مقالاتمقالات مختارة

أبو يعرب المرزوقي يكتب: نفي الحديث.. أو القرآنية من أدلة اللاعقلانية

بقلم أبو يعرب المرزوقي

ضقت ذرعا بنقاد الحديث الذين ذهبوا إلى نفيه جملة وتفصيلا وخاصة من يدعون النزعة القرآنية منهم. وقد سبق أن قلت إن من ينفيها ينبغي إذا كان بحق صادقا الا يدعي هذه النزعة: فنفيها ينبغي أن ينطبق على نص إذا صح أن قصدهم تحرير القرآن مما يتصورونه منافيا للقيم الحديثة التي يحتكمون إليها.

لست حديثيا وليس من العسير أن أحوز أهم مقومات الاختصاص لأن أصعب شرط فيه لم يعد ضروريا أعني الحفظ. فعلماء الحديث المعاصرين كفونا ذلك بأن وضعوه في برامج في المتناول. وليس هذا من همومي وسأكتفي بالاستدلال العقلي. حجج أغلبهم ترد إلى اثنتين وجميع النقدة معرفتهم بالتراث لا يعتد به.

حجج تتعلق بكم عامة وبكم ما يورده أبو هريرة الذي يشككون في مصداقيته. والكم الثاني أعسر اثباتا بالعقل من الأول. فالكم الأول مقبول حتى لو بلغ نصف مليون حديثا ونيف. لأن ما قاله الرسول في تعليم القرآن وقراءته على مكث وفي سياسته للدولة بكل وظائفها في نصف حياته الرسولية معقول جدا.

ففي 23 سنة يمر 364 يوما ونصفا منها أكثر من نصفها كانت عملا متواصلا من الرسول للجهاد بالكلمة والفعل المصحوب ضرورة بالكلام يعني أنه تكلم على الاقل خلال 98926 ساعة. ولو فرضناه قال ما بين 5 و10 أقوال صارت أحاديث عند قوم ذوي ذاكرة ويؤمنون بأنه لا ينطلق عن الهوى لكان ذلك معقولا.

واثبات الكم المتصل بروات أبي هريرة حتى لو سلمنا بأن قد بالغ لأن مدة معاشرته للرسول قصيرة فإنها مؤيدة بالكم السابق وإذا صح التشكيك فيما يروي فليس في نسبته إلى الرسول بل في نسبته إليه مباشرة. ولعله لفرط تصديقه من روى له من الصحابة نسب إلى نفسه المباشرة ولم يكذب بخصوص الحديث.

ولما كان أصحاب الصحاح غير سذج كما يتوهم النقدة الجاهلين بالعلم دراية ورواية فإنهم قد اعتمدوا منهجية نقد الوجهين بحيث إنهم قد سبقوا نقد النصوص الحديث في الكثير من فنيات هذا العمل ومن ثم فالتشكيك بات من أوهام النقدة الذين يدعون-نفاقا-أنهم يرفضون الحديث لتنزيه القرآن من بعض ما فيه.

ولو كان كلامهم يحقق ما يدعونه من دون المساس بنصف القرآن على الأقل أي القرآن المدني الذي يتضمن الاحكام لقبلنا باحتكامهم إلى معايير الحداثة في تقييم قيم القرآن وأحكامه. قد أقبل أن يكون التالي من المعلومات أتم من السابق بسبب تقدم المعرفة. لكن الامر لا يتعلق بالمعرفة العادية.

فما يراد -تسليما بصدق مدعينه-التخلص منه ليس مقصورا على الحديث بل هو كما أسلفت جزء لا يتجزأ من القرآن المدني لقبلنا ولو جدلا أن ذلك معقول. لكن تحكيم الحاضر العلماني في الماضي الديني الذي لا يمضي بمضي ظرفه من كما يتصور “العقلانيون”. فما يبدو يرونه تناقضا يفترض علمهم محيط: غباء لا عقل.

وما داموا يقولون بالتأويل فهم يتناقضون: في المعرفة التأويلية منطق التناقض والثالث المرفوع لا يقبل بل هو مقصور على المعرفة التحليلية. ولو كان هذا المنطق يصح على التأويل لما وجد فرق بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان. ومن عجائب الدهر أن كل أدعياء النقد الديني العرب لا صلة لهم بالعلم.

كبارهم من الآداب العربية. وهم “يتلطون” على الفلسفة واللسانيات ولا يعلمون من كل ما يذكرونه من مراجع ومصادر إلا أسماءها وأسماء كتابها. ولعل أركون أكثر دلالة على ما أدعي. فما رأيته قدم عملا وحيدا يدل على أن ما يتكلم عليه يعلم أسراره التي يشيب منها رأس الأذكياء فضلا عن الأغبياء.

