الصلاة والسلام هو الدين الوحيد الذي يعترف بكل الكتب المنزلة الصحيحة الخالية من العناصر الأسطورية واللاعقلية واللا أخلاقية، فالقرآن جاء مصدقًا لها فيما هو من عند الله، كما أن الرسول – عليه الصلاة والسلام – جاء – كما يقول هو عن نفسه – خاتم حلقات النبوة، قال – عليه الصلاة والسلام – : «إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنىٰ بيتًا إلا موضع لبنة فيه (….) فأنا هذه اللبنة، وأنا خاتم النبيين»، فالمسلم مطالَب بالإيمان بكل الأنبياء واحترامهم والدفاع عن كرامتهم ورسالتهم الربانية.
* * *
وهي نظرة إيمانية شمولية سمحة تمتد مساحتها للإيمان بالدين كله، والكتاب كله، والرسل جميعًا، وتبحث عن (الحق) و(الحكمة أينما وجدا..!
ومن الجدير بالذكر أن الإجماع العالمي الديني كان منعقدًا قبل الإسلام على عدم تقدير الحق الإنساني للمرأة، بل كان منعقدًا على (دونية المرأة) – أي أنها دون الرجل – بل كان الشك في آدميتها قائمًا في بعض الأحيان، فجاء الإسلام ينتشل المرأة من هذا الظلم العالمي، ويجعلها شقيقةً للرجل، مخلوقة وإياه من نفس واحدة معه بل جعلها صنوًا له في الحق الإنساني والمساواة، وأمام الشريعة الإلـٰـهية، قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّيْ لاَ أُضِيْعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ آل عمران: آية 195.
وقد انطلقت المرأة مع الرجل في ظل الإسلام: فقيهة ومحدثة مجاهدة ومربية، وعلى يد بعض النساء تعلم كثير من الرجال، وأخذوا منهن الإجازات العلمية(!!) كما تروى كتب أعلام النساء).
وفي بجاية عاصمة دولة بني حماد في الجزائر في القرن الخامس الهجري (11م) نوقشت فتاة في رسالة عملية (للدكتوراه) لمدة ثلاثة أيام..!!
وقد كان منطقيًا أن يعتمد الباحثون والباحثات على المصادر العلمية، ولهذا كان العالم الإسلامي عبر القرون التي كانت عصورًا وسطى مظلمة في أوروبا يعج بكثير من المكتبات العالمية العامة والخاصة، وبينما كانت أكبر كاتدرائية في أوروبا لا تضم أكثر من (192 كتابًا) كانت مكتبة الحكيم المستنصر ابن عبد الرحمن الناصر المتوفى سنة (366هـ) في الأندلس تضم أكثر من أربعمائة ألف مجلد (!!) فلنلاحظ الفرق الهائل في العدد.. ولنتذكر هنا مكتبة دار الحكمة في القاهرة.. ومكتبات بغداد العباسية، ودمشق الأموية، ومكة والمدينة، ومدن المغرب واسبانيا وغيرها. وفي جامعة قرطبة بالأندلس تعلم الباباوات، وكان منهم سلفستر الشيباني (باب روما) كما أن (توماس الأكويني) قد استوعب بيقين فلسفة ابن حزم الأندلسي (456هـ) أحد أكبر العقول الإسلامية في علم مقارنة الأديان من خلال كتابه (الفصل في الملل والنحل) كما استوعب فلسفة (ابن رشد) واعتمد عليهما في محاولته غير الناجحة لعقلنة اللاهوت النصراني وإصلاح الأفكار التي تسربت إلى العقائد في أوروبا، وأفسدت كل شيء!!
وبما أن المساجد كانت مدارس والجوامع كانت جامعات، والحركة العلمية كانت موضع تنافس بين الملوك والأمراء والحواضر الإسلامية، فقد ازدهرت حركة الاجتهاد في علوم الدين والدنيا معًا، فبينما ظهر خلال القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ثلاثة عشر مذهبًا فقهيًا، ظهرت كذلك مدارس كلامية فكرية، لغوية، كما ازدهرت علوم المعاش التطبيقية من كيمياء وفيزياء ورياضيات وطب وهندسة وصيدلة. ومعروف أن طبيب «صلاح الدين الأيوبي» هو الذي عالج خصمه (ريتشارد قلب الأسد) بالعقاقير. بعد أن كاد طبيبه يقضي عليه بدعوى أنه مسحور ويحتاج إلى وسائل عنيفة لعلاجه.
وإن أسماء: أبي الريحان البيروني في الجغرافيا والرحلات ومقارنة الأديان، والشريف الإدريسي في الجغرافيا والفلك، وابن سينا في الفلسفة والطب، وابن الهيثم في البصريات (العيون) وابن النفيس في الطب، والرازي وجابر بن حيان في الصيدلة والكيمياء، والخوارزمي في الرياضيات وابن خلدون في علم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
.. هذه الأسماء ليست مجرد أسماء أشخاص، بل هي علامات على تيارات واتجاهات تعلمت منها أوروبا، وتتلمذت عليها، وقررت كتبها قرونًا طويلة.. ولولاها لما عرفت أوروبا ولا كل الإنسانية تراث الإغريق أو الهنود، ولبقيت ترزح تحت نير العصور الوسطى.. لقد نقل العرب التراث الإنساني إلى العالم، ولم يكن نقلهم مجرد ترجمة، بل كان إعادة صياغة، مع الشرح والتعليل، فضلاً عن الإضافة والنقد والتحليل.
– وبغير جهودهم كان من الممكن أن يتغير مسار التطور الحضاري الإنساني، إما إلى تأخر لعدة قرون، وإما إلى توقف!!
(المصدر: مجلة دار العلوم ديوبوند)