وفي الحقيقة فنفاقهم يجعلهم يزعمون نقد الحديث لكأن المحدثين لم يسبقوهم إلى نقده. ولست أدعي أن نقد الحديث انتهى وأنه لا يحقق للتالين أن يراجعوا آراء السابقين. وفي هذا المضمار لا أميز بين مؤمن وغير مؤمن بالحديث أو حتى بعصمة الرسول لأنه لم يدع العصمة في غير التبليغ: الدليل يشاور الصحابة.

وهو لا يشاورهم شكليا بل فعليا لأنه يعمل بآرائهم التي تناقض أحيانا ما تبادر إلى ذهنه ثم تراجع عنه بعد المشورة. ولهذا نهى عن كتابة الحديث في البداية. والذين كتبوه ليس لينتحلوا عليه ما لم يقل بل لمنع الانتحال ولعله كان قد بدأ يسري في الأمة بعد مرور قرنين وتفرق الصحابة والتابعين.

ونأتي الآن إلى صنف الحجج الثاني: ما يراد تنزيه القرآن عنه. فما يراد لا يتحقق بنقد الحديث بل ينبغي إن صح رأي الحداثيين بالاحتكام إلى العلم الإنساني لتقييم العلم النبوي الأقرب إلى فهم القرآن من غيره بسبب كون صاحبه بنص القرآن لا ينطق عن الهوى وبلغه كما تلقاه وحيا يوحى.

فإذا كان الدافع لنقد الحداثيين للحديث هو تنزيه القرآن مما لا يرضى عنه عقلهم أي بعض الأحكام والحدود فينبغي التخلص من القرآن المدني. وغاية السخف القول بالنزعة القرآنية: أي إنهم يعتقدون أن الرسول لم يعلم القرآن أو علمه بالتمثيل الصامت. كل الأديان فيها ما يناظر ثنائية القرآن والحديث

وأكثر من ذلك فالقرآن فيه نوعان هما المكي والمدني وهما في علاقة تشبه علاقة الدستور والقانون المستمد منه والحديث فيه نوعان كذلك هما الحديث العادي والحديث القدسي. ويمكن القول إن القرآن المكي والحديث القدسي يمثلان أصلا والقرآن المدني والحديث العادي يمثلان فرعا.

فالقرآنان (إن صح التعبير) من عند الله وهما الوحي المطلق والحديثان من عند الرسول على الاقل لفظا بالنسبة إلى القدسي ولفظا ومعنى بالنسبة إلى الحديث العادل الذي هو من تراث تعليم النبي للقرآن قراءة على مكث وتفسيرا بالقول وبالفعل في السياسة ببعديها: تربية وحكما سلما وحربا علما وعملا.

وبذلك يتبين أن نقد الحديث ما يزال ممكنا إن كانت نية صاحبها صادقة وعلمية لأن جامعيه لم يكونوا معصومين ومن ثم فنقده ليس تشكيكا في الرسول بل في الرواة والجامعين الذين هم رواة غير مباشرين. ومفهوم “صحيح النقل” التيمي يعني أن اثبات الصحة لا يتناهى ككل ما هو تاريخي.

وما يشككني في نوايا النقدة الحداثيين الجاهلين بفن الحديث هو أنهم يدعون الدفاع عن الإسلام تماما كما يدعي نظام إيران الدفاع عنه وعن أهله بتخريبه ومحالفة أعدائه. فمن يعتقد أن الأديان من أساطير الاولين لا معنى للبحث عن صحة الخبر رواية ودراية لأن ذلك يناقض الزعم بأنه من الاساطير.

ففي هذه الحالة ينبغي أن يسلم الناقد بأن كل ما يؤمن به قوم من الاقوام هو كذلك لأنه في الأصل عنده من صنع خيارهم وتخريفهم. وما كان كذلك -مثل الادب الشعبي-فهو بالجوهر مجهول المؤلف ومن ثم فلا يمكن إثبات نسبه أو نفيه. كل الأساطير مجهولة المؤلف. وهي من جنس الأدب الروائي.

وختاما فنقدهم لا يدل على حصافة النقاد المميزين بين الفنون وخصائصها فلا دراية لهم بطبيعة الأمر فضلا عن تقنيات الفن. ثم إن كل الأديان تعتبر حديث المبلغ أول المصادر ذات المصداقية وهذا يصح حتى في المعارف غير الدينية. فتاريخ العلم مثلا أي علم فيه شيء من هذا يصاحب النظريات العلمية.

(المصدر: جريدة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى